الأحد، يونيو ١٧، ٢٠٠٧

8 - حكايات الأغاني .." عبد الحليم وأيام الغربة. "

.
8 – عبد الحليم وأيام الغربة ...
-
"هل جرب أحدكم النوم بأحد الفنادق الصغيرة في أحد مدن الجنوب العراقي وفي شهر يوليو ( تموز ) بغرفة مغلقة ليس بها سوي مروحة سقفية .انه الجحيم بعينه".
كان حنون – صاحب الفندق - محقاً فلم نستطع المبيت داخل الغرفة سوي لعدة ليالي قليلة للغاية . كانت ليالي لا تنسي. في الليلة الثالثة أو الرابعة وفور رقودي فوق السرير الساخن رحت أنظر بإمعان إلي المروحة السقفية وهي تئن وتدور دون جدوى . كنت أحدث نفسي بأننا أشبه بتلك المروحة القديمة المتهالكة، ما الجدوى من رحيلي ووضعي في تلك الغرفة الضيقة الساخنة. وبينما أستعد للإجابة علي هذا السؤال محاولاً إقناع نفسي بأن هناك ثمة فائدة من قدومي، وأن هناك فارق كبير بيني وبين تلك المروحة. وقبل أن أصل لنوع من الرضي لوصولي لتلك النتيجة، إذ بي ألمح ( برص ) ضخم للغاية يمشي متلصصاً بجوار اللمبة النيون الملتصقة بالجدار ناظراً تجاهي مقترباً ببطء يثير الهلع من سريري. كان برصاً ضخماَ وشكله مقزز وجلده شفاف ويكشف عن كرش ضخم، للحد الذي تستطيع أن تري بوضوح أحشاءه الداخلية الممتلئة.
بالكاد استطعت أن أقول وبصوت متحشرج من الخوف لكنه عال " ياليلة سودا " ثم نهضت من فوق السرير فزعاً صارخاً طالباً النجدة، لايستر جسدي سوي سروال داخلي قصير، وخلفي كان ممدوح يجري عاريا هو الآخر، ممسكاً بنظارته وآثار النوم بادية عليه. ولم يكن كلانا يرتدي سوي الجزء الأسفل من ملابسه الداخلية. وبالتأكيد كان منظراً لشابان مصريان ( لا يسر عدو ولا حبيب ).ويبدو أن حنون وأولاده لم يفهموا الأمر بالشكل السليم. نزع حنون جاكيت البذلة ورمي بالكرافتة خلف ظهره وشمر أكمام القميص الأزرق ونظر تجاهنا مرعوباً:
- حنش بالغرفة .
- ياحنون مش حنش. برص كبير .
- شينو، لؤي روح معاه ياوليدي .
مشي لؤي تجاه الغرفة بتكاسل وهدوء قاتل ثم دخل ونظر حيث كان البرص لا يزال واقفاً مكانه مستمتعاً بالتهام بعض الحشرات . وخرج لؤي ضاحكاً وبنفس مشيته المتكاسلة الهادئة كنا نسير في إثره .
- يابا دا أبو بريص .
وعلت ضحكات حنون ومن حوله من زبائن الفندق الذين كانوا يتابعون الموقف باهتمام بالغ . اقترب مني حنون وراح يفهمني - وهو يكتم ضحكاته - أنه لاضير من أبو بريص، وإنه غير مؤذ، ولايقترب من الآدميين .ربما لخشيته منهم أو لأنه "يقرف". وفي كل الأحوال فهو غير مؤذ علي الإطلاق.
- يعني إيه ياحنون .
- يعني لاتخاف .
رسمت علامات الشجاعة وعدم الخوف فوق وجهي وأجبته:
- مش خايف ياحنون. أنا ما خافش غير من ربنا. بس مش ممكن أنام مع برص .
أكد ممدوح علي كلامي وراح يتأتأ هو الاَخر:
- إحنا مانخافش غير من ربنا.
- لؤي خد ياوليدي البخاخه رشه .
أخذ لؤي بخاخة مملؤة بمبيد حشرات وراح يدفع بحماس المكبس عدة مرات في وجوه من حوله من الزبائن وحين وجدهم يفرون من أمامه اطمئن لعملها. دخل الغرفة ونحن خلفه. أطلق عدة رشات من المبيد تجاه البرص الذي فهم علي الفور أنه غير مرغوب فيه فتحرك ببطء وكسل فوق الجدار، وظل ينظر إلينا، وكأنه يسخر مني ويتوعدني بالمجيء ثانيةً إلي أن خرج خارج الغرفة .
بعد ذلك جاء حنون ليطمئن أن كل شئ علي مايرام .
- تدرى ، هذا فندق محترم. وقد اعتقدنا أنه حنش . ماذا يقولون .
- مين .
- الناس بالخارج . لا شئ يمكن كتمانه في هذا البلد .
ولم يكن بالإمكان إقناع حنون بأن أبو بريص أيضاً يمكن أن يسئ لسمعة الفندق.
كانت جدران الغرفة تنفث بلا هوادة مخزونها الهائل من السعير، والمروحة السقفية لا تفعل أي شئ سوي تقليب الهواء الساخن وإعادته لجسدي المنهك من الحر وعدم النوم. كان يفصلنا عن سطح الفندق جدار يعلوه حاجز سلكي. تركت - دون جدوى - باب الغرفة مفتوحاً علي أمل أن تأتي بعض النسمات الليلية الباردة، ، كل ما هنالك أن نزيلا ً بسطح الفندق اكتشف أن الغرفة بها حمام خاص فاقتحمها دون استئذان. اضطررنا لإغلاق الباب ثانية، فأصبحت الغرفة أشبه تماماً بأحد أفران الخبز. مع قرب الفجر ارتديت ملابسي وخرجت للشارع ورحت أتمشي. كانت هناك بعض النسمات الرقيقة تأتي علي استحياء لكنها كافية لأن أشعر بكم هو الفارق. أخذت قراري بأن أبيت منذ ليلتي التالية بالسطح وعدت مسرعاً لمقابلة حنون الذي ظل يضحك وهو يردد بضعة كلمات واصفاً حر الجنوب.
- وماذا عن ممدوح .
- لا يرغب بالنوم علي السطح .
- يعني سرير واحد . آخر كلام.
من الغريب أن ممدوح رفض تماماً فكرة النوم بسطح الفندق وراح يتأتأ بعدة جمل، فهمت منها أنه ومهما كانت حدة الحر فلن يغادر الغرفة، بل وأحكم إغلاق بابها حتى لا يتكرر ماحدث ثانية.
.
اكتشفت بعد ذلك كم كنت أحمقاً حين رفضت النوم بالسطح، فحين يأتي الليل وتبدأ نسماته الباردة في القدوم لا تشعر إلا بنوع لذيذ من الاسترخاء والهدوء وفوقك السماء صافية وجميلة ومملوءة بكل أنواع النجوم الناصعة. كنت كل مساء أصادق إحداهن ولازلت حتى الآن وكلما نظرت للسماء الواسعة أجدهن بانتظاري، فأبعث إليهن بسلامي وأتمتم في صمت بأماني التي لم تجد حتى الآن مرفأ الأمان. وزادت المتعة بصحبتي لراديو صغير كان باستطاعته أن يسمعني إذاعات مصر وغيرها، كما راحت أغاني عبد الحليم وفريد وعبد الوهاب والست تغوص في أعماقي محركة الشجون والأسى .
كان صوت عبد الحليم ينساب قوياً دافئاً ونبرة حزن خفيفة تغلفه فتمس القلب ، وأردد معه بكل الشوق لمصر:

لولا النهار في جبينك .
لولا الورود في خدودك .
لولا الأمان في وجودك .
ماكنت هويت ولا حبيت .
ولا حسيت بطعم الحب ،
ياعمري .

نعم " لولا الأمان " تلك القيمة الغالية والنادرة التي يفتقدها المصري خارج بلاده. كنت أسأل نفسي دوماً مالجديد في تلك الكلمات وتلك الموسيقي، فكل ذلك كثيراً ما سمعته بالقاهرة دون أن أهتم أو تصيبني تلك الانفعالات. يبدو أنه الحنين للوطن والأهل والحنين للصديق والحنين للحبيبة.
.
..

ليست هناك تعليقات: