الأحد، يونيو ١٠، ٢٠٠٧

5 - حكايات الأغاني ... "عبد المطلب والدكتور بوارو."

.
5 - عبد المطلب والدكتور بوارو

أحب الاستماع لطلب بل أعتبر نفسي واحدا من عشاق أغانيه. أتذكر أن أول شئ اشتريته فور تخرجي من الجامعة وبدء عملي هو شراء راديو ( ثلاث موجات )، وقد أتاح لي هذا الكنز أن أتنقل عبر محطات إذاعية عديدة لأستمع إلي العديد من ألوان الغناء والموسيقي، إضافة طبعا للأخبار والتعليقات الأدبية والسياسية. كان لي صديق – كنت قد تعرفت عليه تلك الفترة - كنت أسميه الدكتور بوارو، لأنه في الحقيقة كان قريب الشبه في كل شئ منه. والدكتور بوارو هو أحد الشخصيات الهامة التي ابتدعتها الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي لرواياتها البوليسية. وهو بطبيعة الحال كان حلال العقد ومكتشف الفاعل أو المجرم في الراواية.
.
كان الدكتور بوارو قصيرا ويميل للسمنة، ورأسه ليست صلعاء تماما ولكنها تسير بخطي حثيثة نحو الصلع الكامل، مما كان يجبر الدكتور علي تسريح المتبقي من شعره بطريقة ملفتة للنظر. وهو قبل كل شئ كان مشهورا بشاربه الضخم. وكلما استعصت المشكلة أو الجريمة التي يتعامل معها لم يكن أمامه سوي العبث بهذا الشارب الضخم.
.
زارني صديقي يوما ما وكنت مشغولا بالاستماع لطلب في واحدة من أغانيه الجميلة " شفت حبيبي". كان الراديو موضوعا بشكل استعراضي فوق منضدة عتيقة وكنت أفضل أن أرفع (الأريال) المعدني للراديو وبدون أي داع طبعا، حتى أضيف لشكل (القعدة) المهابة اللازمة، مع صينية صغيرة للشاي، وبراد الشاي فوقها، وكوبين بكل واحد عود نعناع أخضر. كانت تلك هي طقوس متعتي عند استقبال أحد الأصدقاء. شرط واحد كنت أسأل أصدقائي أن يحافظوا علي طقوسي الخاصة - في حالة الاستماع للراديو – وهو أن نتوقف عن الحديث والحوار حتى ننتهي مما نسمعه أو أسمعه. كنا ننشغل بشرب الشاي الممزوج بالنعناع والتدخين في صمت حتى ينتهي ما نسمعه سواء كانت أغنية أو برنامج أو تعليق إخباري.
.
لاحظت أن صديقي بوارو كان يرتشف الشاي وهو ينظر إلي نظرات باردة، وابتسامة ساخرة تغطي وجهه، ثم سرعان ما أخذت أصابعه تعبث بشاربه الضخم. وراح يحاول جاهدا جذب عدة شعرات محاولا اقتلاعها. هنا فطنت أن هناك أمر جلل وان بوارو ليس علي ما يرام. علي كل مع اقتراب الأغنية من نهايتها كان بوارو قد نجح في انتزاع الشعرة الثالثة من شاربه ثم راح يسويه بهدوء وهو ينظر إلي نظراته الباردة الغريبة. ثم قال ساخرا: إذن فأنت تحب طلب؟!! أجبته بالإيجاب ، وحاولت أن أوضح له كيف يتسلل صوت طلب بداخلي، ويخلقلي حالة من المتعة، خاصة مع الموسيقي الجميلة لملحنين كبار مثل الشريفوعبد الوهاب واحمد صدقي وغيرهم. غير أن بوارو قاطعني وقد ارتسمت علي وجهه علامات القرف وراح يعبث بشاربه ثانية. نظرت اليه مبتسماً: " وبعدين معاك ياعم بوارو؟ هوه طلب وحش في ايه؟َ!!! وانت ياعني بتحب مين؟"
كنت أتخيل انه سيقول انه يحب حليم أو فريد أو عبد الوهاب أو شادية أو ورده أو نجاة أو محرم أو....... الخ أسماء الكبار آنذاك. وكنا بطبيعة الحال نحبهم جميعا غير أن هناك حب مضاف للبعض منهم . إلا انه فاجأني بأن قال لي انه لا يهتم كثيرا بكل تلك الأسماء وانه لا يعترف بأحد سوي بعبد العزيز محمود، الذي يعشق الاستماع إليه.
أخذت أضحك بصوت عال وأنا أنظر إليه في دهشة وكأن الدور جاء علي لأرد له نظراته وتهكمه. "ولله في خلقه شئون ياعم بوارو . يعني انت بتحب عبد العزيز محمود وأنا باحب طلب. إيه المشكله ؟ زعلان مني ليه.؟!" "طبعا أزعل. فرق كبير بين الاتنين وليس هناك مجال للمقارنه. عبد العزيز مفيش غيره. سمعته له أغنية حب العزيز؟". "ولا تزعل نفسك ياعم بوارو عبد العزيز محمود بالفعل مفيش غيره".
.
الجميل في الأمر أن الحاجة علمت بتلك القصة فسألتني بعتاب شديد" " إنت مزعل بورو ليه؟ مش عيب؟!" أخذت أطمئنها بأنه لا يوجد أي نوع من الزعل بيني وبين الدكتور بوارو. فما كان منها إلا أن قالت "دا حته حرام عليك. الولد يتيم". "ياحاجه دا عدي الخمسين. يتيم إيه بس؟!!" أصرت علي موقفها وراحت تتذكر " مش بورو ده يبقي ابن الست سعاد مديرة المدرسة؟" صحيح ياحاجه هي كانت مديره بس هيه علي المعاش لها مدة كبيره". " اهو برضه الولد يتيم وحرام عليك تزعله". "حاضر ياحاجه هاروح اصالحه وابوس راسه كمان".
ولخاطر الحاجه فقد دعوت الدكتور بوارو وزوجته وأولاده الثلاثة علي وجبة غداء محترمه كلفتني الكثير من المال. خاصة وأننا نشترك سوياً في حب الطعام الدسم ونستطيع أن نأكل من أصنافه المختلفة الكثير. كانت مائدة عامرة بكل ما لذ وطاب من لحوم الضأن والدجاج " البلدي" والبط والحمام مع الكثير من أطباق المحاشي والحلوى. قلت له ونحن نرتشف الشاي: لخاطر الحاجة دعوتك لتلك العزومة. هل أنت راض الآن؟!! قال ضاحكاً: إحنا اخوات وعمرنا مانزعل من بعض. بس سمعنا حاجه لعبد العزيز محمود.
.
كلما استمعت لطلب أتذكر تلك الحادثة خاصة وليمة الغداء وكم استنزفت من نقود. وأتذكر أيضاً صديقي العزيز – مساه الله بكل خير – الدكتور بوارو وشاربه الضخم ويبدو انه بالفعل "الناس فيما يعشقون مذاهب" .
لازلت أحب طلب وأغانيه ، ومع الأيام ثبت صحة رأيي، فأصبحت أغانيه جواز مرور للكثير من المطربين نحو عالم الشهرة والنور.أهديكم اليوم احدي أغانيه الجميلة ( بياع الهوى ) بصوت مطربة شابة بأحد الفرق المصرية الصغيرة والمحترمة خلال أحد حفلاتهم بمسرح القلعة.


.
.
.
.
.
.

ليست هناك تعليقات: