الاثنين، يونيو ٢٨، ٢٠١٠

9 - أيام طويلة ...

.

صحوت ظهيرة اليوم التالي منزعجاً علي صوت عال للغاية لأحدي الممرضات وهي تخبر عم عبدالله بأنه قد تقرر خروجه من المستشفي. وأنهم فد خابروا "أهله" للحضور غداً "لاستلامه". كان الرجل ينظر إليها بدهشة وخوف شديدين ثم يعاود النظر إلي وكأنه يستنجد بي. كررت الممرضة ماقالت وهي ترفع صوتها أعلا كي يسمعها جيداً ويعي ماتقول. ولأول مرة وجدت عم عبدالله ينطق بكلمات قليلة " هل سيأتي أحد من أهلي لاستلامي"؟!!. كرر سؤاله ثم لاذ بالصمت وهو ينظر إلي وقد غمره خوف هائل ارتسم علي وجهه الضامر والحزين. استطعت تفهم خوفه الذي قارب حد الرعب فهو يخشى أن يقرر ذلك النظام المسئول عن علاجه ورعايته "رميه" للخارج، والأدهي ألا يكون هناك أحد من أولاده أو أقاربه حاضراً لاستلامه، مثلما يستلم المرء طرداً أو رزمة لا حياة فيها غير أنها بقادرة علي التأوه والشعور بالألم. وما يزيد الأمر حزناً أنه – وخلال المدة القصيرة التي رافقته الغرفة – لم يكن من زائر يجئ له. ولعله لهذا السبب كان يزداد حيوية كلما جاءت زوجتي وأخوتي لزيارتي وتحيته والسلام عليه. لم يكن يرد عليهم بكلمة مكتفيا بالابتسام والنظر إليهم بتأني ثم معاودة النظر إلي.
ياله من شعور قاتل ويبعث علي الحزن أن يتحول الإنسان إلي "كتلة لا حول لها ولا قوة" يركلها البعض ليستلمها أو يرفض استلامها البعض الآخر.
سألت الممرضة بصوت ضعيف " ولكن الرجل لايزال مريضاً. ليس من حقكم أن تجبروه علي الرحيل دون أن يكتمل علاجه". اقتربت من سريري وحدثتني بصوت أقرب للهمس " ليس له من علاج لدينا. حالته خطيرة، أنها مسألة وقت. فكبده قد تلف تماماً بحيث لم يعد يعمل. وهذا هو سر انتفاخ جسده الضخم ولن يجدي نفعاً أي نوع من العلاجات الدوائية، وبطبيعة الحال فلا يمكن الاقتراب من تلك الحالة جراحياً فبطنه صارت أشبه بالبطيخة الفاسدة، فهي عبارة عن مزيج من الأعضاء التالفة والتي أخذت طريقها للتحلل والفساد. كنت استمع بدهشة شديدة لما تقوله. وجدت نفسي أهمس لها أنا الآخر ودوار هائل يهاجمني معلناً سحبي لمنطقة النوم الآمنة. " يانهار اسود، يعني بطن الراجل صارت مثل "حلة الملوخية الحمضانة". ضحكت الممرضة قائلة "لا يمكننا عمل شئ". قلت بنوع من الإصرار: "ومع ذلك فليس من حقكم "طرده وإعلان هزيمتكم بهذا الشكل المخزي". لا أدري ماهو السر أن يتحول كلامي لنوع من الاهتمام والفهم . فقد وعدتني الممرضة بنقل وجهة نظري لمديرة القسم وربما استطاعت التوصل لقرار آخر. كنت استمع بصعوبة شديدة فيما راح النوم يتسلل إلي لأغفو لساعات.
عرفت فيما بعد أنني صرت طرفاً في مشكلة الإدارة مع عم عبدالله ، لكن وللحق لم تتغير طريقة تعاملهم معي. كل ماهنالك أنهم التزموا الصمت في إخباري بأي جديد ينتظره هذا المريض البائس.
واستيقظ مساءً علي الرائحة الكريهة وشعور برغبة عارمة في التقيؤ لأجد الغرفة مملوءة بعدة رجال يعاونون "أشرف" الذي كان ممسكاً شيئاً ضخما يسحبه من أسفل "عم عبدالله" وهو يسأله إن كان يود إخراج المزيد.!!
الحقيقة أنني في تلك اللحظة وجدت أنني لم أعد أتحمل أي مزيد وأعلنت هزيمتي أنا الآخر، وقررت أنه لا يمكنني الاستمرار بتلك الغرفة ورغبة شديدة تعتريني بتركها حالاً وبأي طريقة، حدثت نفسي – بجدية وانتباه - أنني سأطلب من إدارة القسم لنقلي لغرفة منفردة.
كنت – في نفس الوقت - أشعر بالخجل من نفسي فلم يتعد "الاختبار" الذي وضعت نفسي فيه يومان ولم أعد بقادر علي تقبل أو عدم تقبل أية أعذار لإعلان هزيمتي فكلها مقنعة، وتدفعني للهرب من صحبة ومعايشة مريض بجواري. كنت أتفلسف "علي نفسي" بحجج مقنعة للغاية، فأنا أقدس خصوصية المريض ولي طقوس – عند المرض - أمارسها أهمها أن أكون وحيداً، لممارسة تلك الطقوس لمعايشة المرض من خلال مساحة خاصة بي. ضمن تلك الطقوس ألا تفرض علي زيارات من المعارف والأصدقاء وأنا أبدو تعيساً ضعيفاً لا حول له ولا قوة. ولهذا السبب أحرص – كلما زارني أحد - علي حلاقة ذقني وأخذ حمام ثم ارتداء ملابس نظيفة ولعل كل ذلك - مع تبادل الابتسامات والكلمات الطيبة والمريحة بيني وبين من يزورني – يجعلني أبدو متعافياً قوياً ومتفائلاً .
تبدو الأمور مختلفة هذه المرة. فلست بقادر علي أي شئ سوي متابعة مايحدث لجاري المريض، ثم التسليم بهزيمتي الشخصية مع قبولي الدخول في خلاف مع الإدارة حول حقه في البقاء بالمستشفي والعلاج.
وبينما انشغلوا في تنظيف الغرفة وتهويتها رحت في نوم عميق لم أفق منه إلا علي تحيات هامسة من شقيقتي الصغيرة وزوجتي التي أخذت تهمس في أذني بأنها تسعي لنقلي لغرفة خاصة. لم أرد عليها وشعرت أن صمتي له وقع أفضل من الموافقة التي تعني إعلان هزيمتي. واعترف أنه نوع من الكذب علي النفس وعلي الغير أمارسه في كثير من المواقف التي أمر بها.
أصبت بالغثيان والدوار حين بدأت زوجتي الحديث عن رغبتها أن تسقيني كوباً من الينسون الساخن جاءوا به معهم. استدعت ذاكرتي رائحة الينسون وطعمه. رجوتها أن تصمت. وللمرة الثانية سمعت عم عبدالله يتكلم وهو ينظر تجاه زوجتي متسائلاً "هل معكم ينسون؟!!". قلت لها "جهزي كوباً لعم عبدالله". أخذت شقيقتي الكوب وتوجهت ناحيته وساعدته في رفع رأسه الصغير، ثم أخذت تجفف حبيبات العرق اللاصقة بجبهته الضامرة، ووضعت يدها تحت رأسه وأخذت تسقيه من الكوب بهدوء وتأني، وأنا أنظر اليهما متمتماً بداخلي "لك الجنة يا أم ضحي".
صحوت عصر اليوم التالي علي صوت عال لشاب واقف بجوار سرير "عم عبدالله"، يتحدث مع مديرة القسم عبر هاتفه المحمول. عرفت أنه ابنه وأنه جاء لحل مشكلة والده في الخروج من المستشفي. شكرني لموقفي وأخبرني أنه تم الاتفاق مع "المديرة" بنقل والده لأحد ألأقسام المتخصصة". وبدا مثل هذا الحل مريحاً للجميع، لعم عبدالله الذي ظل ينظر إلي مبتسماً ولابنه الذي نجح في مسعاه ولي أيضاً.
بعد قليل من الوقت ازدادت الجلبة بالغرفة خاصة مع بدء الزيارة وأخذ صوت ممرضة يتعالى لتجهيز عم عبدالله للنقل، ثم وجهت كلامها لي "وأنت أيضاً يأستاذ محمد سننقلك لغرفة خاصة تم تجهيزها بعد خروج الحالة التي كانت بها".
كانت زوجتي تسير خلف الممرضة كظلها، ثم سارت تجاهي مبتسمة قائلة "لا تنطق بكلمة، وجدنا لك غرفة ممتازة، والأمر يستدعي تركك لهذه الغرفة، علي الأقل خوفاً عليك وعلينا من العدوى". تمسكت بقناع صمتي الزائف وأخذت أنظر لسقف الغرفة مثلما يفعل جاري المريض.
كان نقل عم عبدالله يحتاج لبعض الوقت فـاخذوا يجرون سريري لغرفتي الجديدة الجاهزة. حين بدأت عجلات السرير بالحركة نظرت "لعم عبدالله مودعاً ومتمنياً له الشفاء". نظر إلي وعلامات الحزن تعاود وجهه الضامر. وللمرة الثالثة والأخيرة سمعته يقول: " كنت أتمني أن نكون بغرفة واحدة يأستاذ عادل".

.


هناك ٣ تعليقات:

whois domain find يقول...

شكرا على المدونه الجميلة و بالتوفيق دائما

جمعية كيان يقول...

مدونه رائعه جدااا....شكرا لك

how to do it easy يقول...

مشكور علي المدونه...كل التوفيق