الأربعاء، يونيو ٢٠، ٢٠٠٧

11 - حكايات الأغاني .. " رق الحبيب "

.
11 - رق الحبيب ( منولوج ) . أحمد رامي - القصبجي - أم كلثوم ...

نحن أمام عمل فني رائع أحب ان أستمتع بكل جزء فيه سواء من الكلمات العذبة أو الموسيقي الجميلة أو الأداء الراقي للسيدة أم كلثوم .أرجو أن تشاركونني متعة تذوق الكلمة واللحن والأداء.
اللحن رائع وسبق عصره بكثير وواضح تأثير الفهم الذكي والتذوق الراقي للموسيقي الغربية. استخدم القصبجي كل براعته ليقدم لحنا أقرب لألحان الأوبرا واستطاع أن يمزج بين صوت أم كلثوم واللحن في بناء فني محكم وعالي الحرفية والجمال.
لا اعتقد أن لدي ما يكفي من كلمات يمكنها أن تعبر عن رقة وعذوبة مشاعر الكاتب وثراء أحاسيسه. الأغنية مكتوبة علي شكل منولوج ويعني انه نوع من الحوار الداخلي للكاتب. وهو شكل من الأشكال الفنية الجميلة خاصة حين تطوع كلماتها للغناء. والأغنية بأكملها تعد رحلة خوف وترقب لليلة بأكملها يقضيها الشاعر وحتي قرب معد لقاء الحبيب . خوف يتصاعد ويزداد، بل وأزعم أنه يتوالد أيضا من خيالات الشاعر ويتكرر علي شكل دائرة مغلقة بإحكام حول خوف الشاعر وتوتره وترقبه وتفكيره المتواصل وحتي هجره لأحبته. دعونا نري الي أين يقودنا الشاعر بتلك المخاوف من لحظة لقاء الحبيب.
.
رق الحبيب وواعدني يوم
وكان له مده غايب عني
حرمت عيني من النوم
لاجل النهار مايطمني
.
تبدأ الكلمات بكلمة (رق) والكلمة لم تستخدم – في حدود علمي – في أية أغاني سابقة لأغنية رق الحبيب. وتأثير الكلمة كاف لتوحي بمدي الحب وعمقه في قلب حبيب وعاشق رق قلب حبيبه عليه وواعده – بعد غياب - علي اللقاء. فراح يحاور نفسه واصفا ليلته التي تسبق اللقاء والمخاوف التي تنتابه، حتى انه حرم عينيه من النوم هذه الليلة منتظرا نهار اللقاء الذي يأمل أن يأتيه بالاطمئنان. مشاعر عاشق صادقة ينتظر طلوع النهار (لاجل) أن يشعر بالاطمئنان النفسي والاتزان الروحي بعد ليلة طويلة قضاها ساهرا يناجي فيها خيال الحبيب.

صعب علي أنام
أحسن أشوف في المنام
غير اللي يتمناه قلبي
سهرت أستناه
واسمع كلامي معاه
وأشوف خياله قاعد جنبي.

ويبدو أن لديه أسباب أخري – لعدم النوم - فهو يخاف أن يحلم بأي شئ آخر غير الحبيب الذي يتمناه قلبه. وأحس انه صادق في كلامه لأنه يقرر سببا وجيها للخوف. فقد يري غير ما يود القلب والروح، وإن كان لم يحدد من هي (الأخرى) التي يخاف من رؤياها بالحلم بدلا من الحبيبة التي يتمني ويتلهف لرؤيتها. فضل السهر لأنه يتيح له انتظارها وتذكرها بل والاستماع لكلماته وهو يتحدث معها، ولم لا فقد تجسد خيال الحبيبة جالسا بجواره وكأنها تبادله الكلام. والصورة لا يمكن أن تكون وليدة ( هلاوس عاشق ومحب ) بقدر ما هي تدلل علي براعة رامي في الانتقال من حالة خوف العاشق وقراره بعدم النوم، بالتحدث مع المحبوبة وتحويل ذلك لشكل واقعي حيث تتجسد الحبيبة جالسة بجواره تبادله الحديث والكلام.

من كتر شوقي سبقت عمري
وشفت بكره والوقت بدري
وايه يفيد الزمن مع اللي عاش في الخيال
واللي في قلبه سكن أنعم عليه بالوصال

أعذروا المحب – في ليلة لقاء الحبيب - فحساب الزمن عنده من نوع آخر. فهو يري أن شوقه الكبير لرؤية حبيبه قد جعله يسبق عمره، لكن ليس بالكثير من حساب الزمن. سبق عمره لمجرد مجئ الغد (موعد اللقاء) وما يمكن أن يراه في الغد. وهو يستدرك فيعترف أن الزمن لا يفيد من يعيش في الخيال، وهواجس الخوف من لقاء الحبيب والخوف من فقدانه بل والتمتع بالحبيب بكلامه وحتي بلقائه الجسدي. وكلها متع قد لا يجدها فوق أرض الواقع. بل أنه يري أن من يسكن بقلبه كل تلك الخيالات فقلبه ينعم بالوصال والتلاقي مع الحبيب.

طلع عيه النهار سهران في نور الأمل
وغنت الأطيار لحن الهوي والغزل
وفضلت افكر في ميعادي واحسب لقربه الف حساب .

طلع النهار أخيرا بعد كل تلك المناجاة الرائعة والعفيفة بينه وبين نفسه واكتشف انه لايزال يحيا في نور الأمل – كم هو جميل هذا التعبير – حتي انه سمع الطيور تتغني للحب لكنه كان لايزال مهموما بالتفكير في قرب الميعاد.
.
وكان كلامي مع اصحابي عن المحبه والأحباب
من فرحتي بدي اتكلم واقول حبيبي مواعدني
لكن أخاف ليكون بينهم مظلوم في حبه يحسدني
هجرت كل خليل لي وفضلت عايش مع روحي
يمكن يبان شيئ في عنيه من كتر خوفي علي روحي

لحظات من المتعة الخالصة لمجرد أن ميعاد الحبيب قد اقترب فهو يهنئ فؤاده لقرب وصاله بالحبيب وهو بهذا الاقتراب من لقاء حبيبه قد جني كل ما يهوي في دنياه. ربما ما تحمله القلوب من متعة قبل اللقاء يكون أكثر بكثير من اللقاء ذاته.!! الفكر يحتار والقرب قد يكون سببا – مضافا – للعذاب.!!
.
ولما قرب ميعاد حبيبي ورحت أقابله
هنيت فؤادي علي نصيبي من قرب وصله
ولقيتني طايل من الدنيا كل اللي أهواه
بس اللي كان فاضل ليه أسعد بلقاه
لما خطر ده علي فكري حير أمري
والقرب سبب تعذيبي
ولقيتني خايف علي عمري ليروح مني
من غير ما شوف حسن حبيبي
.
ولعلك تلاحظ معي أن رامي استخدم كلمات بسيطة للغاية ولم يحاول أن يقحم أية كلمة غريبة أو صعبة التداول ونجح باقتدار ان يجعل المستمع يعيش معه في حواره الداخلي برسم صورة جميلة بمفردات بسيطة لحيرة عاشق وخوفه ولهفته ليلة لقاء حبيبته وحتى قرب موعده لقاؤها.!!

ورغم إن الأغنية بأكملها جميلة وتعد نموذجا للأغنية الشرقية التي تغني بلحن يسبق عصره بكثير من السنين إلا أن المقطع الأخير يعد من أجمل ماغنت أم كلثوم. استمع إلي نبرة الخوف المغلف بالتفاؤل والفرحة في الأداء والموسيقي في جملة "ولما قرب ميعاد حبيبي" ثم التحليق مع صوت أم كلثوم في "لقيتني طايل من الدنيا كل اللي أهواه " ثم الهبوط ثانية حيث مشاعر الخوف والقلق في "لما خطر ده علي فكري حير أمري" إلي آخر الكلمات.
أغنية جميلة ومعبرة. أرجو أن تعجبكم.
.
.
.

10 - حكايات الأغاني ... إلي أبني الوسطاني نع تحياتي ...

.
10 - إلي ابني الوسطاني مع تحياتي.
.
لا أعرف ما هي مشكلتي مع أولادي. فأبني الأكبر أنهي دراسته بعدما أقسمت له بالطلاق أنني سأساعده - إن أنهي دراسته الجامعية - في السفر خارج مصر. وضعت شرطا واحدا أمامه وهو أن يسافر للدراسة. نظر إلي بريبة وعدم تصديق، ثم قال : كلام رجاله.!! أجبته بالإيجاب فقال: طيب لما نشوف. الغريب انه نجح تلك السنة وبأقل مجهود يذكر وبالفعل نفذت ما وعدته به، وأرجو أن ينفذ هو الآخر وعده لي.
أما ابني الأصغر والذي لا يزال يدرس بالثانوي فهو يصر علي أن أبحث له عن مدير أعمال لتسويقه لأحد الأندية. فهو يري انه لا يقل مهارة عن ماردونا وانه هناك كثير من العروض من أندية كثيرة قد تسببت في إبطالها، وان المشكلة أنني لا أفهم في الكرة ولا الأندية ولا العقود وشروطها. وهذا صحيح لحد كبير ورغم ذلك فأنا مصر علي موقفي حتى ينهي دراسته ويلتحق بالجامعة. أما ابني الوسطاني فحكايته حكاية.
أعترف انه شاب رائع وذكي ومثقف، وأنه أقرب إلي كصديق من أن يكون ابني. وقد أنهي دراسته الجامعية منذ فترة قصيرة وبتقدير يؤهله للالتحاق بسلك التدريس في كليته. وقد تحدثت معه كثيرا عن ذلك. غير انه له رأي آخر فهو يري أن معظم العاملين بكليته من الأساتذة هم "شوية بهايم" وانه لا يريد أن يصبح حمارا مثلهم بحظيرة البهائم الممتلئة بالكلية. لم تفلح معه كلماتي في تغيير رأيه وقررت تركه يبحث عن مستقبله بنفسه ويختار العمل الذي يجد نفسه فيه.

منذ عدة شهور أعطاني دراسة صغيرة كان قد كتبها ووضعها بأحد المنتديات بشبكة المعلومات. والدراسة بإيجاز تعلن أنه اختار الإلحاد بديلا عن الإيمان بالله أو الدين، ورغم انه ترك الباب مواربا لما يمكن أن يحدث. فقد يعود لحظيرة الدين ثانية، إلا أنني شعرت بالحزن الشديد حتى أنني لم أقو علي الحديث معه حول ذلك الأمر، ورحت أعيش في حالة من التفكير العميق.

في مثل تلك المواقف دائما ما أتذكر بعض الحكايات البسيطة والجميلة. سأهدي حكاية منهم له ومعها أغنية جميلة يعنيني الاستماع إليها في التغلب علي كثير من المصاعب. تقول الحكاية : كان هناك رجلا ملحدا يعيش فوق الضفة الأخرى من النهر. ولم تفلح محاولات كثيرة من أصدقائه والكثير من الدعاة في تغيير موقفه من الإيمان بالله.

زاره أحد الأيام صياد فقير، وأخذوا يتحدثون في كثير من الأمور. وبطبيعة الحال تحدث الصياد عن الله وجمال صنعته وخلقه لهذا الكون الكبير والرائع. وطبعا أصر الرجل علي موقفه، وراح يتحدث عن إمكانية الخلق لهذا الكون من سلسلة تفاعلات عشوائية أوصلتنا لما نحن عليه. شعر الصياد العجوز بالملل والحزن فقرر الرحيل. استأذن من الرجل وركب قاربه القديم وراح يجدف تجاه الضفة الأخرى.

لكنه عاد بعد عدة أيام، غير أن قاربه هذه المرة كان جديدا تماما. وكان وجه الصياد العجوز يحمل تعبيرات جميلة من الرضا والسعادة. أخذ يحكي للرجل سر سعادته ورضاه. قال: صحوت أمس من نومي في الصباح الباكر بفعل أصوات غريبة. خرجت خارج كوخي، لأجد أن تلك الأصوات صادرة عن تهاوي الأشجار الواقفة، ثم سرعان ما أخذت فروعها وأراقها في السقوط، ثم راحت الأشجار تتشقق في نظام غريب وتتراص بجوار بعضها بأطوال دقيقة تتناسب مع طول القارب ثم التحم الأجزاء في بعضها، والكل في الكل، حتى تشكل هذا القارب الجديد الذي تراه.!!

كان الرجل يستمع وهو فاغرا فاه في دهشة كبيرة. لكنه تمالك نفسه وقال للصياد: يالك من مخادع وكاذب كبير. أتريد أن تقنعني بأن قاربك الجديد وجد بهذه السرعة، وبدون صانع.!! أجابه الصياد: أتستكثر ذلك علي قارب صغير ولا تستكثره علي هذا الكون المترامي الأطراف. حتى انك لا تريد أن تقتنع بأن هناك صانع لهذا النظام المحكم والذي تعترف بقوانينه المنظمة.

القصة بسيطة للغاية لكنها تعني الكثير ومعها أهديه أيضا أغنية جميلة " ماشي في نور الله " وهي أغنية رائعة سواء في الكلمات أو اللحن ( بليغ ) أو الأداء . استمعوا معي للأغنية والأدعية الجميلة فيها والترديد الرائع لتلك الأدعية بين صوت المنشد والمجموعة.
.
.
.
..

الثلاثاء، يونيو ١٩، ٢٠٠٧

9 - حكايات الأغاني .. " أروح لمين. "

.
9- أروح لمين ...
.
أروح لمين واحدة من الأغاني الجميلة والتي لها معي الكثير من الذكريات والحكايات. البداية كانت مع الأغنية نفسها. وجدت نفسي مشدودا للأغنية، فالكلمات لعبد المنعم السباعي بسيطة ومعبرة وجميلة، والموسيقي أبدع فيها السنباطي. ورغم أن تركيبية الموسيقي تبدو بسيطة للغاية وأقرب للموسيقي الشعبية، والتي يمكن للأذن أن تلتقطها في الموالد وحلقات الذكر والأفراح الشعبية. إلا أن السنباطي وبما يملكه من حس مرهف، وتذوق عال صاغ موسيقي الأغنية في شكل أو قالب لا يقدر عليه غيره، وقدم لحنا جميلا يتصاعد بهدوء وجمال مع كلمات الأغنية حتى نصل للذروة وصوت أم كلثوم يتعالى بالشكوى في المقطع الأخير مرددة جملة " أروح لمين " في تنويعات مختلفة وكأنها قد " فاض بها " فراحت تصرخ شاكية، دون أن تنتحب أو تبتذل أو تستجدي المعني المراد بمقام الحب وقصده. والملاحظ أن صوت أم كلثوم وتحديدا في تلك الأغنية، كان فتيا وقويا وجميلا وفي قمة عنفوانه. ومنذ أن تبدأ الأغنية بتساؤلها " المشروع " وحتي تنهى الأغنية ونحن نلمس جمال وقوة الصوت.

أروح لمين ،وأقول لمين ينصفني منك !!
ما هو انت فرحي،
وانت جرحي .
وكله منك ...
أروح لمين .

سأختار لكم المقطع الأخير من الأغنية والذي تغنيه الست بإحساس المحب الذي فاض به الكيل فلم يتبقى له سوي مرارة السؤال. استمعوا وانتبهوا كيف تعبر أم كلثوم عما هو أكثر من ذلك وهي تؤدي ذلك المقطع.

أروح لمين
ومين ح يرحم أسايا
واقول يامين
ومين ح يسمع ندايا
طول مانت غايب
ما ليش حبايب
في الدنيا ديه
والفكر سارح
والهجر جارح
يا نور عنيه
شوف دمعي جاري
سهران في ناري
ولا انت داري
بالسهرانين
أروح لمين

هذا عن الأغنية، وما كتبته قليل ولا يفي حق الكلمات أو اللحن أو الأداء. وفي الحقيقة كنت أنوي الكتابة عن حكاية تلك الأغنية معي لكن ربما لأنني أحبها فقد بدأت الكتابة عنها. علي كل ، تظل تلك الأغنية ملاذي الآمن كلما ضاق بي الحال، أو وجدت نفسي محاطا بكم من الإحباطات القاسية. ولعل أقساها هو التكيف مع المكان، والأشد قسوة هو التكيف مع من هم حولي من الناس. فأجدني أهمس لنفسي " أروح لمين ". وقد أصرخ بها أيضا حين يفيض بي الكيل. وبالتأكيد فأن شكواي وصراخي لن يطرب أحدا.
.
ثمة أمر آخر أحب تتبعه كلما شاهدت تلك الأغنية تذاع مرئية بالتلفزيون. أحب مشاهدة المتفرجين من حضور الحفل. ماذا كانوا يلبسون وكيف كانوا يستمتعون بالاستماع لموسيقى جميلة وأداء رائع. شد انتباهي في أحد التسجيلات لتلك الأغنية وأثناء تصفيق الحضور - مع نهاية أحد مقاطع الأغنية – سيدة انشغلت عن الجميع بالنظر في مرآة صغيرة لوجهها وتعديل تسريحة شعرها.

أمر آخر يمكن رصده من أغاني أم كلثوم التلفزيونية. هل لاحظتم كم يبعد الميكرفون عنها؟! في التسجيل الذي أتحدث عنه لم أتمكن من مشاهدة الميكرفون. ويبدو أنه كان معلقا من أعلا وبمواجهتها. علي كل، في كل أغاني أم كلثوم كانت المسافة بينها وبين الميكرفون لا تقل عن النصف متر. وهذا له دلالته علي القدرة العالية لصوت أم كلثوم والعديد من الأصوات التي عاصرتها. بحيث كان بمقدور أصواتهم - حتى بدون مكبرات للصوت - أن تصل للمتفرج الذي يجلس في الكرسي الأخير للقاعة.
.
وتلك هي القاعدة الذهبية لنجاح وتميز مطرب عن آخر في ذلك الوقت، فضلا أنها كانت – ولاتزال - تشكل القاعدة الرئيسة لنجاح الإلقاء المسرحي دون تشنج، قد يجلب معه مشاكل جمة مثل احتباس صوت الممثل أو المطرب، فضلا عن التهاب الحبال الصوتية. وبالتأكيد فإن مهندس الصوتيات يكون له دخل كبير في تصميم قاعة المسرح بحيث يراعي تلك القاعدة إذا ما حدث خلل فني لمكبرات الصوت. وعليه فالأمر سيترك للمطرب أو الممثل بالاستعانة بطاقته وقدرته وحرفيته لتوصيل صوته لجمهوره من الحاضرين.
.
في الثلاثينيات من القرن الماضي وحين بدأت أم كلثوم مسيرتها، كانت هناك أصوات قوية ومميزة - معها - في نفس الفترة، الشيخ أبو العلا محمد، منيرة المهدية، الست نعيمة المصرية وآخرين. في هذا الوقت لم تكن هناك قاعات مجهزة هندسيا لهذا الغرض بالشكل الذي تحدثت عنه. إضافة لعدم وجود ميكرفونات قوية وحساسة مثل المتواجدة الآن. ويجئ الأمر بشكل عفوي وتلقائي. ولم يكن يزيد عن أن يحسب المطرب كم متفرج تقريبا يشاهده ويسمعه؟!. أو بالأحري نسبة اشغال القاعة من المتفرجين منسوباً للمساحة الكلية. وبمعني أقرب للدقة كان المغني يحدد بنفسه "هل القاعة مليئة بالسميعة" أو"علي النص" أو "علي الربع"، ليصل "مع نفسه أيضا" إلي "ماهي حدود المساحة المكانية والصوتية ليكيف صوته وقدراته علي توصيل أفضل ما عنده من صوت وتنويعات متوافقة مع اللحن". بحيث لا يكون هناك نشاز أو تشنج أو توتر، وإنما القدر الكبير من الطرب والإمتاع .
.
منذ فترة كنت معزوما بأحد الحفلات الخاصة، وكان هناك عدد من المطربين الشباب المعروفين. واسترعي انتباهي أن جميعهم يضعون المايك قريبا للغاية من أفواههم رغم حساسيته المفرطة. واندهشت أكثر حين وجدت واحدا منهم وقد لصق المايك بشفتيه وهو يغني.!! علي كل ، تلك قصة أخري قد أعود وأتحدث عنها خاصة دور تكنولوجيا الأصوات في فرض سمة معينة من الألحان وفرض شكلا نمطيا من الأداء.
.
ولمجرد التدليل سأهديكم جزء من أروح لمين من أحد حفلات " الست " بجامعة القاهرة بتاريخ 20/10/1959وغنت الأغنية لمدة " تزيد علي الساعة " بوصلة الغناء " الثالثة ".!!
.
.
.
.

الأحد، يونيو ١٧، ٢٠٠٧

8 - حكايات الأغاني .." عبد الحليم وأيام الغربة. "

.
8 – عبد الحليم وأيام الغربة ...
-
"هل جرب أحدكم النوم بأحد الفنادق الصغيرة في أحد مدن الجنوب العراقي وفي شهر يوليو ( تموز ) بغرفة مغلقة ليس بها سوي مروحة سقفية .انه الجحيم بعينه".
كان حنون – صاحب الفندق - محقاً فلم نستطع المبيت داخل الغرفة سوي لعدة ليالي قليلة للغاية . كانت ليالي لا تنسي. في الليلة الثالثة أو الرابعة وفور رقودي فوق السرير الساخن رحت أنظر بإمعان إلي المروحة السقفية وهي تئن وتدور دون جدوى . كنت أحدث نفسي بأننا أشبه بتلك المروحة القديمة المتهالكة، ما الجدوى من رحيلي ووضعي في تلك الغرفة الضيقة الساخنة. وبينما أستعد للإجابة علي هذا السؤال محاولاً إقناع نفسي بأن هناك ثمة فائدة من قدومي، وأن هناك فارق كبير بيني وبين تلك المروحة. وقبل أن أصل لنوع من الرضي لوصولي لتلك النتيجة، إذ بي ألمح ( برص ) ضخم للغاية يمشي متلصصاً بجوار اللمبة النيون الملتصقة بالجدار ناظراً تجاهي مقترباً ببطء يثير الهلع من سريري. كان برصاً ضخماَ وشكله مقزز وجلده شفاف ويكشف عن كرش ضخم، للحد الذي تستطيع أن تري بوضوح أحشاءه الداخلية الممتلئة.
بالكاد استطعت أن أقول وبصوت متحشرج من الخوف لكنه عال " ياليلة سودا " ثم نهضت من فوق السرير فزعاً صارخاً طالباً النجدة، لايستر جسدي سوي سروال داخلي قصير، وخلفي كان ممدوح يجري عاريا هو الآخر، ممسكاً بنظارته وآثار النوم بادية عليه. ولم يكن كلانا يرتدي سوي الجزء الأسفل من ملابسه الداخلية. وبالتأكيد كان منظراً لشابان مصريان ( لا يسر عدو ولا حبيب ).ويبدو أن حنون وأولاده لم يفهموا الأمر بالشكل السليم. نزع حنون جاكيت البذلة ورمي بالكرافتة خلف ظهره وشمر أكمام القميص الأزرق ونظر تجاهنا مرعوباً:
- حنش بالغرفة .
- ياحنون مش حنش. برص كبير .
- شينو، لؤي روح معاه ياوليدي .
مشي لؤي تجاه الغرفة بتكاسل وهدوء قاتل ثم دخل ونظر حيث كان البرص لا يزال واقفاً مكانه مستمتعاً بالتهام بعض الحشرات . وخرج لؤي ضاحكاً وبنفس مشيته المتكاسلة الهادئة كنا نسير في إثره .
- يابا دا أبو بريص .
وعلت ضحكات حنون ومن حوله من زبائن الفندق الذين كانوا يتابعون الموقف باهتمام بالغ . اقترب مني حنون وراح يفهمني - وهو يكتم ضحكاته - أنه لاضير من أبو بريص، وإنه غير مؤذ، ولايقترب من الآدميين .ربما لخشيته منهم أو لأنه "يقرف". وفي كل الأحوال فهو غير مؤذ علي الإطلاق.
- يعني إيه ياحنون .
- يعني لاتخاف .
رسمت علامات الشجاعة وعدم الخوف فوق وجهي وأجبته:
- مش خايف ياحنون. أنا ما خافش غير من ربنا. بس مش ممكن أنام مع برص .
أكد ممدوح علي كلامي وراح يتأتأ هو الاَخر:
- إحنا مانخافش غير من ربنا.
- لؤي خد ياوليدي البخاخه رشه .
أخذ لؤي بخاخة مملؤة بمبيد حشرات وراح يدفع بحماس المكبس عدة مرات في وجوه من حوله من الزبائن وحين وجدهم يفرون من أمامه اطمئن لعملها. دخل الغرفة ونحن خلفه. أطلق عدة رشات من المبيد تجاه البرص الذي فهم علي الفور أنه غير مرغوب فيه فتحرك ببطء وكسل فوق الجدار، وظل ينظر إلينا، وكأنه يسخر مني ويتوعدني بالمجيء ثانيةً إلي أن خرج خارج الغرفة .
بعد ذلك جاء حنون ليطمئن أن كل شئ علي مايرام .
- تدرى ، هذا فندق محترم. وقد اعتقدنا أنه حنش . ماذا يقولون .
- مين .
- الناس بالخارج . لا شئ يمكن كتمانه في هذا البلد .
ولم يكن بالإمكان إقناع حنون بأن أبو بريص أيضاً يمكن أن يسئ لسمعة الفندق.
كانت جدران الغرفة تنفث بلا هوادة مخزونها الهائل من السعير، والمروحة السقفية لا تفعل أي شئ سوي تقليب الهواء الساخن وإعادته لجسدي المنهك من الحر وعدم النوم. كان يفصلنا عن سطح الفندق جدار يعلوه حاجز سلكي. تركت - دون جدوى - باب الغرفة مفتوحاً علي أمل أن تأتي بعض النسمات الليلية الباردة، ، كل ما هنالك أن نزيلا ً بسطح الفندق اكتشف أن الغرفة بها حمام خاص فاقتحمها دون استئذان. اضطررنا لإغلاق الباب ثانية، فأصبحت الغرفة أشبه تماماً بأحد أفران الخبز. مع قرب الفجر ارتديت ملابسي وخرجت للشارع ورحت أتمشي. كانت هناك بعض النسمات الرقيقة تأتي علي استحياء لكنها كافية لأن أشعر بكم هو الفارق. أخذت قراري بأن أبيت منذ ليلتي التالية بالسطح وعدت مسرعاً لمقابلة حنون الذي ظل يضحك وهو يردد بضعة كلمات واصفاً حر الجنوب.
- وماذا عن ممدوح .
- لا يرغب بالنوم علي السطح .
- يعني سرير واحد . آخر كلام.
من الغريب أن ممدوح رفض تماماً فكرة النوم بسطح الفندق وراح يتأتأ بعدة جمل، فهمت منها أنه ومهما كانت حدة الحر فلن يغادر الغرفة، بل وأحكم إغلاق بابها حتى لا يتكرر ماحدث ثانية.
.
اكتشفت بعد ذلك كم كنت أحمقاً حين رفضت النوم بالسطح، فحين يأتي الليل وتبدأ نسماته الباردة في القدوم لا تشعر إلا بنوع لذيذ من الاسترخاء والهدوء وفوقك السماء صافية وجميلة ومملوءة بكل أنواع النجوم الناصعة. كنت كل مساء أصادق إحداهن ولازلت حتى الآن وكلما نظرت للسماء الواسعة أجدهن بانتظاري، فأبعث إليهن بسلامي وأتمتم في صمت بأماني التي لم تجد حتى الآن مرفأ الأمان. وزادت المتعة بصحبتي لراديو صغير كان باستطاعته أن يسمعني إذاعات مصر وغيرها، كما راحت أغاني عبد الحليم وفريد وعبد الوهاب والست تغوص في أعماقي محركة الشجون والأسى .
كان صوت عبد الحليم ينساب قوياً دافئاً ونبرة حزن خفيفة تغلفه فتمس القلب ، وأردد معه بكل الشوق لمصر:

لولا النهار في جبينك .
لولا الورود في خدودك .
لولا الأمان في وجودك .
ماكنت هويت ولا حبيت .
ولا حسيت بطعم الحب ،
ياعمري .

نعم " لولا الأمان " تلك القيمة الغالية والنادرة التي يفتقدها المصري خارج بلاده. كنت أسأل نفسي دوماً مالجديد في تلك الكلمات وتلك الموسيقي، فكل ذلك كثيراً ما سمعته بالقاهرة دون أن أهتم أو تصيبني تلك الانفعالات. يبدو أنه الحنين للوطن والأهل والحنين للصديق والحنين للحبيبة.
.
..

الجمعة، يونيو ١٥، ٢٠٠٧

7 - حكايات الأغاني .. " ليلة العيد "

.
7 - ليلة العيد ...
.

ليلة العيد من الليالي الجميلة التي تتسابق فيها الأسرة لترتيب وتنظيف المنزل، استعدادا لصباح يوم العيد ، وكثيرا ما جاء العيد دون أن يكتمل رمضان. وكان ذلك يسبب الكثير من العمل والإرباك والتسرع، بخلاف العمل يوم الوقفة - إذا اكتمل رمضان - وكنت أسمع الحاجة تردد بغضب:
- هما مستعجلين علي رمضان ليه؟!! ما يصبروا شويه . دا حته أيامه حلوه. -كل سنه وانت طيبه ياحاجه. ماهم شافوا الهلال خلاص. هلال إيه اللي شافوه. ؟! صدقني دول ما شافوش حاجه. هانقول ايه بس.!!وبالفعل لا داعي للكلام الكثير، وتنشط الحاجه ومعها البنات لنجد البيت - صباح يوم العيد - قد تغير تماما وشعور بالهدوء والسكينة يلفان المنزل بأكمله حتى أنني كنت أقول أن العيد له رائحة جميلة تغلف كل الغرف وتمتزج برائحة الكعك والبسكويت الساخنان، وأيضا رائحة آخر وجبة من الخبز الذي لا تزال الأبخرة تتصاعد منه وهي خارجة من الفرن الصغير. عندها تعلن الحاجة - رسميا ً - وهي تنفض غبار الدقيق عن ملابسها مقدم العيد. وتصيح مرددة وهي تبتسم:
- كل سنه وانتم طيبين ياولاد ، الفطار جاهز.

الجميل انه ومنذ ليلة الأمس وبمجرد الإعلان عن قدوم العيد –بعد ظهور هلاله- يظل الراديو ) الفليبس ) يذيع أغنية الست " يا ليلة العيد" ، و حتى الآن لا أستطيع التفكير بأن العيد يمكنه أن يأتي دون تكرار إذاعة تلك الأغنية خلال الليلة التي تسبقه. وتظل فرحة ليلة العيد معي حتى موعد نومي فأروح في نوم عميق وخيالات جميلة وأحلام أكثر بهجة تداعبني عن ( لبس العيد ) و ( العيدية ) وكم من فلوس ستأتي كعيدية، ومن سيكون أول طارق للباب صباح يوم العيد ليعطيني قروشا قليلة، لكنها كانت كافية أن تجلب لي الفرحة والسعادة بصرفها في ألعاب العيد.

وصباح العيد تتحقق كل أحلامي. أولها الملابس الجديدة الزاهية ثم يبدأ المهنئون بالعيد في القدوم، وتقدم الحاجة الكعك والبسكويت الشهي، وأجمع ثروة قليلة من العيدية، وكلما ازداد المبلغ كنت أشعر بسعادة أكبر، وصوت الست يضيف الكثير من الإحساس بتلك السعادة والفرحة وهي تشدو بأغنيتها الجميلة يا ليلة العيد.

كانت أيام جميلة. كل سنه والجميع بخير
. .

أم كلثوم وياليلة العيد (اضغط)


الثلاثاء، يونيو ١٢، ٢٠٠٧

6 - حكايات الأغاني .." الدكتور عزت وقلبه القاسي. "

.
6 - الدكتور عزت وقلبه القاسي ..
.
أما الدكتور عزت فهو عزت أبو عوف الممثل القدير – حاليا – لكنني سأتحدث عنه أيام كان صاحب فرقة الفور إم . وكان يشارك بالعزف علي الأورج والغناء أيضا . منذ ما يزيد علي الثلاثين سنة كنت أعيش وأعمل ببغداد ، وكانت بغداد تلك الأيام مدينة جميلة ورائعة ، أيام كان يسكنها الإنسان وليس الأبالسة والشياطين كما هي الآن . كانت مدينة يمتزج فيها الحلم بالخيال بالواقع. وتستطيع أن تشم عبق التاريخ الجميل حتى من أسماء أحيائها وشوارعها وميادينها ومن حب ناسها لكل أصيل وجميل . كانت فرقة الفور إم تزور بغداد كثيرا تلك الأيام وحدث نوع من الحب والتقدير من الناس لتلك الفرقة وأعمالها. وكان الدكتور عزت مميزا للغاية وهو يغني أغنية " سعد عبد الوهاب - قلبي القاسي ". واعترف أنني كنت واحدا من المبهورين بجمال صوت الدكتور عزت وطريقته في الأداء . وأتذكر أثناء أحد الحفلات - ولعلها كانت في الزيارة الأخيرة لهم لبغداد -انه غناها لعدة مرات بناء علي طلب الجمهور حتي أن صوته ضاع منه ولم يعد قادرا علي غنائها بالحفلة التالية وناشد الجمهور – بصوت مبحوح - أن يعفيه من غناء تلك الأغنية وأمام إصرارهم غناها أحد أعضاء الفرقة وبالطبع لم تكن بجمال أداء الدكتور.

وعد الدكتور عزت جمهوره في بغداد بأنه سيعود ليغني لبغداد الجميلة ولناسها عندما يأتي النصر النهائي. وكانت أيامها تدور حرب "العراق – إيران" وتتصاعد بوتيرة وهمجية كبيرتان لتنال - دون تفرقة بين الشيعي والسني والمسيحي في كل من بغداد وطهران من الأبرياء والأطفال والنساء فيما عرف بحرب المدن.

أرجو أن يفي الدكتور عزت بوعده ويعود ثانية ليغني للسلام وللحب وللناس في بغداد مدينة السلام. بغداد الآمنة من الشر والخالية من الغربان والبوم والأبالسة والشياطين الذين يعششون بشوارعها وأزقتها وميادينها الآن. وهذا هو النصر والانتصار النهائي الذي نأمل وندعو الله بقدومه السريع لبغداد ولأهلها ولكل العراق والعراقيين.
.
.
.
..

الأحد، يونيو ١٠، ٢٠٠٧

5 - حكايات الأغاني ... "عبد المطلب والدكتور بوارو."

.
5 - عبد المطلب والدكتور بوارو

أحب الاستماع لطلب بل أعتبر نفسي واحدا من عشاق أغانيه. أتذكر أن أول شئ اشتريته فور تخرجي من الجامعة وبدء عملي هو شراء راديو ( ثلاث موجات )، وقد أتاح لي هذا الكنز أن أتنقل عبر محطات إذاعية عديدة لأستمع إلي العديد من ألوان الغناء والموسيقي، إضافة طبعا للأخبار والتعليقات الأدبية والسياسية. كان لي صديق – كنت قد تعرفت عليه تلك الفترة - كنت أسميه الدكتور بوارو، لأنه في الحقيقة كان قريب الشبه في كل شئ منه. والدكتور بوارو هو أحد الشخصيات الهامة التي ابتدعتها الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي لرواياتها البوليسية. وهو بطبيعة الحال كان حلال العقد ومكتشف الفاعل أو المجرم في الراواية.
.
كان الدكتور بوارو قصيرا ويميل للسمنة، ورأسه ليست صلعاء تماما ولكنها تسير بخطي حثيثة نحو الصلع الكامل، مما كان يجبر الدكتور علي تسريح المتبقي من شعره بطريقة ملفتة للنظر. وهو قبل كل شئ كان مشهورا بشاربه الضخم. وكلما استعصت المشكلة أو الجريمة التي يتعامل معها لم يكن أمامه سوي العبث بهذا الشارب الضخم.
.
زارني صديقي يوما ما وكنت مشغولا بالاستماع لطلب في واحدة من أغانيه الجميلة " شفت حبيبي". كان الراديو موضوعا بشكل استعراضي فوق منضدة عتيقة وكنت أفضل أن أرفع (الأريال) المعدني للراديو وبدون أي داع طبعا، حتى أضيف لشكل (القعدة) المهابة اللازمة، مع صينية صغيرة للشاي، وبراد الشاي فوقها، وكوبين بكل واحد عود نعناع أخضر. كانت تلك هي طقوس متعتي عند استقبال أحد الأصدقاء. شرط واحد كنت أسأل أصدقائي أن يحافظوا علي طقوسي الخاصة - في حالة الاستماع للراديو – وهو أن نتوقف عن الحديث والحوار حتى ننتهي مما نسمعه أو أسمعه. كنا ننشغل بشرب الشاي الممزوج بالنعناع والتدخين في صمت حتى ينتهي ما نسمعه سواء كانت أغنية أو برنامج أو تعليق إخباري.
.
لاحظت أن صديقي بوارو كان يرتشف الشاي وهو ينظر إلي نظرات باردة، وابتسامة ساخرة تغطي وجهه، ثم سرعان ما أخذت أصابعه تعبث بشاربه الضخم. وراح يحاول جاهدا جذب عدة شعرات محاولا اقتلاعها. هنا فطنت أن هناك أمر جلل وان بوارو ليس علي ما يرام. علي كل مع اقتراب الأغنية من نهايتها كان بوارو قد نجح في انتزاع الشعرة الثالثة من شاربه ثم راح يسويه بهدوء وهو ينظر إلي نظراته الباردة الغريبة. ثم قال ساخرا: إذن فأنت تحب طلب؟!! أجبته بالإيجاب ، وحاولت أن أوضح له كيف يتسلل صوت طلب بداخلي، ويخلقلي حالة من المتعة، خاصة مع الموسيقي الجميلة لملحنين كبار مثل الشريفوعبد الوهاب واحمد صدقي وغيرهم. غير أن بوارو قاطعني وقد ارتسمت علي وجهه علامات القرف وراح يعبث بشاربه ثانية. نظرت اليه مبتسماً: " وبعدين معاك ياعم بوارو؟ هوه طلب وحش في ايه؟َ!!! وانت ياعني بتحب مين؟"
كنت أتخيل انه سيقول انه يحب حليم أو فريد أو عبد الوهاب أو شادية أو ورده أو نجاة أو محرم أو....... الخ أسماء الكبار آنذاك. وكنا بطبيعة الحال نحبهم جميعا غير أن هناك حب مضاف للبعض منهم . إلا انه فاجأني بأن قال لي انه لا يهتم كثيرا بكل تلك الأسماء وانه لا يعترف بأحد سوي بعبد العزيز محمود، الذي يعشق الاستماع إليه.
أخذت أضحك بصوت عال وأنا أنظر إليه في دهشة وكأن الدور جاء علي لأرد له نظراته وتهكمه. "ولله في خلقه شئون ياعم بوارو . يعني انت بتحب عبد العزيز محمود وأنا باحب طلب. إيه المشكله ؟ زعلان مني ليه.؟!" "طبعا أزعل. فرق كبير بين الاتنين وليس هناك مجال للمقارنه. عبد العزيز مفيش غيره. سمعته له أغنية حب العزيز؟". "ولا تزعل نفسك ياعم بوارو عبد العزيز محمود بالفعل مفيش غيره".
.
الجميل في الأمر أن الحاجة علمت بتلك القصة فسألتني بعتاب شديد" " إنت مزعل بورو ليه؟ مش عيب؟!" أخذت أطمئنها بأنه لا يوجد أي نوع من الزعل بيني وبين الدكتور بوارو. فما كان منها إلا أن قالت "دا حته حرام عليك. الولد يتيم". "ياحاجه دا عدي الخمسين. يتيم إيه بس؟!!" أصرت علي موقفها وراحت تتذكر " مش بورو ده يبقي ابن الست سعاد مديرة المدرسة؟" صحيح ياحاجه هي كانت مديره بس هيه علي المعاش لها مدة كبيره". " اهو برضه الولد يتيم وحرام عليك تزعله". "حاضر ياحاجه هاروح اصالحه وابوس راسه كمان".
ولخاطر الحاجه فقد دعوت الدكتور بوارو وزوجته وأولاده الثلاثة علي وجبة غداء محترمه كلفتني الكثير من المال. خاصة وأننا نشترك سوياً في حب الطعام الدسم ونستطيع أن نأكل من أصنافه المختلفة الكثير. كانت مائدة عامرة بكل ما لذ وطاب من لحوم الضأن والدجاج " البلدي" والبط والحمام مع الكثير من أطباق المحاشي والحلوى. قلت له ونحن نرتشف الشاي: لخاطر الحاجة دعوتك لتلك العزومة. هل أنت راض الآن؟!! قال ضاحكاً: إحنا اخوات وعمرنا مانزعل من بعض. بس سمعنا حاجه لعبد العزيز محمود.
.
كلما استمعت لطلب أتذكر تلك الحادثة خاصة وليمة الغداء وكم استنزفت من نقود. وأتذكر أيضاً صديقي العزيز – مساه الله بكل خير – الدكتور بوارو وشاربه الضخم ويبدو انه بالفعل "الناس فيما يعشقون مذاهب" .
لازلت أحب طلب وأغانيه ، ومع الأيام ثبت صحة رأيي، فأصبحت أغانيه جواز مرور للكثير من المطربين نحو عالم الشهرة والنور.أهديكم اليوم احدي أغانيه الجميلة ( بياع الهوى ) بصوت مطربة شابة بأحد الفرق المصرية الصغيرة والمحترمة خلال أحد حفلاتهم بمسرح القلعة.


.
.
.
.
.
.

الخميس، يونيو ٠٧، ٢٠٠٧

4 - حكايات الأغاني .. " الهزيمة والحلم الكبير."

.
4 - الهزيمة والحلم الكبير..

كانت السنوات التي تلت هزيمتنا من إسرائيل في حرب يونيو 67 قاسية ومريرة علي نفوسنا وأرواحنا. كنت في تلك الفترة في بداية دراستي الجامعية. وكنت أشعر - ومعي الكثيرون - بنوع من الانكسار الداخلي وفقدان الكثير من الثوابت التي ظلت راياتها لعهد قريب ترفرف فوق رؤوسنا وتدغدغ أحلامنا وخيالنا بوطن قوي ودولة عظيمة.
.
لكننا لم نستسلم لهذا الانكسار ولا لهذا التمزق الذي أصابنا وبدأنا ندرك أن الأحلام العظيمة تستلزم جهدا أعظم وعقولاً واعية متحضرة ونفوسا متحررة من الخوف وقادرة - أولا - علي مقارعة ظلم السلطان وكلاب حراسته. وهي قادرة بالتأكيد - بعد ذلك - علي دحر الإسرائيليين وهذا ما حدث.كانت تلك السنين هي أحد الخطوات الهامة للبحث عن الحرية بشكلها الحقيقي. الحرية للوطن ولكل الناس وليس للحاكم وعساكره. وشهدت السجون والمعتقلات الزج بالعديد من التيارات المستنيرة من أقصي اليمين لأقصي اليسار.
.
لا أنسي كيف كنا نحيا تلك السنين مع فيضان المجاري الدائم - وتهالك البنية التحتية لجميع المدن المصرية ، والمسامير وخيوط الدوبار وحتى الحشرات بالخبز الأسمر الذي كنا نتدافع لشرائه . وترحيل سكان ثلاث محافظات - من مدنهم وقراهم - بطول خط قناة السويس. وما يعنيه ذلك من أزمات في كل شئ. وسط كل ذلك كان هناك المبشرون بالنهار الجديد في القصيدة والقصة والمقال والرواية والأغنية . كان الوطن عظيما حتي في تلك اللحظات المريرة ولم يفارقنا حلم الغد الأحسن للحظة واحدة.

عدي النهار أغنية ( حليم - الأبنودي - بليغ ) تذكرني بأكثر مما قلت . تذكرني بسنين كانت طويلة للغاية وثقيلة كالجبال لكنها ساهمت في تشكيل شخصياتنا وعقولنا وتفكيرنا. وفي رأيي أن أغنية موال النهار أحد أهم النماذج لبشارة الغد وهي برأيي لا تزال تبشر بنهار قادم أجمل وأدفأ لنا جميعاً.
عفوا - أطلت وأثقلت عليكم.
..
..
..
.

الأربعاء، يونيو ٠٦، ٢٠٠٧

3 - حكايات الأغاني ..." الضحك على عقول الأطفال."

.
3 - الضحك علي عقول الأطفال..

أحب أغاني الأطفال – رغم قلتها – فهي تسعدني وتضيف لي نوع جميل وهادئ من التفاؤل وأيضا ترسم علي وجهي بسمة أمل في الغد. غير أنني دائما ما أردد بأننا نحب أن نري في أطفالنا ما نفتقده فينا من براءة وعفوية وضحك من القلب وألفة وحب لمن حولنا.
لا أستطيع أن أنسي موقفاً حدث أمامي له علاقة بذلك الموضوع. كنت في أحد المكتبات لشراء بعض الأدوات الكتابية . دخل رجل يرتدي جلابية بيضاء وفوق رأسه طاقية مشغولة والتي غالبا ما تأتي كهدية مع القادمين من الحج ، وبالمناسبة الجلابية البيضاء والطاقية صناعة صينية أو تايلندية. المهم ، كان الرجل ممسكا بيد طفله الذي لم يتجاوز الست سنوات، وكان الطفل يرتدي أيضا جلابية بيضاء مشابهة لجلابية والده، ويضعون فوق رأسه طاقية أيضا مثل التي فوق رأس والده. وعلامات السمنة الزائدة ظاهرة بوضوح فوق جسد الطفل الصغير. كان المشهد غريبا وكأنه أحد المشاهد في حفلة تنكرية. أحسست انه مشهد تمثيلي فيه افتعال وكذب، وأيضا شعرت بالشفقة علي هذا الطفل المسكين.
ويبدو أنه كانت هناك علاقة معرفة بين صاحب المكتبة وهذا القادم. فأخذ يرحب به ويسلم علي الطفل، ثم سأل الرجل عن أحوال صغيره. اندفع الرجل يقول بسرعة وفخر أن طفله لا يفوته فرض بما في ذلك صلاة الفجر حيث يصطحبه إلي الجامع وأنه ( أي الطفل ) وبسم الله ماشاء الله قد انتهي من حفظ أربعة أجزاء من القراَن الكريم.

في الحقيقة أنا ليس لدي اعتراض بالمرة علي ذهاب الطفل للصلاة بالجامع، ولا حفظه للقراَن. اعتراضي أن الرجل يشكل طفله علي الصورة، والهيئة، والفهم وكما يريد هو. وبالتأكيد نجح في مسعاه بتسمين ( تزغيط ) الطفل وتحويله إلي مسخ يمشي خلفه. ونسي عن عمد وجهل وغباء أن ابنه لا يزال طفلا وهو بحاجة أن يعيش فترة طفولته بشكل آخر غير ما يصر علي فعله معه.

وحين يكبر الطفل، يكون وعيه قد تشكل وكبر معه، وثقته بنفسه قد ازدادت ونضجت، وفهمه الصحيح والسليم - وليس فهم الكبار وكما يريدون له - قد تحدد. والأهم انه لن يفقد – رغم كل ذلك - تلك البذرة الطيبة، التي أودعها الله بداخله منذ طفولته، وأعني بذرة الحرية .
هناك الكثير من الدول فطنت لذلك فأعطت حقوقا لأطفالها مكتوبة ومدعومة بقوة القانون. ولأن المجتمع هناك اَمن بذلك عن وعي وثقافة وفهم، فستجد أن حقوق الأطفال في ازدياد مستمر. ولن يجرؤ أحد – هناك - علي تلويث شخصية الطفل، ولا تشكيلها كما يريد أو كما يتمني. زرت أحد تلك الدول وسميتها بدولة الأطفال.!!! . وهذا أحد الفوارق بيننا وبينهم .

وبالفعل لن يفيدنا – هنا - الابتسامات الصفراء، ولا الضحك من تحت الضرس، ولا الأحجبة التي نضعها حول أعناق الأطفال في إخفاء كذبنا المستمر، وخداعنا الدائم لهم. سيأتي يوم يدرك فيه الطفل أن شخصيته قد تشكلت بشكل خاطئ، وأن والديه قد ساهما لحد بعيد في مسخ شخصيته، وأنهم قد تآمرا عليه مع الباقين ليشكلوا شخصيات هزيلة ومريضة ومشوشة لأطفالهم.

المجتمع - ولأسباب كثيرة - بارع في جهله وغبائه وتشدده الأحمق في حقن الأطفال بثقافة العيب والحرام والخوف الذي يصل لحد زرع الرعب والهلع - من الله - في قلوب الأطفال الصغيرة والخضراء. حتى أنهم يتفننون في قصص وروايات الجحيم والعذاب الذي يجهزه الله لهم، وبما يضمره من عذاب لهم حتى أنه يتتبع خطاهم بالعذاب والغضب في الدنيا، وحتى عند الموت في القبر، ثم في الآخرة بنار لا تشبع وتطلب المزيد.

سيأتي يوم للطفل، لكنه سيكون متأخرا، وسيكون قد خسر الكثير أيضا، بعدما يفقد الكثير من حريته، وإدراكه السوي، لكنه سيأتي. وسيتوجب عليه البدء من جديد في فهم الكون، وقبول الآخرين من (الناس) علي مختلف دياناتهم وأفكارهم والتعامل معهم. وفهم وإدراك العلاقة السوية وليست المريضة مع الله الرحمن الرحيم السلام اللطيف الحليم التواب النور الرؤوف الكريم العفو الهادي البديع الغفور. الجميل المحب للجمال.
اتركوا الأطفال يعيشون طفولتهم ويتمتعون بها. اتركوهم يغنون ويمرحون ويلعبون. واسمعوهم بفهم وبقلوب سليمة.
..
.
.

الأحد، يونيو ٠٣، ٢٠٠٧

2 - حكايات الأغاني ... " أنا وشهرزاد والسحور في رمضان."

.
2 – انا وشهر زاد والسحور في رمضان

زمان، كانت مشكلتي الكبيرة مع رمضان هي أن أصحو من النوم للسحور. خاصة حين كان رمضان يأتي في عز الشتاء. وكانت هناك بالفعل معارك تحدث ، وشد وجذب للحاف الدافئ الذي يغطيني. وكنت كلما صحوت تلتقط أذناي صوت موسيقي هادرة قادمة من الراديو "الفيلبس" الذي كان والدي مسئولا عنه. كانت موسيقي برنامج أحلي القصص، وهي موسيقي بجد معبرة ورائعة. وكنت أتكاسل في الاستيقاظ لتلتقط أذناي أصوات فخمة لممثلين كبار وهم يؤدون أدوارهم ببراعة شديدة، وتزيد الموسيقي من وقع الأحداث، حتى أنني كنت أحس بهبوب العواصف وصوت الرياح في الصحراء وما تحمله من رمال. وتتعالي الموسيقي ويتزايد صوت قرع الطبول مع أصوات الكهنة في معابدهم وهم يحيكون المؤامرات لؤاد الدين الجديد لأنه يخالف دينهم ويهدد بالقضاء علي آلهتهم . هل من أحد يتذكر ذلك البرنامج الرائع؟!!.
.
كانت حلقة ألف ليلة وليلة تأتي قبل هذا البرنامج وكان علي أن أستمع - إذا ما أيقظوني مبكراً - للحن المميز لألف ليلة ولصوت الفنانة القديرة زوزو نبيل وهي تؤدي شخصية شهر زاد. وأسبح معها دقائق في بحر من الخيال والمتعة بشخصية تلك المرأة - شهر زاد – الثرية وجمالها وذكائها وأنوثتها الطاغية وحكاياتها الجميلة.

وحين كبرت أدركت أنني كنت بشكل ما علي حق. يبدو أن المرأة مزودة بكثير من الأسلحة القوية مقابل أسلحة "خايبه" وقليلة مع الرجل. ربما لهذا السبب يطلب الرجل من المرأة الكثير. وهي لديها علي الدوام معين لا ينفذ من الحب والعطاء والجمال والذكاء كي تجعل الرجل - دائما - منجذبا إليها وأسيراً لهواها . فما بالك بامرأة بمواصفات شهر زاد.
كانت أيام جميلة.…
أهدي الأصدقاء المعزوفة الأصلية لشهر زاد للملحن الروسي ريمسكي كورساكوف. لن تندموا لسماعها.
.
.
.

الجمعة، يونيو ٠١، ٢٠٠٧

1 - حكايات الأغاني .. "حبيتك بالصيف ومقام سيدي الولي."

.
1 - حبيتك بالصيف ومقام سيدي الولي ...
.
نحب الأغاني لجمال الموسيقي أوالأداء، وربما لسبب آخر هام وهو أن الكثير من الأغاني التي نحبها لها حكاية أو حكايات معنا. ما رأيكم أن نبدأ بسرد ذكرياتنا مع بعض الأغاني التي نحبها أو نسرد حكايتنا مع تلك الأغاني. أعتقد ان الفكرة جميلة وربما ستدور معظم الحكايات حول الجانب الرومانسي لفترة من فترات عمرنا ( وماله مش عيب !!! ) وبالتأكيد هناك حكايات أخري غير رومانسية مثل التي سأحكيها عن أغنية فيروز الجميلة ( حبيتك بالصيف ).

أتذكر انه - ربما - في الستينيات من القرن الماضي.! تجعلني كلمة (القرن الماضي) أضحك بصوت عال، يبدو أنني صرت عجوزا بالفعل.!! المهم كانت ألأسره تعيش في أحد المدن المصرية الصغيرة والجميلة آنذاك وكان منزلنا يقع فوق هضبة عالية وبالأسفل كانت هناك حديقة كبيرة يحدها من الجانبان طريقان صاعدان ليصلا أسفل المدينة بالجزء العالي الذي كان به منزلنا، وكان أهل المدينة يسميان الطريق الصاعد بالمطلع.
كان هناك مقاماً صغيراً لأحد أولياء الله الصالحين يتوسط المطلع اليمين، وعلي جانبه الأيمن. وهو علي الدوام مطليا بألوان زاهية، خطوط عريضة زرقاء وبيضاء وتعلوه قبة جميلة وصغيرة بيضاء اللون. وبضعة درجات لسلم تكسرت حوافه تصل لباب المقام الخشبي العتيق.

في صباح أحد أيام الشتاء. كانت الشمس دافئة، وكما لو كانت المدينة بأكملها لا تزال نائمة، أو لعلها كانت تنصت معي لتلك الأغنية الجميلة ( حبيتك في الصيف ) والتي كانت تصدر من أحد المسجلات والذي وضعه صاحبه فوق أحد درجات سلم المقام.
ورغم طول المسافة وبعد الزمن غير أنني لا يمكن أن أنسي ذلك المشهد الرائع كلما استمعت لتلك الأغنية الجميلة. رائحة الشتاء وجمال الهدوء لمدينة لا تزال نائمة، أو تستمع للأغنية، والحديقة الكبيرة الرابضة بالأسفل بأشجارها العالية، وقبة المقام الصغيرة البيضاء والمسجل الموضوع علي أحد درجات السلم المكسورة لمقام أحد الأولياء الصالحين. وفيروز تصدح حبيتك بالصيف.
.

.