الاثنين، يونيو ٢٨، ٢٠١٠

9 - أيام طويلة ...

.

صحوت ظهيرة اليوم التالي منزعجاً علي صوت عال للغاية لأحدي الممرضات وهي تخبر عم عبدالله بأنه قد تقرر خروجه من المستشفي. وأنهم فد خابروا "أهله" للحضور غداً "لاستلامه". كان الرجل ينظر إليها بدهشة وخوف شديدين ثم يعاود النظر إلي وكأنه يستنجد بي. كررت الممرضة ماقالت وهي ترفع صوتها أعلا كي يسمعها جيداً ويعي ماتقول. ولأول مرة وجدت عم عبدالله ينطق بكلمات قليلة " هل سيأتي أحد من أهلي لاستلامي"؟!!. كرر سؤاله ثم لاذ بالصمت وهو ينظر إلي وقد غمره خوف هائل ارتسم علي وجهه الضامر والحزين. استطعت تفهم خوفه الذي قارب حد الرعب فهو يخشى أن يقرر ذلك النظام المسئول عن علاجه ورعايته "رميه" للخارج، والأدهي ألا يكون هناك أحد من أولاده أو أقاربه حاضراً لاستلامه، مثلما يستلم المرء طرداً أو رزمة لا حياة فيها غير أنها بقادرة علي التأوه والشعور بالألم. وما يزيد الأمر حزناً أنه – وخلال المدة القصيرة التي رافقته الغرفة – لم يكن من زائر يجئ له. ولعله لهذا السبب كان يزداد حيوية كلما جاءت زوجتي وأخوتي لزيارتي وتحيته والسلام عليه. لم يكن يرد عليهم بكلمة مكتفيا بالابتسام والنظر إليهم بتأني ثم معاودة النظر إلي.
ياله من شعور قاتل ويبعث علي الحزن أن يتحول الإنسان إلي "كتلة لا حول لها ولا قوة" يركلها البعض ليستلمها أو يرفض استلامها البعض الآخر.
سألت الممرضة بصوت ضعيف " ولكن الرجل لايزال مريضاً. ليس من حقكم أن تجبروه علي الرحيل دون أن يكتمل علاجه". اقتربت من سريري وحدثتني بصوت أقرب للهمس " ليس له من علاج لدينا. حالته خطيرة، أنها مسألة وقت. فكبده قد تلف تماماً بحيث لم يعد يعمل. وهذا هو سر انتفاخ جسده الضخم ولن يجدي نفعاً أي نوع من العلاجات الدوائية، وبطبيعة الحال فلا يمكن الاقتراب من تلك الحالة جراحياً فبطنه صارت أشبه بالبطيخة الفاسدة، فهي عبارة عن مزيج من الأعضاء التالفة والتي أخذت طريقها للتحلل والفساد. كنت استمع بدهشة شديدة لما تقوله. وجدت نفسي أهمس لها أنا الآخر ودوار هائل يهاجمني معلناً سحبي لمنطقة النوم الآمنة. " يانهار اسود، يعني بطن الراجل صارت مثل "حلة الملوخية الحمضانة". ضحكت الممرضة قائلة "لا يمكننا عمل شئ". قلت بنوع من الإصرار: "ومع ذلك فليس من حقكم "طرده وإعلان هزيمتكم بهذا الشكل المخزي". لا أدري ماهو السر أن يتحول كلامي لنوع من الاهتمام والفهم . فقد وعدتني الممرضة بنقل وجهة نظري لمديرة القسم وربما استطاعت التوصل لقرار آخر. كنت استمع بصعوبة شديدة فيما راح النوم يتسلل إلي لأغفو لساعات.
عرفت فيما بعد أنني صرت طرفاً في مشكلة الإدارة مع عم عبدالله ، لكن وللحق لم تتغير طريقة تعاملهم معي. كل ماهنالك أنهم التزموا الصمت في إخباري بأي جديد ينتظره هذا المريض البائس.
واستيقظ مساءً علي الرائحة الكريهة وشعور برغبة عارمة في التقيؤ لأجد الغرفة مملوءة بعدة رجال يعاونون "أشرف" الذي كان ممسكاً شيئاً ضخما يسحبه من أسفل "عم عبدالله" وهو يسأله إن كان يود إخراج المزيد.!!
الحقيقة أنني في تلك اللحظة وجدت أنني لم أعد أتحمل أي مزيد وأعلنت هزيمتي أنا الآخر، وقررت أنه لا يمكنني الاستمرار بتلك الغرفة ورغبة شديدة تعتريني بتركها حالاً وبأي طريقة، حدثت نفسي – بجدية وانتباه - أنني سأطلب من إدارة القسم لنقلي لغرفة منفردة.
كنت – في نفس الوقت - أشعر بالخجل من نفسي فلم يتعد "الاختبار" الذي وضعت نفسي فيه يومان ولم أعد بقادر علي تقبل أو عدم تقبل أية أعذار لإعلان هزيمتي فكلها مقنعة، وتدفعني للهرب من صحبة ومعايشة مريض بجواري. كنت أتفلسف "علي نفسي" بحجج مقنعة للغاية، فأنا أقدس خصوصية المريض ولي طقوس – عند المرض - أمارسها أهمها أن أكون وحيداً، لممارسة تلك الطقوس لمعايشة المرض من خلال مساحة خاصة بي. ضمن تلك الطقوس ألا تفرض علي زيارات من المعارف والأصدقاء وأنا أبدو تعيساً ضعيفاً لا حول له ولا قوة. ولهذا السبب أحرص – كلما زارني أحد - علي حلاقة ذقني وأخذ حمام ثم ارتداء ملابس نظيفة ولعل كل ذلك - مع تبادل الابتسامات والكلمات الطيبة والمريحة بيني وبين من يزورني – يجعلني أبدو متعافياً قوياً ومتفائلاً .
تبدو الأمور مختلفة هذه المرة. فلست بقادر علي أي شئ سوي متابعة مايحدث لجاري المريض، ثم التسليم بهزيمتي الشخصية مع قبولي الدخول في خلاف مع الإدارة حول حقه في البقاء بالمستشفي والعلاج.
وبينما انشغلوا في تنظيف الغرفة وتهويتها رحت في نوم عميق لم أفق منه إلا علي تحيات هامسة من شقيقتي الصغيرة وزوجتي التي أخذت تهمس في أذني بأنها تسعي لنقلي لغرفة خاصة. لم أرد عليها وشعرت أن صمتي له وقع أفضل من الموافقة التي تعني إعلان هزيمتي. واعترف أنه نوع من الكذب علي النفس وعلي الغير أمارسه في كثير من المواقف التي أمر بها.
أصبت بالغثيان والدوار حين بدأت زوجتي الحديث عن رغبتها أن تسقيني كوباً من الينسون الساخن جاءوا به معهم. استدعت ذاكرتي رائحة الينسون وطعمه. رجوتها أن تصمت. وللمرة الثانية سمعت عم عبدالله يتكلم وهو ينظر تجاه زوجتي متسائلاً "هل معكم ينسون؟!!". قلت لها "جهزي كوباً لعم عبدالله". أخذت شقيقتي الكوب وتوجهت ناحيته وساعدته في رفع رأسه الصغير، ثم أخذت تجفف حبيبات العرق اللاصقة بجبهته الضامرة، ووضعت يدها تحت رأسه وأخذت تسقيه من الكوب بهدوء وتأني، وأنا أنظر اليهما متمتماً بداخلي "لك الجنة يا أم ضحي".
صحوت عصر اليوم التالي علي صوت عال لشاب واقف بجوار سرير "عم عبدالله"، يتحدث مع مديرة القسم عبر هاتفه المحمول. عرفت أنه ابنه وأنه جاء لحل مشكلة والده في الخروج من المستشفي. شكرني لموقفي وأخبرني أنه تم الاتفاق مع "المديرة" بنقل والده لأحد ألأقسام المتخصصة". وبدا مثل هذا الحل مريحاً للجميع، لعم عبدالله الذي ظل ينظر إلي مبتسماً ولابنه الذي نجح في مسعاه ولي أيضاً.
بعد قليل من الوقت ازدادت الجلبة بالغرفة خاصة مع بدء الزيارة وأخذ صوت ممرضة يتعالى لتجهيز عم عبدالله للنقل، ثم وجهت كلامها لي "وأنت أيضاً يأستاذ محمد سننقلك لغرفة خاصة تم تجهيزها بعد خروج الحالة التي كانت بها".
كانت زوجتي تسير خلف الممرضة كظلها، ثم سارت تجاهي مبتسمة قائلة "لا تنطق بكلمة، وجدنا لك غرفة ممتازة، والأمر يستدعي تركك لهذه الغرفة، علي الأقل خوفاً عليك وعلينا من العدوى". تمسكت بقناع صمتي الزائف وأخذت أنظر لسقف الغرفة مثلما يفعل جاري المريض.
كان نقل عم عبدالله يحتاج لبعض الوقت فـاخذوا يجرون سريري لغرفتي الجديدة الجاهزة. حين بدأت عجلات السرير بالحركة نظرت "لعم عبدالله مودعاً ومتمنياً له الشفاء". نظر إلي وعلامات الحزن تعاود وجهه الضامر. وللمرة الثالثة والأخيرة سمعته يقول: " كنت أتمني أن نكون بغرفة واحدة يأستاذ عادل".

.


الثلاثاء، مايو ٢٥، ٢٠١٠

الأداء والتطريب ..

..

أحرص كثيراً علي لمسة " التطريب" في أي عمل فني أقتنيه خاصة الغناء. ولعله لهذا السبب أفضل اقتناء تسجيلات أغاني الحفلات للمطربين الذين أفضل الاستماع إليهم. وأعد نفسي محظوظاً إذا حالفني التوفيق وعثرت علي أغنية يؤديها المطرب وهو في حالة "سلطنة" أو "انسجام" وتوحد تام بين عناصر الأغنية وأعني الموسيقي والكلمات إضافة للأداء بطبيعة الحال، والأهم الجمهور أو المتلقي أو المستمع.
من المطربين الذين برعوا في الانسجام والسلطنة وهم يغنون أم كلثوم وفريد وعبد الوهاب وعبد الحليم وطلب وورده وناظم الغزالي وغيرهم كثيرون.
أعتقد أنها "حالة"، ليس بإمكانية أي مطرب الوصول إليها، كما أنه ليس بإمكانية "نفس المطرب" أن يكرر تلك الحالة من السلطنة والانسجام وإلا فسيصبح الأمر كمن يقلد نفسه وستكون سمة التكلف هي السائدة.
هذا يعني أن هناك عبئاً مضافاً يقع علي عاتق مثل هذا المطرب. أولها أن يكون له حضوراً قوياً ويعرف كيف يترجم هذا الحضور المتمثل في "السلطنة والتطريب والانسجام" إلي مايشبه خيوط غير مرئية يشد أو يجذب بها "المتلقي أو المستمع" إلي دائرته وتحديداً إلي المركز أو القلب منها وأعني تجاه المطرب أو المؤدي ذاته. وهذا نوع آخر من أنواع التوحد والانسجام بين المؤدي والمتلقي ولعل هذا يفسر "رد الفعل" الجماعي للجمهور وتردديهم في نفس ووقت واحد كلمات الإطراء والإعجاب والتي قد تختصر في كلمة وحيدة تخرج من قلب كل مستمع لتتحد مع باقي القلوب في صيحة واحدة " الله" .
أود أن أنوه أن حالة التوحد والانسجام ليست قاصرة علي الغناء. نستطيع أن نلمس ذلك في الإنشاد الديني وفي تلاوة القراًن وفي قراءة الشعر وأيضا في المديح والأذكار وحتى قراءة القصة أو الحديث العادي. فبقدر ما يملك المؤدي من حضور، ومعرفته كيف يجد نوعاً من التوحد أو الجذب لمتلقيه بقدر ماتكون براعته في الأداء. ولعل هذا يفسر التفاف الناس حوا أشعار وحكايات الأبنودي وهو يؤديهما بصوته.
لكل هذا أستطيع القول أن تلك الحالة ليست سمة لعصر بعينه، أو موسيقي بعينها بقدر ماهي سمة "لمؤدي" في ساعة محددة للتأدية سواء كان غناءً أو عزفاً أو حديثاً وكما أسلفت. وبعكسه إذا ماسيطر أداء التطريب علي "فترة" بعينها بحيث شملت معظم المؤدين فسيصبح الأمر أشبه بأداء "الحشاشين في أحد جلساتهم" وما يعنيه ذلك من تكلف وتكرار لحد الملل وتقليد غير مستحب.
استمعت مؤخراً "لحالتان" من الأداء لأغنية واحدة. "زوروني كل سنه مره" لسيد درويش. والأغنية تعد أحد علامات الغناء والأداء في عالم الغناء الشرقي. واعتقد أنها تؤدي وفق مايمليه علي المؤدي "زمنه" من ثقافة سائدة وفهم لمعاني الحب ومفرداته.
الحالة الأولي بصوت "بلبل مصر" – كما كان يسمي – "حامد مرسي"، وهي حالة مليئة بالتطريب المبالغ فيه ولحد التكلف، وبالرغم من ذلك إلا أنني أحب الاستماع لتلك الأغنية كما أداها " بلبل مصر". والحالة الثانية لنفس الأغنية بصوت "فيروز"، وهي حالة تفتقد تماماً للتطريب والانسجام والتوحد مع المستمع، ومع ذلك فلها سحرها الخاص ومذاقها الجميل .
...

الأربعاء، مايو ١٩، ٢٠١٠

8 - أيام طويلة ..

..
نمت عدة ساعات، استيقظت بعدها وحالة من الإدراك والانتباه تأتي للحظات قليلة تكون كافية لأسأل وافهم. علمت أن التشخيص المبدئي لحالتي والذي حددته طبيبة الاستقبال الشابة هو "التهاب بالغشاء البلوري" . وقد وضعوني بقسم خاص للتأكد من صحة التشخيص أو غيره مع علاجي بالأدوية اللازمة.والحقيقة أنها طفرة كبيرة بهذا المستشفي الضخم أن يكون هناك قسماً "للأبحاث" للتأكد من تشخيص أطباء الاستقبال أو لتحديد التشخيص المضبوط للحالة ووصف العقاقير التي تناسب كل حالة ثم نقلها للقسم الذي يختص بعلاجها. فهمت أيضاً أن الأمر يستدعي بقائي عدة أيام ثم نقلي لقسم الصدر فنتائج الأشعات والتحاليل تفيد بصحة التشخيص وأن هناك التهاب كبير بالغشاء البلوري، وهناك أيضاً الالتهاب بالفص الأيمن للرئة، وأنهم يبذلون قصارى جهدهم في تشخيص مرضي بشكل موثوق به. سألت بطبيعة الحال عن أسماء المضادات الحيوية التي أعالج بها. علمت أنهما نوعان من المضادات القوية للغاية والتي تعطي في شكل محاليل، بالإضافة لمحلول آخر كمسكن قوي للألم، وكان علي ألا أستعجل الشفاء ، فمثل هذا المرض يأخذ وقتاً طويلاً للعلاج ، وهو يحتاج لصبر المريض وتحمله، لكن سيكون بالمقدور – في النهاية - القضاء علي الميكروب المسبب له. تلك كانت نصيحة هامة رغم أني أعد مريضاً نموذجياً في الصبر وطاعة الأطباء وعدم الاعتراض علي أي شي. كل ما طلبته منهم أن يلاحقوا هذا الألم، ويريحوني منه ، وأن يزيدوني فهماً وتنويراً عن هذا الميكروب. من أين جاء ولماذا اختار صدري تحديداً. وبالنتيجة فلن أغادر هذا القسم لقسم الصدر قبل ثلاثة أو أربعة أيام. وهذا يعني أنني سأقضي تلك الأيام في متابعة النوم وحين استيقظ أكون بصحبة عم عبدالله. لم أستطع – طيلة تلك المدة - تناول أي نوع من الطعام أو الشراب وأصبح مجرد الحديث عن كل ذلك يصيبني بنوع من "القرف" ، كما وأن رائحة أي طعام وأيضاً رائحة الشاي والقهوة والسجائر يسبب لي غثياناً ورغبة في التقيؤ، وما يجره من إجهاد نتيجة لأن معدتي كانت فارغة إلا من المياه، وهي السائل الوحيد الذي كنت أتذوقه واعتبرته بديلاً عن الغذاء. قلت ذلك لزوجتي التي حضرت لزيارتي هي وشقيقتي ومعهما "شوربة" دجاج وبها نصف دجاجة. وأعقبت كلامي بتهديد بليغ لهما بأن أي طعام سيأتيان به لن أقدر علي النظر إليه أو اليهما وسأفضل تركهما لأنام. وسأفعل كما كان "عم أنس" يعمل حين يأتيه زائر لا يرغب في لقاءه، كان ينظر إليه قائلاً وهو يتثاءب: حين أصاب بزائر "دمه ثقيل" مثلك فسأمدد جسدي فوق السرير وأسحب الغطاء فوقه، وسرعان ما أستسلم للنوم حتى أن شخيري يستطيع أن يسمعه كل عابر للشارع المقابل للدار. وكان ينفذ بالفعل كل كلمة يقولها حتى لا يتبقى شيء سوي شخيره وحرج الزائر في البقاء لعدم إزعاج عم أنس النائم. وغرقت أنا الاَخر بالفعل في النوم وأنا أتحدث اليهما، وكان ذلك دليلاً علي جدية تهديدي. ومع ذلك فقد أصرت زوجتي خلال الزيارتان التي تليا تلك الزيارة علي إحضار نفس "الشوربة" ونصف الدجاجة حتى أصابها اليأس فأصبحت تزوني بعد ذلك بدون أن تحضر معها أي طعام.
ومع زيادة ساعات نومي اختلط الليل بالنهار. كنت أشعر براحة حين أنام دون أدني مجهود، وحين أفيق للحظات قليلة لأخذ العلاج أو لأرفع زجاجة الماء لأشرب كنت أجد عم عبدالله مشغولاً بالأكل، وأسنانه القليلة ترتفع وتنخفض بسرعة وهو ينظر إلي شارداً. حاولت دفعه للحديث عدة مرات، وبصوت ضعيف كنت أسلم عليه وأسأله عن حاله. كان الرجل يحدق في باهتمام واضح ويستمع إلي صامتاً وهو يواصل المضغ دون أن يرد علي بكلمة واحدة.
..

الأربعاء، مايو ١٢، ٢٠١٠

7 - أيام طويلة ..

..
استيقظت علي رائحة كريهة للغاية تملأ الغرفة، شعرت بالغثيان ورغبة قوية أن أترك الغرفة وأفر بعيداً عن تلك الرائحة المقززة. حانت مني إلتفاتة لسرير جاري، تسمرت عيناى علي جسده العاري، كدت أصعق لرؤية هذا الجسد، فهو عبارة عن هيكل جلدي منتفخ للغاية لا يتناسب مع حجم الرأس الصغير، والعينان الجاحظتان في فزع. كان هناك ممرض شاب ينظفه بعدما "تغوط علي نفسه". كان الممرض يعمل بهمة وهو يلقي باللوم بصوت عال علي المريض المفزوع. "يا عم عبدالله قلنا لك ألف مره اضغط الجرس حين ترغب في التغوط، سنأتي لمساعدتك قبل أن تبهدل السرير وما عليه وترهقنا لتنظيفك". لم يرد عم عبدالله بكلمة واحدة واكتفي بالتحديق في وفي جدران وسقف الغرفة وعلامات الفزع والخوف ترتسمان علي وجهه الضامر. رائحة كريهة وممرض يصرخ من الشعور بالتقزز وهو ينظف جسداً منتفخاً لمريض عاجز عن الكلام ولا يملك سوي الخوف والفزع. وجدت نفسي أقاوم رغبتي الصبيانية بترك الغرفة وحدثت نفسي بأنني سأشارك عم عبدالله هذا المكان واعتبرت أن هذا القرار هو نوع من الامتحان لنفسي. سألت نفسي " هل سأنجح في هذا الامتحان.؟!! نظرت إلي الوجه الضامر والعينان الجاحظتان ورسمت علي وجهي ابتسامة تشجيع وتعاطف، وطلبت من الممرض أن يقترب من سريري لأحدثه. بعدما ينتهي من عمله، أخذ يرش الغرفة مستخدماً زجاجة معطر للتغلب علي الرائحة الكريهة التي لصقت بكل زوايا وأرجاء الغرفة. كوم ملابس عم عبدالله القذرة وغيرها بملابس أخري نظيفة وأخذ يلبسه إياها بهمة ونشاط ونحن نتبادل الحديث.
قلت له أنني معجب للغاية بنشاطه وطريقته في تمريض عم عبدالله، وقبلها معي – رغم أنني كنت نائماً – إلا أنني وجدته قد علق كيساً للتبول كما علق الأدوية والمحاليل حتى أنني شعرت براحة شديدة لتأثير المسكن القوي والأهم هو قدرتي علي التبول دون ذهاب للحمام. كنت أناديه باسمه الذي استطعت قراءته من "البادج" المعلق فوق صدره، "يا أشرف أنت تدمر هذا المجهود الرائع الذي تبذله وأنت تصرخ في تلك الجثة الممدة أمامك دون قدرة علي الحركة أو الرد". كان ينصت إلي باهتمام وأدب وعقب بكلمات قليلة لكنه اعترف بالتقصير في تلك الناحية. يبدو العمل شاقاً "علي النفس" خاصة في مثل تلك المواقف. وافقته وأعطيته الحق وقلت له لعل أحد الأسباب أنك لازلت شاباً ولم تر الكثير بعد من المرضي وحالة الضعف والهوان والاستسلام المهين للمرض. الموضوع يحتاج لكثير من التدريب والممارسة وقبل كل ذلك الفهم والشعور الطيب تجاه تلك الكائنات الضعيفة والتي كانت يوماً ما تتباهي بقوتها وتدعي أنها كانت رجالاً لايشق لهم غبار أو نساءً يمتلئن بالحيوية، أنظر لعم عبدالله كيف يبدو؟!! وانظر إلي، وضعفي الذي لايمكنني من النهوض من فوق السرير. أنتهي حديثي مع أشرف بكلمات ضاحكة منه لعم عبدالله، الذي ابتسم وهو ينظر تجاهي متخلياً عن علامات الخوف والفزع. اكتشفت أن "عم عبدالله" لا يستطيع الكلام ولكنه يجيد الاستماع والفهم.
كان هناك العديد من زجاجات المحاليل معلقة بأعلا سريري، تتدلي منهما أنابيب شفافة ورفيعة تصل "يكانيولا" مغروزة بزراعي وبها العديد من الفتحات. من الواضح أنهم في مستشفي " عين شمس التخصصي" يتمتعون بحرفية عالية في تأدية أعمالهم والمتمثلة في جودة التشخيص والتمريض والأهم هو وجود نظام محكم للتعامل مع المريض ومتابعة حالته دون أن تشعر من هو الطبيب الذي يشرف علي كل ذلك.
لا بد أن الفجر يوشك علي البزوغ، فخيوط الضوء تتسلل علي حياء من خلال "شيش بلكونة الغرفة"، ومع بزوغ ضوء فجر يوم جديد أزددت تفاؤلاً، وشعور بآمال جميلة تراودني في الشفاء وفي مزيد من الحب والفهم للناس، وعرق كثيف يغمر جسدي لأغرق في نوم هادئ وممتع بعد ساعات طويلة ومرة من العناء والضعف والألم
..

الاثنين، أبريل ٢٦، ٢٠١٠

6- أيام طويلة ...

..
مساء نفس اليوم ...
شعرت بأصابع تنغرز في ظهري وهم يحاولون مساعدتي للقيام والدخول لسيارة شقيقي لنقلي لمكان آخر. تأوهت من شدة الألم وطلبت بصوت ضعيف من أخي أن يستخدم كف يده وليس أصابعه. كان جسدي أشبه "بالدمل الكبير" الذي يحيط به الألم من كل الاتجاهات. فضلت الرقاد فوق الأريكة الخلفية للسيارة ووضعت ذراعي تحت رأسي وغرقت في نوم عميق. كنت أفيق للحظات قصيرة كلما اهتزت السيارة حين كانت تعبر مطباً أو حفرة بأسفلت الشارع. أتذكر أنني أفقت مرة أخري علي صوت مزعج لآلة تنبيه سيارة مجاورة. تصنعت القوة وحدثت شقيقي أن "يركن" بجوار تلك السيارة ويتركني أؤدب سائقها لقلة أدبه وعدم تحضره. "هاوريه بس سيبني عليه.!!". كنت أحاول تصنع القوة والمرح تخفيفاً عني وعن زوجتي وأخوتي. لم أنتظر أي تعليق، ومع سماعي لضحكات الجالس بجوار أخي بالمقعد الأمامي غرقت في النوم، ولم أفق إلا بعد فترة كانت كافية لوضعي فوق سرير الفحص بالمستشفي الجديد، ثم سحبي أو جري أو نقلي أو حملي لعمل أشعة للصدر والعودة ثانية لسرير الفحص الجلدي البارد. أخبرتني زوجتي بأننا في انتظار الأشعة والتي ستحدد إذا كنت سأخرج أم سأبقي للعلاج بالمستشفي. لم أتذكر أي شيء. ولم أسأل كيف وصلنا، وكيف فحصني الأطباء ، وكيف أخذوني لعمل تلك الأشعة. كان هناك مجموعة من الأطباء الشباب، بهم الكثير من الطبيبات. انشغلت زوجتي في الحديث مع إحداهن وعادت إلي لتخبرني قبل أن أعاود النوم. كنت أشعر ببرودة شديدة وأنا أكور جسدي طمعاً في الإحساس ببعض الدفء. لم أفهم من كلامها سوي القليل بينما كانت عيون الأطباء تلاحقني وهم يتحدثون فيما بينهم. رجوت زوجتي أن تغطي جسدي بالعباءة الشتوية - التي كانت بصحبتي - وأن يقرروا بعيداً عني مايرونه صالحاً. ومع شعوري بالدفء يتسلل لأطرافي غرقت ثانية في نوم عميق لم أفق منه إلا وأنا بغرفتي الجديدة بالمستشفي وحيداً إلا من نظرات حزينة ومركزة تلاحقني من رفيقي بالغرفة الممدد بجواري فوق سريره.

..