السبت، أغسطس ٣٠، ٢٠٠٨

10 - حكايات مسافر .."ماذا تريد إيران؟!" ( تكملة )


ويبدو أن صناع القرار في أمريكا لايتركون شيئاً للصدفة، فهم يفكرون بشكل نفعي – وهذا حقهم - فيما يخدم المصالح الأمريكية. ولعلهم رأوا أن الأمور في إيران تسير للأسوأ مع وجود نظام الشاة، فلماذا لا يتم التعاون والمساعدة للنظام المقبول من الشعب والمرشح للحكم. ولعل ذلك يعطى تفسيراً لاحتضان أمريكا والعديد من الدول التي تدور في فلكها لزعماء التطرف ورموزهم في المنطقة العربية خاصة مصر.
.
فهم - الأمريكان - يعتقدون أن التطرف الإسلامي هو الوريث الشرعي للحكم في المنطقة. وبحجة الحوار والفهم لهذا التيار المعارض يتم تجميع تلك العناصر المتطرفة ومساندتهم ومنحهم حق اللجوء السياسي فى العديد من الدول الأوربية، والسماح لهم بجمع الأموال وممارسة الأنشطة السياسية المعارضة لدولهم وتمويل عمليات الإرهاب.برأيي أن العيب ليس في أمريكا بقدر ماهو في الأنظمة الفاسدة التي تتوهم أن أمريكا يمكنها حمايتهم إلي الأبد.
.
وبمجئ الخميني ارتفعت صرخات الثوار الشيعة بنشوة النصر والنجاح، وبدا لهم أن الطريق ممهداً لنجاح الحلم الفارسي. مستغلين تعاطف الشعوب العربية معهم، والفرحة الغامرة لنجاح أول ثورة ترفع راية الإسلام، والأمل في تبنى سياسة قائمة علي التعاون والفهم السليم للمشاكل المعلقة . ومستغلين أسوأ مافي العرب، وهو حالة التشرذم، وعدم وجود الحد الأدنى من الاتفاق الذي يمكنهم من الوقوف بصلابة. وقد ساعدهم أيضا وجود حالة من السخط الشعبي لفساد الأنظمة الحاكمة العربية مقابل تبني الإيرانيون للشعارات الدينية المطلقة عن العدالة وحقوق المستضعفين. وأسوأ ما في الأمر أنهم استغلوا النعرة الطائفية باعتبار الشيعة في الأقطار العربية هم أقرب إليهم من باقي المسلمين. ويمكن القول أن أسلوبهم كان بعيداً عن الفهم الصحيح للدين الإسلامي، وأنهم تحركانهم كانت سياسية في المقام الأول، مع استغلالهم للشعارات الدينية بشكل سيئ ومغلوط، وبالشكل الذي يجلب الفتنة والخراب.
.
ومع أن الغوص في قضية الشيعة والسنة لن يجلب سوي المزيد من التعقيدات، غير أن المرء يصاب بالدهشة وهو يطالع كتب التراث الشيعي، وما تبثه من كراهية وأحقاد بالنفوس تجاه الخلفاء الراشدين ( عدا علي رضي الله عنه ). بالإضافة للكراهية المستحكمة لأئمة المسلمين السنة، بحيث أصبحت كل تلك الكراهية من الموروثات والتي تشكل وجدان الشخص الشيعي العادي. شئ لا يصدق وغير مبرر ويبدو أن له جذوره السياسية ومنذ القدم.
.
بداخل أحد الطائرات العراقية المتوجهة من القاهرة إلي بغداد، وبينما كانت الحرب العراقية الإيرانية مشتعلة تأكل الأخضر واليابس في كلا البلدين، تقابلت مع مواطن باكستاني شيعي كان ضمن مجموعة باكستانية كبيرة تقوم بزيارة الأماكن الدينية بالقاهرة. وكانوا في طريقهم لبغداد لاستكمال زياراتهم للأماكن الدينية بمدينتي كربلاء والنجف. سألته عن رأيه بتلك الحرب. هب واقفاً في ممر الطائرة وكأنه ينتظر مثل هذا السؤال، وبعربية هزيلة ومضحكة وبشكل استعراضي تحدث بصوت عال، مردداً حديثاً نبوياً يفيد بظهور العديد من الفرق المسلمة والتي لامفر من أن تقاتل بعضها البعض حتى تكون الغلبة لأحد الفرق.
- أشك في صحة هذا الحديث ، فيكفي أن نكون مسلمين حتى لا نؤذي بعضنا بعضاً وتلك كانت ضمن وصايا الرسول صلي الله عليه وسلم لنا.
- لا، الحديث صحيح ولابد من القتال. ذلك شئ حتمي.
.
لم تكن هناك - إذن - أية بادرة للحل مع النظام الجديد بل علي العكس راحت الصرخات تتعالي بتصدير الثورة إلي البلاد العربية، وبالتهديد والوعيد لبلاد الجوار الضعيفة. وهم يعنون أن نموذج الثورة الإيرانية الشيعية هو النموذج الأمثل لتلك البلاد العربية المسلمة، ويأملون دون كلل أن يكون نموذجاً قائداً لتلك الدول وتابعا مخلصاً وأميناً لفكر وتوجهات الملالي.
.
وبشكل عملي، فقد نشطوا في تشجيع وتمويل التنظميات التي تؤمن بالعنف والسلاح، وتقوية الأقلية الشيعية في دول الخليج العربي، وتشجيعهم لإعلان التمرد والعصيان، وممارسة أساليب العنف والتخريب. كانت البداية مع العراق وقد مورس كل ذلك هناك، وأصبح انفجار القنابل وحوادث الاغتيالات، شيئاً مألوفاً. ولعل أبشع حادثة كانت إلقاء القنابل علي طلبة الجامعة المستنصرية، الذين كانوا يشيعون بعضا من زملائهم القتلى في انفجار سابق!!
وبالتدريج اتسعت الدائرة لتصل إلي السعودية حيث تم تدريب الحجيج الإيراني لعمل مظاهرات عدائية، وحمل صور الخميني، وماتلي ذلك من أحداث دموية هناك. وتتسع الدائرة لتصل إلي البحرين والسودان والجزائر واليمن ومصر. ويظل القاسم المشترك للحركات الإسلامية بكل تلك البلاد هو ظهور تيارات دينية تتبني أسلوب العنف والتطرف والاغتيالات.
.
إنني وبضمير مستريح علي يقين ووعي كاملين بأن الأصابع الإيرانية والإسرائيلية أيضاً هما المحركتان لتلك التيارات المتطرفة، والتي هي أشبه بالدوامة الهوجاء التي سرعان ماتنقشع ليعود الصفاء ثانية، ذلك أن تلك التيارات المتطرفة ضد منطق البناء والتقدم بل هي ضد الدين ذاته. وليس لأحد من مصلحة فيما يحدث – وفق المعلن من سياستهما - سوي طرفين هما علي وجه التحديد إيران وإسرائيل.

ونظراً لتعامل نظام صدام بكل العنف والقسوة والبطش لكل الخلايا والمنظمات التي تتلقي الدعم والتوجيه من إيران، والتي كانت تنتمي بالفكر لإيران أو التي تسببت في حوادث الاغتيالات والإنفجارات، حيث توعدهم صدام بتصفيتهم من الجذور!!. ليضع حداً لفشل عملية التصدير بشكلها المباشر إلي العراق.
والغريب أنهم استغلوا قضية فلسطين في مشروع التصدير فظهر شعار آخر وغريب وهو أن الطريق للقدس يمر بكربلاء وفي وقت آخر أصبح يمر ببغداد. ولعل وقع هذا الشعار هو ما جعل رجال صدام يستخدمونه أثناء حرب الكويت بأن الطريق إلي القدس يمر بالكويت.!!
.
ونموذج الحكم الإيراني يعد أحد النماذج السيئة السمعة لتسلطه وكبته لحرية شعبه. ولم يعد هناك فارق جوهري بين أسلوب الحكم أيام الشاة وبين حكم الملالي. وإذا كان الشاة معتمداً لتأمين نظامه علي التحالف بين مؤسسات الأمن والمخابرات وجنرالات الجيش، فقد بسط الملالي سيطرتهم وأحكموا قبضتهم علي جميع تلك المؤسسات العسكرية وأضافوا لها مؤسسة أخري تهيمن وتوجه وتتصدر الأحداث. بحيث أصبح ما يسمى بالحرس الثوري مؤسسة ضخمة تؤمن وتمول كافة الأنشطة، ابتداء من المحافظة علي نظام الحكم بالداخل، إلي تمويل عمليات الإرهاب والاغتيالات بالخارج بالإشراف الفعلي عليها بما في ذلك عمليات التدريب للمخربين والقتلة في بعض البلاد العربية والتواجد الفعلي للمشاركة في خلق حالة من القلق المتواصل. وأصبح بديهيا أن يندرج تحت عباءة تلك المؤسسة كافة أنشطة الشرطة والجيش والمخابرات.

وبخلاف ذلك، فلا أعتقد أن هناك أمل في التغيير يمكن أن يأتي بشكل ديمقراطي وسلمي، حتى مع مجئ رئيساً للدولة من جناح الآيات المعتدل. فلا يزال هناك مجلساً للوصاية، ومجلسا خاصا بالمحافظة علي النظام من أي قرارات خاطئة تصدر عن الرئيس المنتخب. ويمكن عبر أياً من تلك المجالس إجهاض أي محاولة للتغيير قد تأتي. ثم هناك مرشداً عاماً للثورة – أقوي رجل في هرم السلطة - والذي يستطيع أن يلغي أو يعدل أو يصدر أي قرار مخالف لتوجهات "الرئيس المعتدل" أو لمجلس حفظ النظام أو مجلس الوصاية أو حتى للبرلمان.
.
القاهرة . صيف 1995

الجمعة، أغسطس ٢٩، ٢٠٠٨

10 - ماذا تريد إيران ؟!


كان لطول الفترة التي عشتها بالعراق أثر كبير في فهم التفكير الإيراني بشكل عام، والسياسة الإيرانية بشكل خاص تجاه العرب سواء أيام حكم الشاه أو تلك الأيام التي يسيطر فيها الملالي علي مقادير الحكم والثروة بإيران.
وفي كل الأحوال فإن تلك السياسة تهدف دوماً للهيمنة والسيطرة علي حساب الأراضي والمصالح العربية، تحت مسميات وتبريرات غريبة وسخيفة وعبر وسائل أشد سماجة لعل أخرها ما عرف باسم "شعار تصدير الثورة الإسلامية" أو النموذج الإيراني إلي البلاد العربية.
وعموماً فصيغة التعالي والطمع تجاه كل ما هو عربي هما أبرز مايميز تصرفات الساسة الإيرانيين سواء أيام الشاه أو تلك الأيام. ولا أستطيع أن أصدق أن إيران - رغم عباءة الدين وحكم الملالي - ليس لها مطامع في الكعكة العربية، ويبدو أنهم محكومون في تصرفاتهم بأفكار غريبة ورجعية تـمليها عليهم القراءة الخاطئة للتاريخ، خاصة فترات التداخل الحضاري أثناء الفتح الإسلامي، ونتيجة لانتصاره علي الحضارة الفارسية، وهي نفس الأفكار التي كانت تملي علي الشاه السابق تصرفاته تجاه العرب.

باعتقادى أن المشكلة (الإيرانية – العربية) لم تتغير برحيل الشاة، ونظام حكمه القمعي والبوليسي، ومجئ الملالي وتمسحهم بعباءة الدين، بل ربما يكون من الأصوب أن نقول أن كمية المشاكل قد زادت وأنهم قد استطاعوا إضافة العديد من المشاكل داخل البلاد العربية .كان الملف طوال حكم الشاه يحتوي علي مشكلتين، شط العرب مع العراق، ومشكلة الجزر المحتلة مع الإمارات.

ومع تطلعات الشاه للقوة والسيطرة كان يلجأ علي الدوام لإلهاء العراق عن مشكلته ( شط العرب ) بتمويله للقلاقل وحوادث الاغتيالات والأخطر من ذلك بتحالفاته المشبوهة مع الأكراد في شمال العراق وإشعال فتيل الحرب بين الأكراد والعراقيين ، حتى لا يهنأ العراق لفترة راحة طويلة يلتقط فيها الأنفاس .
ووفق الحسابات الخاطئة للحكومة العراقية فقد قبلوا باتفاقية الجزائر 1974 التي تنص علي اقتسام المجري المائي ( شط العرب) مناصفة مع إيران. ورغم أن هذا الاتفاق مجحف لأنه ببساطة شديدة يمكن الإيرانيون من تملك نصف هذا المجرى الذي هو بحكم التاريخ والجغرافيا يقع داخل الحدود العراقية .
ولأن روح تلك الاتفاقية لاتمثل سوي النفعية والانتهازية لكل من الحكام في بغداد وطهران، فقد سحب الشاه كل مساعداته للأكراد وتركهم يواجهون بمفردهم جيش صدام القادم من بغداد. وبطبيعة الحال فقد انتهت علي الفور حرب الشمال، وكسب كل حاكم ماكان يطمع فيه من الآخر .
وربما كان تفكير صدام في هذا الوقت أنه وبعد أن يرتاح جيشه من الحرب مع الأكراد فسيتمكن – حينئذ - من إلغاء تلك الاتفاقية، ولو تطلب الأمر الدخول في حرب مع إيران شريطة أن يكون الوقت ملائماً. وهذا ماحدث بالفعل.
وعلي كل فهذا موضوع آخر أود الكتابة فيه. وكيف أن حسابات صدام الخاطئة توصله دوماً لسهولة اتخاذ قرار الحرب دون غيره من البدائل العديدة التي كانت متاحة أمامه. وكيف أنه أعد قطاع كبير من شعبه بنفس الأسلوب بحيث أصبحت العصبية التي تصل لحد الحماقة هو الأسلوب المميز لها القطاع.

لنعد لإيران ولنر ماذا يريد حكامها بالضبط .
كان نجاح الثورة الإيرانية وما تلي ذلك من تربع الخميني ومساعدوه من طبقة الملالي الشيعة، أشبه بفيلم – أمريكي - هائل جندت له كافة الامكانات البشرية والمالية والتقنية أيضاً من أجل حبكه بشكل لا مثيل له، ووفق زيادة جرعات الإثارة والتشويق. وليس بالإمكان وأنت تستعرض سيناريو الأحداث التي سبقت هروب الشاه من إيران وقدوم الخميني وبطانته بطائرة خاصة من باريس، ودخوله طهران منتصراً إلا أن يعتريك الشك في المساعدات القيمة - لإنجاح تلك الثورة - التي قدمت من الحكومات الغربية، وأجهزة الاستخبارات وفي المقدمة وكالة المخابرات المركزية.

إن الدرس البليغ الذي يجب أن يعيه الطغاة من حكام العالم الثالث هو أن أمريكا ليست دوماً علي استعداد لحمايتهم والمحافظة علي كراسيهم أو حتى حياتهم، إذا تعارض ذلك مع مصالحها.
.
القاهرة. صيف1995
- يتبع -

الخميس، أغسطس ٢٨، ٢٠٠٨

9 - حكايات مسافر .."الأكراد قادمون" ( تكملة )

.
"حين يستيقظ الزعيم في الصباح تستيقظ معه كل جبال بلادنا وأنهارها ومدنها ووديانها . الويل لمن يستيقظ قبل الزعيم. الويل لمن يستيقظ بعد الزعيم. انتبهوا أيها السادة فالزعيم بالحمام الآن يقضي حاجته ويمارس طقوسه، صفقوا له".
ليتني كنت أستطيع حفظ ما يعجبني من أشعار، والكلمات السابقة محاولة بائسة مني لترجمة مايعنيه أحد شعراء الأكراد في قصيدة مليئة بالمرارة والسخرية من حاكم العراق ومايفعله بهم. في تلك القصيدة راح الشاعر يتتبع يوماً للزعيم منذ استيقاظه في الصباح وحتي موعد نومه إن استطاع النوم. وفي كل لفتة من لفتاته فالشعب يلف حوله منقاداً مسخراً لنزواته الحمقاء .
- دعني أقول أنه ربما كنت تقصد صدام علي وجه التحديد. فهو نموذج في غاية السوء للحاكم المستبد، ولا يختلف من حوله عنه في ممارسة أبشع أنواع التسلط وقهر بني وطنهم. إنني لا أستطيع أن أفهم - مجرد الفهم - إلي أي حد من تضخم الذات وعشق النرجسية وصل إليها هذا الرجل. ولكني سأكون صريحاً معك. إن نموذج صدام كثير، حتى بينكم أنتم الأكراد، فتصرفات زعمائكم تنبئ عن ذلك، وأيضاً لا أستطيع الفهم، لماذا يعشق زعمائكم قتال بعضهم البعض، ولماذا تلك التحالفات المشبوهة فيما بينهم وبين صدام تارة أو الإيرانيون تارة أخري. إنهم دوماً يلعبون بالورقة الرابحة فوق جثث الأكراد. الخاسر دوماً هو الإنسان الكردي وقضيته التي تسعي جميع الأطراف بما فيها زعمائكم لإجهاضها. نحن يا صديقي مجرد قطع من أحجار شطرنج يلهو بها زعمائنا المبجلون سواء ببغداد أو بكردستان.
- هذا صحيح، غير أن مشكلتنا أولاً مع صدام. ونستطيع أن نحل مشاكلنا الخاصة فيما بعد .
- صدقني لن يجئ هذا الوقت أبداً، طالما كان زعمائكم يعالجون أموركم بهذا الشكل الأناني. ومع الأسف فإن جزءاً كبيراً من الحل في أيديهم. ذلك إذا آمنوا أولاً أنه لا فائدة من القتال فيما بينهم. وأن المواطن الكردي ليس مجرد كبش فداء لصراعاتهم فيما بينهم أو مع بغداد أو طهران أو أنقرة. حين يسعى أولئك الزعماء لاحترام آدمية بني وطنهم وحريتهم في التعبير وفي اختيار زعمائهم، بعد كل ذلك يأتي دور السلاح والقتال. إن ما يحدث الآن هو نوع من العبث الذي يصل لحد الانتحار الجماعي.

ومع أنني أري الصورة قاتمة وليس هناك من مخرج قريب، فالأكراد معرضون للقتل اليوم بالجنود القادمين من بغداد وغداً بجنود آخرين قادمين من أنقرة وبعد غد بجنود آخرين قادمين من طهران وتتوالي الأيام ويتزايد القتل .
ومع كل ذلك فالأكراد محبون للحياة ويمارسون حياتهم تحت كل تلك الضغوط يشكل يدعو للإعجاب والاحترام .

كانت أحد اللوحات الزيتية لفنانة كردية تصور مجموعة من الأكراد - رجال ونساء - يرقصون رقصتهم الشهيرة ( الدبكه )، وقد تراصوا بجوار بعضهم وتماسكوا بالأيدي.، كانت لوحة جميلة والتوافق بين أجساد الراقصين وحركتهم رائعاً، غير أن تلك الفنانة استخدمت أكبر قدر ممكن من الألوان الداكنة والمظلمة. ووسط ذلك كنت بالكاد ألمح ألوان الملابس للراقصين التي يفترض أنها من ألوان زاهية ولامعة، تلك الألوان المحببة للأكراد غير أن اللوحة لم تبح بذلك.
- وهل يوجد في حياتنا شيء مشرق أو جميل، أننا نرقص ونحن نموت، حياتنا هي تلك الألوان الداكنة وتلك الظلمة التي تلفنا. إنه نوع من الرقص أشبه برقصة الموت .

هناك أحد الحكايات بألف ليلة وليلة تحت اسم الكردي والعربي والجراب، والحكاية باختصار تروي عن نزاع حدث بين رجل كردي وآخر عربي بسبب جراب ادعي كل منهما ملكيته. ولم يكن هناك مفر غير اللجوء إلي القاضي لفض تلك المشكلة بين الرجلين وتحديد ملكية الجراب .
والمشكلة بدت - أمام القاضي - بسيطة للغاية فكل ماعليه أن يفعله هو أن يسأل كل رجل عما يحتويه الجراب بداخله من أشياء ومن المؤكد أن صاحبه الحقيقي سيصف دون زيادة أو نقصان ما بداخل الجراب .
ابتدأ الكردي وبعد أن حيا القاضي ودعي له بالتأييد وطول العمر، راح يؤكد أنه وضع بعض الأموال بداخل الجراب، وراح يصف ويعدد تلك الثروة المحفوظة بداخل الجراب العتيق. وجاء الدور علي العربي الذي كان قد استشاط غضباً لمبالغة الكردي، ومع ذلك فقد دعا للقاضي بالتأييد وطول العمر، وراح يعدد ما بداخل الجراب من بساتين وأنهار وجواري وقصور. وجاء الدور علي الكردي ثانية ليضيف بحاراً وجبالاً وقطعاناً من الأغنام. ويجئ الدور علي العربي فيضيف ويزيد هو الآخر شوارع وحواري، جواري، وعساكر، وقضاة وحكام. ويبكي الكردي من الغضب والغيظ ويأخذ في وصف ما بداخل الجراب من مدن فسيحة وقصور كبيرة وجبال عالية ووديان مترامية وأنهار جارية وقوافل تجار وأسواق عامرة بالبضائع والجواري الحسان والعبيد الأشداء .

هل يمكن لأحد أن يضع نفسه مكان القاضي الذي تخيل في البداية - ونحن معه - أنها مشكلة هينة وسهلة الحل. صحيح أن القصة في الف ليلة وليلة تنتهي بضجر القاضي منهما ومن ذلك التمادي والخيال الواسع لكل منهما. وينتهي الأمر بأن يقوم بفتح الجراب المهترئ فلا يجد بداخله سوي كسرة خبز يابسة وقطعة جبن صغيرة جافة فيقوم بطرد الرجلين.

والقصة - في رأيي - تعد أحد القصص القصيرة والجميلة والتي تعكس الصراع القديم بين العرب والأكراد علي حق الملكية. ففي حين يري كل من الكردي والعربي بأن الجراب ممتلئ بالخير والثروات، لا يري القاضي - أو رمز السلطة - فيه سوي جراب قديم ليس بداخله ما يستدعي كل هذا الصراخ والعويل. ومع ذلك فالأثنان لا يجدان مفراً غير اللجوء للقاضي في محاولة لفض ذلك الأمر بالتودد إليه ونفاقه بالدعاء له بالتأييد وطول العمر. والقصة لم تحدد هوية القاضي. عربياً أو كردياً كان، وإن كنت أميل أنها تفترض أن القاضي عربياً.

يجمع كافة الأكراد الذين التقيت بهم علي أن الدولة الكردية كانت موجودة حتى زمن قريب، وعلي كل وأياً كانت الأسباب التي أدت إلي تقسيم تلك الدولة فمن المؤكد والثابت تاريخياً أنه كانت للأكراد دولتهم الكبيرة المتاخمة للحدود العراقية والتركية والإيرانية والسورية. وأعترف أنني بحاجة للفهم وإلي من يزيد الأمور توضيحاً. وربما كانت وظيفة المؤرخين أن يظهروا لنا ماحدث، وكيف تم اقتسام أراضي تلك الدولة بين كل تلك الدول. والأهم هو لماذا تم تفتيت تلك الدولة " الوطن والمواطن " بهذا الشكل المأساوي.

هل لك أن تتخيل مثل هذا الأمر؟ أن تكون مواطناً لدولة ما، وذات صباح تجد نفسك مضطراً أنت وأولادك للدعاء والتغني لحاكم دولة أخري، غير الذي تعرفه، والتغني بنشيده الوطني وتحية علم دولته. بينما أقاربك وعلي بعد عدة كيلومترات منك مضطرون أيضاً لأن يتغنوا كل صباح لحاكم دولة أخرى وتحية علمه. شيء عبثي ومر، لكن هذا بالضبط هو ماحدث للأكراد .

وأستطيع أن أؤكد ومن خلال زياراتي وأحاديثي مع العديد من العرب والأكراد أن الأكراد يملكون مقومات الدولة. وأنه نوع من الغباء والاستغلال والابتزاز أيضاً أن تقف كل تلك الدول إيران وتركيا وسوريا والعراق في مواجهتهم، وإجهاض حلمهم بدولة مستقلة يمارسون فيها حياتهم كما يرون. والمؤسف في الأمر أن تلك المسألة غير واردة في تفكير أياً من تلك الدول.

وربما كان العراق هو الدولة الوحيدة التي تحدثت بصوت عال عن صيغة للحكم الذاتي للأكراد. ولا يخفي علي أحد أن صيغة الحكم الذاتي لأكراد العراق وضعت بمعرفة ومفهوم الحزب الحاكم في العراق وبما يخدم مصالحه بالدرجة الأولي، وربما كانت التوتر الدائم بين الحكومة المركزية في بغداد والأكراد، إضافة لتصاعد حدة الخلافات بين العراق وإيران خاصة المناطق الحدودية القريبة من تجمعات الأكراد. ربما كان كل ذلك هو السبب لطرح صيغة الحكم الذاتي للأكراد. فالأكراد يرون أن كل ذلك لا يزيد عن كونه محاولة لاسترضائهم، وهي محاولة غير كافية علي الإطلاق، ثم أنهم لا يضمنون حسن نوايا الحكومة المركزية ببغداد. وهم علي حق فمثل تلك الحكومة التي تتشدق بأن الأكراد جزء من الشعب العراقي، هي نفسها الحكومة التي تهلل - دوماً - لقرارات صدام حسين بإبادة قري كردية كاملة بالدبابات، ثم مسحها وتسويتها بمن عليها بسطح الأرض وإذا لم يكن ذلك مجدياً فهناك الإبادة بالغازات السامة.

هل يمكن لأحد أن يصدق أن هناك حاكم وحكومة تتعامل مع شعبها بتلك الهمجية وهذا الطغيان؟! أي حكم ذاتي وأي حقوق يمكن أن تأتى من صدام للأكراد .
وإذا كانت باقي الدول التي تحتل أراضي الأكراد لم تسعي إلي أي محاولة لاسترضائهم أو التجمل بصيغ للحكم الذاتي إلا أنهم يشتركون مع صدام في باقي أسلوبه: الردع حتى الإبادة .

منذ زيارتي تلك مرت العديد من السنوات العصيبة، وغطت علي كافة أوجه الحياة بالمنطقة. ولم يفرق غباء القادة العراقيين وشهوتهم للسيطرة والتدمير بين كردي وعربي. والمتتبع لما يحدث يستطيع أن يكتشف ببساطة أن الأكراد لن يملوا ولن ييأسوا من المطالبة بوطنهم السليب وانتزاعه من بين ألأنياب العراقية أو التركية أو الإيرانية أو السورية .
كيف يمكن لنا أن نطالب بحقوق الفلسطينيين في وطنهم السليب والمحتل ونحن - وفي نفس الوقت ورغم علاقات القربى والجوار والدين مع الأكراد - نصمت في رضا ونقبل باحتلال الأراضي الكردية، ومعاملة الشعب الكردي بتلك الطريقة الجائرة والظالمة.

الأكراد شعب عظيم وذو أصول راسخة. وهم فخورون بتاريخهم وتراثهم وعلي الدوام يذكروننا بأن صلاح الدين الأيوبي كان كردياً مسلماً. وغير صلاح الدين هناك آخرون من حقهم أن يتباهوا ويفخروا بهم. كلي يقين أن هذا الشعب - الذي يضحي دوماً بدماء أبناءه من أجل قضيتهم العادلة ومن أجل غباء قادتهم - سيكسب في نهاية المطاف وطنه حراً ومحرر.

لا يعتريني الشك أبداً في أنهم سيصلون يوما ما لتلك النتيجة، لسبب بسيط وهو أنه ليس بالإمكان ومهما طال الأمد أو التضحيات أن يظل هناك وطناً محتلاً وأهله بمثل إصرار وشجاعة وتضحية الأكراد.
إذا كنت غير مصدق فليس عليك سوي الذهاب إليهم في مدنهم وقراهم والصعود إلي جبالهم العالية، ومعرفة كيف يعيشون في ظروف غاية في السوء ثم أستمع إليهم بتمعن وفهم .
الأكراد قادمون يا عرب.
. القاهرة. شتاء 1997
.
آخر الكلام ...
وأخيراً ليسمح لي الصديق والزميل بختيار بوضع قصيدة صغيرة وجميلة للشاعر الكردي عبدالله بة شيو وأرفقها بالمقال. وأسمح لنفسي أن اعتبرها مداخلة وتعليق من بختيار أو من الشاعر نفسه. فأيهما يشرفني ويمنح المقال نوعا من المصداقية المطلوبة. في الحقيقة لست من أنصار الاستشهاد بالقصائد والأشعار عند كتابة المقالات السياسية، لكن فور قراءتي لتلك القصيدة شعرت أنني وجدت التفسير لمقالي ولكل ما قلته أو لم أقله.
والملاحظ أن القصيدة مترجمة من الكردية للعربية دون اهتمام "بصنعة الشعر" ومع ذلك فكلماتها تنساب بشاعرية ورقة رغم أنها تتحدث عن " ضريح الجندي المجهول"
اقرأ وتمعن.!!!.

...

لو زار وافد بلادي
وسال: أين ضريح جندكم المجهول؟
أقول له:يا سيدي
لا تخف
طأطأ رأسك قليلا
وضع من الورد إكليلا
فإكليلا
على ضفة أية ساقية
على دكة أي مسجد
على عتبة أي منزل
أمام مدخل أي كهف
أو محراب أية كنيسة
على أية صخرة
في أي جبل
على أية نبتة
في أي حقل
على أي شبر من الأرض
ضع إكليلك
وامضي سيدي
ولا تخفف
فأنت لم تخطئ الهدف.

.
القاهرة 30/3/2009
.
.

الثلاثاء، أغسطس ٢٦، ٢٠٠٨

9 - حكايات مسافر .."الأكراد قادمون"

يوليو 1984

دعاني أحد الأصدقاء الأكراد لزيارته بمدينة السليمانية ، ورغم رغبتي الشديدة لزيارة تلك المدينة غير أنني كنت متردداً للغاية ، فالحرب العراقية الإيرانية لاتزال مشتعلة بضراوة وقصف المدن والقرى - خاصة الحدودية - متبادل بين الطرفين بهمجية غريبة فيما عرف بحرب المدن ، ولم تكن الأمور مع الأكراد - أيضاً - هادئة فحوادث القتل والإختطاف كثيرة وحملات الكراهية وعدم الثقة متبادلة بين الطرفين ويبدوا أنه لن يكون لكل ذلك نهاية قريبة.
أجمع كافة أصدقائي من المصريين والعراقيين - عرب وأكراد - أنه ليس هناك مبرراً للقلق فالطريق إلي السليمانية آمن وتحت السيطرة وكل ماعلي هو السفر قبل الغروب بفترة تكفي للوصول قبل حلول الظلام تحسباً لأي هجوم يحدث علي السيارات المارة والذي غالباً مايحدث بعد الغروب، كما نصحني الكثيرون أنه إذا ما سمعت صوت طلقات نارية فكل ماعلي أن أنبطح بباطن السيارة التي تقلني .
- من الواضح أن الأمور آمنة بالفعل .
- إنبطح بالسيارة ولن يحدث شئ، فهم غالباً يطلقون الرصاص من مسافات بعيدة وإذا كنت سعيد الحظ وبعيداً عن منطقة المنحنيات فلن يصيبك أنت أو السيارة أي مكروه .
- المسألة إذن تعتمد علي الحظ ؟
- قلت لك أنهم يطلقون الرصاص من فوق الجبال ومن مسافات بعيدة للغاية كما أن أفراد الجيش يلاحقونهم باستمرار، المهم ألا تتصرف بشكل خاطئ خاصة وأنت بمنطقة المنحنيات فالطريق خطر في تلك المنطقة الجبلية وكثيراً من السيارات هوت إلي أسفل الوادي .
- بالفعل أمان ، وأي أمان .

فضلت عدم السفر بسيارتي والسفر بأحد المكروباصات المغادرة إلي هناك، وربما كان تفكيري بأن مايمكن أن يحدث لي سيحدث لغيري والعكس صحيح طبعاً، نوع من الحسابات التي تجلب الطمأنينة والهدوء .
ومن الغريب أن السائق أو أي فرد آخر لم يردد أي نصيحة عما يتوجب عمله إذا ماداهم السيارة والركاب أي خطر، وأحسست من وجوه الركاب الصامتين أن الجميع علي دراية بالموقف، ولعل هذا هو سبب صمتهم. يبدوا أن الناس - في العراق - اعتادوا التعايش مع أجواء الخطر والرعب باعتباره قدراً لا مفر منه. لا أتذكر أن هناك أحداً كان يتحدث بصوت عال، أو أن السائق حاول أن يشغل راديو السيارة أو المسجل، لم يكن هناك سوي الصمت وسحب دخان السجائر الكثيفة .

استغرقت الرحلة زمناً طويلاً يزيد علي الخمس ساعات، ومع الوقت راحت الطبيعة تغير من شكلها وثيابها من أراضي صحراوية منبسطة وجرداء إلي جبلية وعالية تزحف عليها الخضرة بلا ترتيب وبلا اهتمام واضح من العنصر البشري. حتي ملامح الإنسان تغيرت هي الأخرى وأيضاً زيه. أخذ الزى الكردي الشهير يظهر، وبين الحين والآخر كانت مجموعات التفتيش من الأكراد العاملين مع الحكومة توقف السيارة ويقومون بفحص هويات الركاب، وعلي البعد كان هناك آخرون مدججين بأسلحتهم الآلية لحماية الطريق.

اقتربنا من السليمانية فبل الغروب بوقت كاف ومع ظهور معالمها راحت أصوات الركاب في الظهور، وارتسمت بعض الابتسامات الواهنة فوق الوجوه المتعبة، أدار السائق كاسيت سيارته لتتعالي موسيقي وأغنيات كردية هادئة جميلة. انشغل أحد الأكراد مستمتعاً بالترجمة لي، وبعربيتة الركيكة علمت أنها تتحدث عن الشوق للحبيب البعيد، كان الرجل يضع يده فوق قلبه مردداً بضعة كلمات، وراح يكررها مراراً حتى يطمئن أنني قد فهمت مقصده، ربما كان يود أن يقول لي:
- الحب مشكلة، ورغم كل تلك القسوة فنحن نحب وقلوبنا ضعيفة ورقيقة وليست قاسية كالحجر مثل اؤلئك العرب من أهل بغداد.
- الحب يا سيدي يمس كل القلوب، وهو لا يفرق بين قلب العربي والكردي . القلوب صنعة الله.
- لا أعني العشق بين الرجل والمرأة فقط. أعني أن قلوبنا مفتوحة بالحب للكل. لا يمكنني التفسير لعله يمكنك أن تلمس ما أعنيه بنفسك .
وعدت الرجل أن يكون هناك بيننا لقاء آخر لاستكمال الحديث، كان سعيداً للغاية ووعدني بأن يعرفني علي العديد من أصدقائه، وراح يلح علي بقبول دعوته للغذاء بمنزله .

في موقف السيارات وجدت صديقي ينتظر، كان يسلم علي بحرارة مهنئاً بسلامة الوصول. وراح يشد علي يد رفيقي بالسفر متحدثاً معه بالكردية. علمت أنهما أصدقاء. شرح صديقي لي أن حادث إطلاق رصاص قد وقع لأحد السيارات قبلنا بعدة ساعات، وأن هناك العديد من الضحايا. صدق حدسي إذن، وهذا هو سر الوجوم والصمت المطبقين علي الركاب. فمثل تلك الحوادث ينتقل خبرها فور وقوعها، ومعظم الركاب والسائق أيضاً كانوا علي دراية بالحادث، والجميع كانوا علي يقين بأن الطريق غير آمن بالشكل الكافي. ومع ذلك فقد بدا أن الجميع لم يجدوا مفراً غير أن يتعايشوا مع الخطر ومع بعض الأمل بأنه قد لا يأتي .
.
القاهرة. شتاء 1997

الأحد، أغسطس ٢٤، ٢٠٠٨

8- حكايات مسافر ".. العمارة أول محاولة للفهم " ( تكملة )

طباعنا "أشبه بالطقس. تراه تارة هادئاً، وبدون مقدمات يتغير إلي شئ أشبه بنار جهنم، وفجأة يتحول إلي طقس ممطر. وتظل السماء تمطر لأيام. كيف يكون ذلك، الله وحده هو الأعلم، لكن من المؤكد أن الشخصية العراقية أشبه بطقسها. أتراني قد بالغت".
- عداك العيب ياسيد خلف ، يبدو أن كلامك به شئ من الصحة، وقد سبقك في هذا الرأي كثيرون. صلاح عبد الصبور مثلاً له قصيدة يقرر فيها أن " نفسه " تصبح رمادية حين يكون الطقس رمادياً.
السيد خلف معلم بالتعليم الابتدائي وقد أنتدب للعمل معنا كمدرس بالمدرسة الصناعية الجديدة التي تم افتتاحها بالبلدة. وهو شخصاً لا يمكنك أن تخطئه لطوله الفارع، إضافة لكونه يعمل بالتدريس أو لكونه محسوباً علي طبقة الموظفين فقد كان مجبراً كعادتهم أن يرتدي بذلة كاملة بالرغم من لهيب يوليو. غير أنه كان يترك قميصه وقد تدلي جزء كبير منه فوق البنطلون، ورباط عنقه مفتوحاً بشكل غريب وبعيد عن أية محاولة للأناقة أو التجمل، وكأنه يتعمد إهمال منظره إضافة لأنني لم أراه يوماً منتعلاً حذاء، فقد كان علي الدوام ومع هذا الزى ينتعل صندلاً ضخماً.

كان من السهل أن تجد دائرة الصحبة قد اتسعت لتشمل نماذج أخري عديدة. مديرون لدوائر حكومية، ومدرسون وموظفون. وحين يجتمع الشمل يكون القاسم المشترك للحديث هو مصر والأحوال هناك. إضافة لعشقهم للموسيقي والطرب المصري كبير للغاية، وكنت متعتهم في الحديث عن تحليل كلمات أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد.
ومع ذلك فقد كانت معلوماتهم - هذا الوقت - عن المصريين ليست صحيحة بالمرة، ويبدو أن الأفلام المصرية كانت مصدرهم الوحيد لفهم الإنسان في مصر. كان المتخيل أن الحياة في مصر رقص وغناء وعربدة .
- ألا تفعل النساء في مصر ذلك .
- وماذا يفعلن النساء في مصر .
- يرقصن للرجال بالمنازل .
- في حدود معلوماتي فكل نساء مصر تقريباً مشغولات مع رجالهن في البحث وإعداد الطعام لأولادهم. المشكلة أنك تعمم ماتراه في الأفلام علي الجميع.
ويبدوا أن مثل هذا الرأي أصابهم بخيبة أمل كبيرة، إذ تظل مصر في مخيلتهم مكانا كبيرا يتيح لهم ممارسة الجنس والشعور بالانطلاق كما يحلو لهم.
- لكن في مصر تستطيع الحصول علي النساء وقضاء الليل معهن.
- ذلك أمر وارد في كل مكان فبقدر ماتسعي بقدر ما تحصل. بمعني إنك إذا رغبت في ذلك الأمر في مصر وسعيت له فمن المؤكد أنك ستجده، كما هو الحال هنا مثلاً . أليس بالإمكان أن أترك مجلسي معكم وأنهض للبحث عن امرأة - بمساعدة عراقي ما - من المؤكد أنني سأجد من تقبل نقودي رغم صغر بلدتكم تلك .
ويبدو أن تلك الردود أصابتهم بنوع من الوجوم والصمت. حتى أن أحدهم راح يتمتم :
- صدق ، صدق .

لازلت أري أن مثل تلك الأحاديث تكشف عن الوجه الجاهل للشخصية العربية ، إذ لايعنينا من تقييم أي بلد سوى إمكانية ممارسة اللهو والجنس فيه. ومع ذلك فقد كان هناك تساؤلات أخري أكثر جدية كانت مدار مناقشة ومحاولات للفهم :
- لماذا أوقفتم الحرب مع إسرائيل .
كانت الإجابة علي مثل هذا السؤال - ذلك الوقت - بحاجة إلي قدر كبير من الوعي والإقناع ، ذلك أنه كان الفهم السائد وقتها أن مصر أجهضت الموقف العربي بقبولها وقف إطلاق النار والدخول في مباحثات فض الاشتباك مع إسرائيل .
- لأكن واضحاً وصادقا معكم. من السهل عليكم أن تتحدثوا عن استمرار الحرب في مصر وأنتم هنا تحتسون العرقي، وجميعكم علي يقين أنه عندما سيعود إلي منزله سيجد الصمون ( رغيف العيش ) الأبيض متوفراً لأسرته مع أصناف الطعام الأخرى. في مصر كان شاغلنا جميعاً بجانب الحرب هو مجرد توفير رغيف العيش ولا يهم لونه وإن كان في الغالب لونه أسمر ومختلطاً بالحصى وخيوط الأجولة وحتي الحشرات في بعض الأحيان. لم يكن مهماً كل ذلك، فلا صوت يجب أن يعلو فوق صوت المعركة، وليس علينا سوي تحمل المزيد من أجل كرامة مصر والعرب. وأصبح الأمر الملح هو توفير ذلك الخبز الردئ بأي شكل وبأي طريقة المهم أن نجده اليوم، وغداً تتكرر المحاولة ثانية. لقد كانت تجربة صعبة ومريرة، ومع ذلك فقد أديناها بشرف ورجولة، وقمنا بما يجب علينا عمله. وكان من الواجب علي العرب بدلاً من طرح مثل تلك الأسئلة الوفاء بالتزاماتهم تجاه مصر ومساندتها بشكل فعال.
- لقد ساعد العرب جميعهم مصر.
- ليس بالإمكان نكران تلك الحقيقة، ولكنها كانت مساعدة غير كافية علي الإطلاق. أفهم أننا بمصر قبلنا محاربة إسرائيل نيابة عن العرب، فليس بأقل أن نعيش جميعاً نفس الظروف. ليس مطلوباً أن يشعر العربي في بلده بالحرمان والبؤس الذي كنا نعيشه. لكنه كان بالإمكان أن نقتسم معكم رغيف العيش. وهذا لم يحدث لسبب بسيط أن العرب لايريدون ذلك، ولا يمكنهم تحمل ذلك.
الحرب ليست شعارات ودق طبول. وأي حرب لابد وأن تنتهي - وتبعاً للظروف السائدة - عند مائدة المفاوضات والمباحثات من أجل بدء عصر جديد يلغي ماقبله من مفاهيم وأفكار. ومع ذلك فكل مايمكننى قوله أن الحرب أيضاً ليست بلعبة نمارسها كلما شعرنا بالحنين إلي مفاهيم البطولة والعطاء والتضحية، الحرب ماَسي ودمار ورعب ودماء ونيران تأكل الأخضر واليابس. كل ما أرجوه لكم ولبلدكم أن يقيكم الله شر الحروب وأهوالها.

هل كنت أقرأ المستقبل في تلك اللحظة التي كنت أتحاور وقتها مع مجموعة من الأصدقاء العراقيين حول منضدة عامرة بأصناف الطعام وزجاجات الشراب. ربما، فبعد القليل من السنين إذ بالحرب العراقية الإيرانية تشتعل. وكأنها ذلك المارد الذي ظل حبيساً داخل القمقم دون أن يجرؤ أحد علي إقناعه بالدخول ثانية فيه، والكف عن التدمير والقتل.
وتثبت تلك الحرب صدق ماكنا نؤمن به. ولم يكن من الغريب أن نسمع بعد فترة من بداية تلك الحرب ومع صوت صفارات الإنذار - الذي ينذر بقصف طائرة إيرانية أو صاروخ إيراني سقط فوق أحد البنايات ببغداد - كلمات معبرة من الإنسان العراقي البسيط وهو يردد: " الله يرحمك ياسادات عرفت كيف تحارب وعرفت متي تتوقف".
.
كان المشهد لاينسي ، كان هناك موكباً من الرجال والنساء والأطفال يرتدون زياً غريباً، ويمشون في شوارع البلدة في كرنفال من الألوان. كان أهم مايميز زى الرجال هو البنطلون الواسع الذي يشبه إلي حد كبير بنطلون البمبوطية بمصر، غير أن باقي زيهم ملوناً، وعلي وسط كل رجل شد حزام من نفس قماش غطاء الرأس الملفوف حولها بإحكام. كان لون بشرتهم أقرب للبياض وأجسادهم ضخمة، يمشون بهدوء وإصرار، وفي صمت بالغ وكأنهم يمشون بجنازة. لن أنسي تلك النظرات التي كانت تشع من أعينهم، نظرات حزينة وغاضبة في آن واحد .كانت هذه بداية معرفتي بالأكراد .
- مالذي يحدث ولماذا جاء الأكراد إلي الجنوب؟! .
- تعلم ياسيدي أن أرض العراق واحدة، وأن الأكراد هم في النهاية عراقيون، وليس هناك مايمنع أن يذهبون إلي أي مكان بالعراق والعيش فيه .
- هل هو نوع من الهجرة الجماعي.؟!
- تسطيع أن تقول ذلك .
- أين يعيشون أصلاً.؟!
- شمال العراق .
- وكيف تبدو بلادهم.؟!
- بلادهم جميلة وتشتهر بالجبال العالية الخضراء .
- يبدو أن الطقس هناك معتدلاً .
- الطقس هناك معتدل صيفاً وفي الشتاء تتساقط الثلوج حتى أنها تكسو قمم الحبال .
- هل يتحدثون العربية.؟!
- لا
- هل تمت الهجرة برغبتهم .؟!
- لا
- برغبة من إذن.؟!
- رأي السيد النائب أن ذلك قد يؤدي إلي نوع من الضغط عليهم لتخفيف حدة القتال الدائر معهم بالشمال. نحن – العراقيون - نعاني من تلك الحرب منذ أمد بعيد، وهناك شهيد في كل بيت بالعراق جراء تلك الحرب التي لاتريد الانتهاء .
- تبدو الأمور إذن غير ماذكر. فليست المسألة في حقهم في العيش في أي مكان بالعراق .
- مالذي تعنيه .
- ربما كانت وجهة النظر الحقيقية هي تفريغ الأرض من سكانها الحقيقيين واستبدالهم بآخرين موالين للسلطة .
- وماذا في ذلك، فالسلطة العراقية هي نموذج للسلطة الوطنية .
- هل تعتقد أنهم راغبون بملأ إرادتهم في تبديل جبالهم بسهول العماره مهما كانت المغريات؟!
- فلتأخذ التجربة وقتها ثم نحكم. لماذا أنت متشائم .
- دعني أسألك ، هل تقبل نفس القرار إذا ماصدر لك.؟!
- سأنفذه، مادامت القيادة تري ذلك. وهناك كثيرون ذهبوا للعيش بالشمال .
- هل داخلك يقبل مثل تلك القرارات.؟!
- حين تأمر القيادة فليس هناك اعتبارات للقبول أو التذمر .
- أية قيادة تلك.؟!
- قيادة الحزب والثورة .

لا أستطيع القول بأن هذا الحديث قد دار بيني وبين شخص بعينه، كل مايمكنني قوله أنه حصيلة أحاديث كثيرة وتساؤلات عديدة مع بعض الأصدقاء العراقيين من مختلف التيارات السياسية آنذاك. كما انه يشكل بهذا الترتيب محاولة مني لتسجيل ماحدث ومبرراته السائدة، وهو بهذ1السياق أشبه بحوار بين معارض لما يحدث ومؤيد له .فقد كان هناك بالفعل كثير من التيارات السياسية تموج بها مدينة العمارة، فخلافاً لأتباع الحزب الحاكم ( حزب البعث ) كان هناك الشيوعيون والقوميون إضافة للتيارات الدينية الكامنة. ولم يكن هناك من مؤيد لتلك الأمور سوي أنصار الحزب الحاكم.

ولم يكن من مفر أن ينتهي الحديث - مع أي شخص - دون الوصول إلي أي إجابة مقنعة أو شافية تريحني وتريحه، إضافة لأن الكثيرين صرحوا لي بأن الكثير من تلك التساؤلات لاينبغي للمرء البوح والحديث بها بصوت عال .
كان من الواضح أن الحزب يلف حباله بالتدريج حول رقاب الناس، بحيث لم يعد المرء آمنا علي أي كلمة يفوه بها وسط أصدقائه، أو حتى داخل منزله وبين أولاده. وأصبح أمراً مألوفاً أن يتحاشي الفرد الحديث أو إبداء الرأي علي مسمع من أفراد أسرته خشية الوشاية به أو استدراج أطفاله للبوح بما قال. وبدا أن صدام كان مهتماً للغاية بتنظيم الصبية والمراهقين من مختلف الأعمار، وغسل أدمغتهم علي مهل وبفعالية. ويكفيه عشر سنين حتى يجد خلفه جيشاً كبيراً من خير أبناء العراق علي استعداد تام للتضحية بالروح والدم من أجل الزعيم، ذلك بخلاف كلاب الحراسة الخاصة من أطفال عشيرته والذي برع في تربيتهم - لحد السعار - وتلقينهم استخدام أقصي درجات العنف مع الناس من أجل حمايته هو وأسرته.

ولعلي هنا أود الإشارة إلي أولي خطايا أي نظام للحكم مستبد، فهو ولأنه يحكم قبضته علي مقدرات الناس وأعني وسيلة الرزق ووسائل التعبير، فهو يري أول مايري أن الناس بمثابة قطع شطرنج يستطيع أن يحركها كيفما شاء. وقد ينجح في ذلك إلي حين لكن من المؤكد أنه لن يستطع كسب حبهم أو تأييدهم أو ودهم .

علي كل كما جاء الأكراد دون علم أحد، ودون معرفة من أين جاءوا ولماذا، فقد رحلوا دون علم أحد أيضاً. الله وحده يعلم إلي أين رحلوا بالضبط، إلي قراهم البعيدة وجبالهم العالية أم إلي مدينة عراقية أخري .

أستطيع القول أنني قضيت عاماً كاملاً بالعمارة، ورغم قلة مرتبي وصعوبة العمل، فقد كانت معظم أوقاتي ممتعة ومليئة بمحاولات رائعة للقرب والتفاهم مع الآخرين. وخلافاً لكل ماسمعته عن الناس والمدينة، فقد رأيتهم بشكل آخر. كانوا رائعين، يغلب عليهم البساطة بالفعل، لكنهم علي استعداد لفتح قلوبهم بكل كرم وبالحب والصداقة ومحاولة الفهم لما يدور حولهم .

الجمعة، أغسطس ٢٢، ٢٠٠٨

8 - حكايات مسافر .. " العمارة أول محاولة للفهم "

أخذت قراري بالسفر للعمارة رغم صيحات التحذير الكثيرة من العراقيين والمصريين وكان علي أن أرتب أموري بسرعة للذهاب فقد تعطلت عدة أيام في مناقشة تلك المسألة ولم يعد هناك مبررا لبقائي ببغداد . كل ما كان يشغلني هو أين ذهب ممدوح ولماذا تصرف علي هذا النحو ، وبينما كنت أجهز حقيبتي إذ بوجه ممدوح يطل من فتحة الباب وهو يتحدث بسرعة فتختلط الكلمات بعضها ببعض .
- اسمع عاوز أرجع .
- ترجع فين .
- مصر طبعاً . عاوزين يحدفونى للعمارة .
- وفيها إيه العماره .
- أنا لما عرفت إنك التاني رايح هناك. جيت أشوفك .
- المهم إنت كنت فين الكام يوم اللي فاتوا .
- كنت بادور علي شغل .
- ماحنا جايين علي شغل .
- أنا لاهاشتغل مدرس ولا هاروح العماره واللي يحصل يحصل .
كان علي أن أقنع ممدوح بخطأ تفكيره، وأن عليه التريث حتى يجد عملاً أفضل ، ولم أستغرق وقتاً طويلاً في ذلك فقد أقتنع بحديثي وكان من الواضح أنه فشل في إيجاد عمل آخر وهذا ما سهل من مهمتي. راح ينظف نظارته بهدوء وهو يتمتم " المهم نكون مع بعض.

توجهنا إلي كراج النهضة وركبنا أحد السيارات المتوجهة إلي العمارة، المسافة طويلة والحر يجعل كل الأملاح المختزنة بالجسم تخرج مع العرق الذي سرعان مايجف تاركاً دوائر بيضاء من الملح الآدمي يعلق بالملابس. بينما أسند ممدوح رأسه فوق مسند مقعده وراح في نوم عميق. علي جانبي الطريق كانت هناك مساحات شاسعة من الأراضي مغطاة هي الأخرى بطبقة كثيفة من الملح، وبالرغم من هذا غزو الملح الشرس إلا أنك تستطيع أن تتبين أنها أرض طيبة وجيدة إذا ما تم العناية بها، كنت مستغرقاً تماماً في النظر والتأمل لتلك المساحات الهائلة التي يزحف عليها البوار بإصرار وهدوء. ويبدو أن جاري لاحظ انشغالي فراح يتحدث معي عن تلك المشكلة:
- عفواً إذا قاطعت صمتك .
- لاهي بالصحراء ولا هي بالأرض الزراعية، الملح يكاد يأكلها .
- نعم . وتلك أحد التحديات التي علينا مقابلتها. المشكلة قديمة وعلي مدار السنين لم يجرؤ عهد من العهود البائدة علي فعل شئ .
- في رأيي أن المشكلة فنية بالدرجة الأولي وقد يكون لها وجهها الاقتصادي. فتلك الأراضي بحاجة لشبكة كبيرة للري والصرف.
- لا تنسي الوجه السياسي أيضاً، فحين لاتملك مقدراتك لاتسطيع فعل شئ .
- هذا كلام طيب ، ولكنكم بالفعل تملكون مقدراتكم .
- نعم ، هذا صحيح ، فمنذ تأميم النفط العراقي وكل مشاكل التنمية تستحوذ علي تفكير السيد النائب .
- تقصد صدام حسين .
- صدام حسين . يبدو أنك وافد جديد للعراق .
- عفواً فنحن في مصر نكتفي بذكر الرئيس باسمه المجرد وأيضاً الوزراء نذكرهم بأسمائهم ودون أي ألقاب ، ولا نعتقد - في مصر - أننا بذلك نستخف بهم أو نهينهم. أتعتقد أننا قاربنا الوصول.؟!
- نحن علي مقربة لم يتبق الكثير.
كان واضحاً من سؤالي عدم رغبتي في مواصلة الحديث، كنت علي يقين أن محاولتي للفهم ستجعلني أطرح العديد من الأسئلة المحظورة، مثل من هو صدام ومن أين جاء، وكيف يفكر، وماهي صيغة الحكم في العراق، وماهو الجديد الذي يمكن للسيد النائب أن يفعله. خلال المدة القليلة التي قضيتها ببغداد، أدركت أن نجم صدام حسين في صعود مستمر، وأنه ورغم وجود المرحوم أحمد حسن البكر كرئيس لمجلس لقيادة الثورة وللجمهورية، إلا أن الضوء كان يحوط بصدام بشكل ملحوظ ودعائي وبشكل أقرب للتنظيم المتعمد. وبدا واضحاً أن أسم صدام لابد أن يذكر بشئ من التبجيل وذلك باستخدام مفردات مثل السيد. وقد حدث - بمرور الوقت - نوع من التمادي في ذلك حتى أنه أصبح لزاماً للمواطن العادي وهو يتحدث عن صدام أن يسبق اسمه بلقب السيد، ويعقبه بدعاء له، وكان من الشائع والعادي لأي مواطن عند الحديث عنه أن يبدأ بالسيد النائب حفظه الله.
.
أخيراً وصلنا للعمارة وكما توقعت كانت مدينة صغيرة تبدو النظافة واضحة بشوارعها وقد أغلق الجميع أبوابهم ساعة القيلولة هرباً من حرارة الجو العالية. وجدنا أحد الفنادق البسيطة ، استرعي انتباهي اسمه ( فندق الكويت لصاحبه حنون).تخيرنا غرفة تطل علي الشارع الرئيسي وشاطئ دجلة. كان سعر الغرفة ملائماً. فوجئت بأن صاحب الفندق ورغم حرارة الجو الخانقة يصر علي ارتداء بذلة كاملة، بصعوبة تتبين لونها البني، وربطة عنق فوق قميص أزرق. أخذ يعدد لي مزايا الفندق ويؤكد أن السعر يشمل أيضاً سريرين آخرين للنوم بسطح الفندق، وحين أخبرته بأننا لا نود النوم ليلاً علي السطح ابتسم قائلاً :
- يعني ماتريدوا السراير .
- حلال ياعم عليك .
- أعتقد إنه صعب عليكما المبيت بالغرفه . وقت ماتريدوا السراير خبروني ، بصراحه هأجرها لغيركم ، لكن سمعة الفندق فوق كل اعتبار، حاولوا تناموا بالغرف وألله يساعدكم .
هل جرب أحدكم النوم بأحد الفنادق الصغيرة في أحد مدن الجنوب العراقي وفي شهر يوليو ( تموز ) بغرفة مغلقة ليس بها سوي مروحة سقفية. انه الجحيم بعينه.

كان حنون محقاً فلم نستطع المبيت داخل الغرفة سوي لعدة ليالي قليلة للغاية . كانت ليالي لاتنسي. في الليلة الثالثة أو الرابعة وفور رقودي فوق السرير الساخن رحت أنظر بإمعان إلي المروحة السقفية وهي تئن وتدور دون جدوى . كنت أحدث نفسي بأننا أشبه بتلك المروحة القديمة المتهالكة، ما الجدوى من رحيلي ووضعي في تلك الغرفة الضيقة الساخنة. وبينما أستعد للإجابة علي هذا السؤال محاولاً إقناع نفسي بأن هناك ثمة فائدة من قدومي، وأن هناك فارق كبير بيني وبين تلك المروحة. وقبل أن أصل لنوع من الرضي لوصولي لتلك النتيجة، إذ بي ألمح ( برص ) ضخم للغاية يمشي متلصصاً بجوار اللمبة النيون الملتصقة بالجدار ناظراً تجاهي مقترباً ببطء يثير الهلع من سريري. كان برصاً ضخماَ وشكله مقزز وجلده شفاف ويكشف عن كرش ضخم، للحد الذي تستطيع أن تري بوضوح أحشاءه الداخلية الممتلئة. بالكاد استطعت أن أقول وبصوت عال " ياليلة سودا " ثم نهضت من فوق السرير فزعاً صارخاً طالباً النجدة، لايستر جسدي سوي سروال داخلي قصير، وخلفي كان ممدوح يجري عاريا هو الآخر، ممسكاً بنظارته وآثار النوم بادية عليه .
ويبدو أن حنون وأولاده لم يفهموا الأمر بالشكل السليم. نزع حنون جاكيت البذلة ورمي بالكرافتة خلف ظهره وشمر أكمام القميص الأزرق ونظر تجاهنا مرعوباً :
- حنش بالغرفة .
- ياحنون مش حنش. برص كبير .
- شينو، لؤي روح معاه ياوليدي .
مشي لؤي تجاه الغرفة بتكاسل وهدوء قاتل ثم دخل ونظر حيث كان البرص لا يزال واقفاً مكانه مستمتعاً بالتهام بعض الحشرات . وخرج لؤي ضاحكاً وبنفس مشيته المتكاسلة الهادئة كنا نسير في إثره .
- يابا دا أبو بريص .
وعلت ضحكات حنون ومن حوله من زبائن الفندق الذين كانوا يتابعون الموقف باهتمام بالغ . اقترب مني حنون وراح يفهمني - وهو يكتم ضحكاته - أنه لاضير من أبو بريص، وإنه غير مؤذ، ولايقترب من الآدميين .ربما لخشيته منهم أو لأنه "يقرف". وفي كل الأحوال فهو غير مؤذ علي الإطلاق.
- يعني إيه ياحنون .
- يعني لاتخاف .
رسمت علامات الشجاعة وعدم الخوف فوق وجهي وأجبته:
- مش خايف ياحنون. أنا ما خافش غير من ربنا. بس مش ممكن أنام مع برص .
أكد ممدوح علي كلامي وراح يتأتأ هو الاَخر:
- احنا مانخافش غير من ربنا.
- لؤي خد ياوليدي البخاخه رشه .
أخذ لؤي بخاخة مملؤة بمبيد حشرات وراح يدفع بحماس المكبس عدة مرات في وجوه من حوله من الزبائن وحين وجدهم يفرون من أمامه اطمئن لعملها. دخل الغرفة ونحن خلفه. أطلق عدة رشات من المبيد تجاه البرص الذي فهم علي الفور أنه غير مرغوب فيه فتحرك ببطء وكسل فوق الجدار، وظل ينظر إلينا، وكأنه يسخر مني ويتوعدني بالمجيء ثانيةً إلي أن خرج خارج الغرفة .
بعد ذلك جاء حنون ليطمئن أن كل شئ علي مايرام .
- تدرى ، هذا فندق محترم. وقد اعتقدنا أنه حنش . ماذا يقولون .
- مين .
- الناس بالخارج . لا شئ يمكن كتمانه في هذا البلد .
ولم يكن بالإمكان إقناع حنون بأن أبو بريص أيضاً يمكن أن يسئ لسمعة الفندق .

كانت جدران الغرفة تنفث بلا هوادة مخزونها الهائل من السعير، والمروحة السقفية لاتفعل أي شئ سوي تقليب الهواء الساخن وإعادته لجسدي المنهك من الحر وعدم النوم. كان يفصلنا عن سطح الفندق جدار يعلوه حاجز سلكي. تركت - دون جدوى - باب الغرفة مفتوحاً علي أمل أن تأتي بعض النسمات الليلية الباردة، ، كل ما هنالك أن نزيلا ً بسطح الفندق اكتشف أن الغرفة بها حمام خاص فاقتحمها دون استئذان.
اضطررنا لإغلاق الباب ثانية، فأصبحت الغرفة أشبه تماماً بأحد أفران الخبز. مع قرب الفجر ارتديت ملابسي وخرجت للشارع ورحت أتمشي. كانت هناك بعض النسمات الرقيقة تأتي علي استحياء لكنها كافية لأن أشعر بكم هو الفارق. أخذت قراري بأن أبيت منذ ليلتي التالية بالسطح وعدت مسرعاً لمقابلة حنون الذي ظل يضحك وهو يردد بضعة كلمات واصفاً حر الجنوب.
- وماذا عن ممدوح .
- لا يرغب بالنوم علي السطح .
- يعني سرير واحد . آخر كلام .
.
من الغريب أن ممدوح رفض تماماً فكرة النوم بسطح الفندق وراح يتأتأ بعدة جمل، فهمت منها أنه ومهما كانت حدة الحر فلن يغادر الغرفة، بل وأحكم إغلاق بابها حتى لايتكرر ماحدث ثانية.اكتشفت بعد ذلك كم كنت أحمقاً حين رفضت النوم بالسطح، فحين يأتي الليل وتبدأ نسماته الباردة في القدوم لاتشعر إلأ بنوع لذيذ من الاسترخاء والهدوء وفوقك السماء صافية وجميلة ومملوءة بكل أنواع النجوم الناصعة. كنت كل مساء أصادق إحداهن ولازلت حتى الآن وكلما نظرت للسماء الواسعة أجدهن بانتظاري، فأبعث إليهن بسلامي وأتمتم في صمت بأماني التي لم تجد حتى الآن مرفأ الأمان. وزادت المتعة بصحبتي لراديو صغير كان باستطاعته أن يسمعني إذاعات مصر وغيرها، كما راحت أغاني عبد الحليم وفريد وعبد الوهاب والست تغوص في أعماقي محركة الشجون والأسى. كان صوت عبد الحليم ينساب قوياً دافئاً ونبرة حزن خفيفة تغلفه فتمس القلب ، وأردد معه بكل الشوق لمصر:

لولا النهار في جبينك .
لولا الورود في خدودك .
لولا الأمان في وجودك .
ماكنت هويت ولا حبيت .
ولا حسيت بطعم الحب ،
ياعمري .

نعم " لولا الأمان " تلك القيمة الغالية والنادرة التي يفتقدها المصري خارج بلاده. كنت أسأل نفسي دوماً مالجديد في تلك الكلمات وتلك الموسيقي، فكل ذلك كثيراً ما سمعته بالقاهرة دون أن أهتم أو تصيبني تلك الانفعالات. يبدو أنه الحنين للوطن والأهل والحنين للصديق والحنين للحبيبة.

كانت عربات الشرطة تتجول بشوارع المدينة ببطء يثير الدهشة، وقد نصب رشاش آلي علي قاعدته في صندوق العربة وخلفه كان أحد الجنود يقف منتصباً في توتر جاهزاً لتنفيذ الأوامر.

ومع ذلك كانت المدينة تموج بالحركة والحياة. كان السوق الشعبي بشكله العراقي التقليدي يتوسط المدينة وقد غطي سقفه بقماش أسود كثيف لحجب الحرارة العالية بينما تدلت بعض المرواح السقفية بطول السقف، الدكاكين عامرة بالسلع التموينية والأقمشة الشعبية الملونة. وخارج الدكاكين كان باعة الخبز، والجبن والسمك يقفون أمام بضائعهم يسامون بلا ملل المشترين ومعظمهم من النسوة الذين يغطون رؤوسهن وأجسادهن بالعباءة السوداء.
يملك نساء العمارة أجمل العيون، ورغم حاجز العباءة فهن يسمحن لها بالتطاير لتكشف عن جمالهن وروعة أجسادهن الفائقة الأنوثة .يقولون أن أجسادهن " فائرة " و " تنضج مبكراً " بفعل الحر الذي يكسب التمر حلاوته ويزيد من العسل المخزن بداخله.

الجمعة، أغسطس ١٥، ٢٠٠٨

7 - حكايات مسافر.. " العمارة مدينة سيئة السمعة "

نزلت لبهو الفندق ، كان ممدوح قد أنهي إجراءات الحجز لكلانا ، وصعد للراحة. وجدتني أخرج من باب الفندق وأستدير تجاه شارع الرشيد القريب. الشارع طويل للغاية، وله سحر لايقاوم، أشعر برائحة القدم والأصالة والتاريخ. المباني لاتزال علي حالها، قديمة ونظيفة، والعديد من البلكونات يظهر من أسفلها الكمر الحديدي الذي يحملها بطريقة البناء البغدادي القديم، والذي لايزال معمولاً به. ومهما طغي إيقاع العمارة الحديثة فسيظل ماتبقي للشارع من أبنية قديمة تعطيه ذلك الجو الساحر والحالم. بواكي البنايات تشكل مظلة لأجزاء طويلة من الشارع، قهوة المرابعه أحد العلامات البارزة، مبني الأورزدي وهو متجر كبير، عرفت فيما بعد أن أول محاولة لاغتيال عبد الكريم قاسم كانت أمامه، وأن صدام حسين كان أحد المشاركين.

صباح اليوم التالي علمت أن ممدوح غادر الفندق دون أن يترك أي رسالة كما أنه لم يخبر أي أحد بمكانه الجديد، قلت ربما توجه لإدارة التعليم الصناعي ليعرف المدرسة التي سيعمل بها. لو صدق توقعي فبإمكانى الاستفسار عنه هناك .
قابلت الأستاذ عدنان مدير الإدارة الذي رحب بي وأفهمني أنه سيرسلني للعمل بأحد محافظات العراق الجميلة. كان مشغولاً طوال الوقت بنظارته الصغيرة جداً والتي كلما ضبط موقعها فوق عينيه إلا أنها كانت تغافله وتسقط ثانية. مما جعله يحني رأسه كثيراً وهو يحدثني. ولا أعلم كيف اكتشف حبي الشديد لأكلات السمك، فقد رشحني لأحد المدن الشهيرة بالسمك وراح يعدد مزايا السمك هناك .
- تشتغل بمحافظة العمارة. محافظة جميلة وأجمل ما فيها السمك .
ولعله كان هو الآخر عاشقاً لأكلات السمك فقد راح يعدد لي أنواعه وأصنافه والطرق العراقية الشهيرة لطهيه. ورحت أنا الآخر أصف له أكلات السمك المحببة إلي وأنواع السمك النيلي والسلطات التي يجب أن تصاحب تلك أكلات السمك بمصر. ولأهمية الحديث الدائر بيننا فقد أوصي سكرتيرته بعدم دخول أحد لحين ترتيب مقر العمل للمدرس المصري الجديد .
- أهم حاجه سلطة الطحينة، أيضاً الرز لازم يكون معمول بزيت القليه ومعاه البصل والصلصله .
- عظيم عظيم . بالله عليك لتجرب سمك الزبيدي .
- وأسعار السمك يا أستاذ عدنان . عامله إيه ؟
- سمك دجلة غير إنه طيب رخيص للغايه وطازه .
- والبلد .
- جميلة ، كل شئ هناك رائع .
- علي بركة الله .
- تاخد أوراقك بسرعه ، وتروح هناك تسلمها للمدير، وهو يخطرنا باستلامك العمل.

تركت السيد عدنان وأنا في حالة نفسية مرتفعة فقد أكد لي أن المدينة جميلة، وأن السمك متوفر هناك بأسعار زهيدة، ماذا أريد أكثر من ذلك.؟! غير أنه كان بداخلي حالة من القلق لا أدري سببه، ربما كان بعد المسافة بين تلك المدينة وبغداد هو أحد الأسباب .إضافة لعدم معرفتي بمكان ممدوح، أو ماذا حدث له.
في طريق العودة، سألت سائق التاكسي عن رأيه بمدينة العمارة التي سأذهب لاستلام العمل بها، ويبدو أن الرجل فوجئ بسؤالي فقد التفت إلي محتداً وصرخ بصوت عال:
- خره علي العمارة وعلي اللي في العمارة.
كنت مندهشاً للطريقة الحادة في الرد، ويبدو أن تلك سمة واضحة لقطاع كبير من العراقيين، فهم لا يستطيعون تجميل رأيهم. يبدو أنه لاحدود لاندفاعهم، إذا أحبوا شيئاً فهم يحبونه بلا حدود، وإذا كرهوه فهم يكرهونه من كل قلوبهم.
بطبيعة الحال لم يعي السائق كل مادار بذهني، ولم يكلف نفسه عناء التصحيح أو تجميل مقولته، بل راح يشرح لي كيف أنها مدينة سيئة، وإناسها أكثر سوءً، مستخدماً أقصي ما أسعفته به ذاكرته من ألفاظ سيئة .
- أرجوك انتبه للطريق .
- أنت الذي يجب عليه أن ينتبه لطريقه .
- طيب السمك هناك مش كتير وطيب المذاق؟! .
- أي قواد ذكر لك هذا .
- يعني خلاص. مقفوله لا البلد، ولا ناسها، ولا السمك . مافيهاش حاجة خالص .
- روح أي مكان غير العمارة. يريد القواد إرسالك هناك بأي طريقة. لاتقبل .
- إيه المشكلة بالضبط .
- والله لو رحت هناك كأنك رايح لهلاكك. لاتقبل .
- غداً سأعود إليه، وسأطلب تغيير المكان .
- لاتنتظر للغد . هيا عد لهذا القواد الذي يريد إرسالك لحتفك. بابا لا تخاف منه ولا من أبوه.
- لنرى ماذا يحمل الغد من أخبار.

وجدت نفسي أواجه مشكلة حقيقية، فكل المعلومات التي شاركني أصدقائي المصريين في جمعها عن تلك المحافظة أوصلتنا لنفس النتيجة المفزعة التي أخبرني بها سائق التاكسي. وتطوع بعض الأصدقاء العراقيين للحضور لمقابلتي وتحذيري من العواقب الجسيمة التي تنتظرني في حالة ذهابي هناك. وقد علمت منهم أن تلك المحافظة الجنوبية تعد أحد المعاقل الهامة للشيعة والشيوعيون أيضاً. وأن قربها النسبي من الحدود الإيرانية يجعل أهلها أقرب ميلاً للسياسة الإيرانية وأشد حباً للإيرانيين .
- هوه ده السبب .
- في الحقيقة دي أسباب تخليك تبعد عن البلد ديه .
- بس هناك فيه سمك كتير ورخيص .
- المعلومه صحيحة . بس مش علشان السمك ترمي نفسك في العمارة .
- والله ياخويا من وجهة نظري أنا شايف أن كل الأسباب اللي ذكرتها لاتدفع للخوف، يبقي علي الأقل فيه سبب مشجع للذهاب، السمك والقرب من دجله.

وفي الحقيقة لم يكن لدي بالفعل من أسباب تجعلني أتفق معهم في الرأي. بل علي العكس فقد وجدت من المزايا - فيما سمعت - عن تلك المدينة الكثير. فهي مدينة صغيرة وهادئة وتقع علي أحد ضفاف نهر دجلة. ذلك النهر الذي لاتملك معه غير أن تحبه، فخلال المدة القصيرة التي قضيتها ببغداد وجدت نفسي عاشقاً لهذا النهر الرائع والهادئ والمسالم. ربما كان هناك سبباً مضافاً فالمدينة - كما قالوا - تمتلئ بالكثير من الأفكار والتيارات، وهذا في رأيي عنصر ساحر من عناصر الحياة التي يدفع الإنسان إليها وليس الفرار منها .قفز إلي ذهني جملة كنت قد قرأتها لأحد شخصيات لورانس داريل في روايته الشهيرة "رباعية الأسكندرية : "يبدو أن العيب ليس بالمدينة، العيب بداخلنا نحن" .

الأربعاء، أغسطس ١٣، ٢٠٠٨

6 - حكايات مسافر .. " الباشا "

"بغداد يوليو1975"
.
أنهينا الخروج من صالة المطار بسرعة ودون تفتيش للحقائب ، كان مبني مطار بغداد في هذا الوقت صغيراً للغاية ، مجرد صالة واحدة ، بها العديد من الكاونترات الخشبية ، ولأدري لماذا سميته بالمطار الخشب ، وظلت تلك التسمية لمدة طويلة عالقة بالمطار وفيما بيننا. ورغم ذلك فقد كان مبني المطار جميلاً ويوحي بالهدوء والأمان . وبطبيعة الحال فهذا الهدوء لم يعد موجوداً خاصة عند وصول الرحلة القادمة من القاهرة . فيما بعد أصبحت رحلة القاهرة تشكل عبئاً علي هذا المبني الصغير خاصة بعد استخدام الطائرات الضخمة مثل الجامبو ووصول أعداد كبيرة من المصريين للعمل في العراق .
- وين يا جماعه رايحين .
- لسه محددناش ، أي فندق .
- إتفضلوا معانا .
كان أحد الشباب العراقي مكلفاً باستقبال مجموعة من المهندسين المصريين ، ويبدوا أن عدداً كبيراً منهم قد تخلف عن الحضور مما أتاح لنا استخدام المكروباص الخاص بهم للذهاب إلي وسط المدينة . علمنا أن تلك المجموعة ستنزل بأحد الفنادق لمدة ثلاثة أيام في ضيافة الجهة الحكومية التي تعاقدت مهم . كان من الواضح أن هناك فرحة غير خافية بوصول المصريين ورغم أنه كان ملموساً أن تشعر أن هناك تعليمات صارمة بحسن الاستقبال إلا أن ذلك لم يخفي حقيقة المشاعر الدافئة والتي أظهرها العراقيون بطرق بسيطة للغاية.

كان المساء يزحف ، ورغم ذلك فالحر لا يطاق ، انشغلت بمشاهدة بغداد من نافذة المكروباص ، الطريق للمدينة طويل ، مساحات كبيرة من الأرض الشاغرة ، ألمح علي البعد أحياء سكنية ، أول ما أسترعي انتباهي هو الهدوء والبساطة ، البيوت مبنية طابق واحد أو طابقين علي الأكثر ، ولكل بيت حديقة صغيرة ، البناء بسيط ولا يوجد به أي تكلف أو مبالغة ومع ذلك أحس بلمسة جمال لتناساق الألوان مع بساطة البناء وخضرة الحدائق والهدوء الذي يغطي المدينة بأكملها . تمثال ضخم لأول عربي حالم بالطيران "عباس بن فرناس" وقد غطي كتفيه بجناحان كبيران ، وتتوالي أسماء الأحياء والشوارع . حي العامل ، اليرموك ، علاوي الحله المتحف البغدادي ، الصالحيه ، جسر التحرير ، شارع الرشيد .
تصادف وجود بعض من زملائي في العمل في نفس الفندق ، كان من المفروض أن ينتظرني البعض منهم بالمطار ، فضلوا متابعة وصول الطائرة عن طريق الاتصال بالمطار تليفونيا . ويبدو أن موظف المطار وأصدقائي وصلوا لنتيجة تريحهم بأن الطائرة لن تصل الليلة.!! كما أن الحر أنساهم – أيضا - وعدهم لي ففضلوا البقاء في الفندق . كنا مجموعة كبيرة ، زملاء عمل وأصدقاء في آن واحد .
- إحنا قلنا هاتتصرف ، وبعدين زي مانت شايف ، المسأله سهله .
- شوية أندال ، العشماوي باشا موجود .
- في أودته يا سيدي بيسمع أم كلثوم.
.
العشماوي باشا صديق لي وان كانت تلك الصداقة من نوع غريب . ورغم أن شكله ولون بشرته كانا أقرب لشكل ولون بشرة وشكل الشعر للفلاح الصعيدي ، إلا أنه كان يصر علي تذكيرنا دوماً بجذوره التركية ، ولا يستريح لتصرفات بقية الأصدقاء معتبراً أنها تصرفات فلاحين ، بينما كانت كل أفعاله مثاراً للتندر والتهكم منهم. وقد رتبت علاقة صداقتنا لاتفاق ودي فيما بيننا - حين يعلم أحدنا بوجود الآخر في مكان ما - أن نتبادل البحث عن بعضنا البعض والتقابل والحديث في مختلف الأمور. ولعل هذا هو السبب أن أخصه بالسؤال واسعي لمقابلته لبعض الوقت والحديث معه. ثمة أمر آخر وهام في علاقتي بالعشماوي باشا ، وهو أنه حاز باقتدار علي نفور وكراهية كل الزملاء والأصدقاء ولم يكن سهلا بالمرة أن تجد واحدا من الشباب يقول بحقه كلمة طيبة . وكثيرا ما سمعتهم يتندرون عليه بأقسى الكلمات والنكات الفاضحة .
- عاملي فيها باشا . أراهنكم إن أبوه كان فلاح من اللي بينضربوا علي قفاهم أيام الإقطاع .
- وتلاقيه لسه بينضرب علي قفاه لغاية دلوقت .
- ده ما بيستحماش . آخر مره استحمي فيها من سنتين . قال باشا قال ..
والباشا كان يعلم بكل ذلك وأكثر ، ولم يكن يبال بأي كلام يصله . والأغرب أنه كان يقبل رأيهم فيه راضيا ويقول لي وهو يضحك عاليا :
- دول شوية " رعاع " وعارفين الفرق اللي بيننا ومش غريب كل الكلام اللي بيقولوه.

الشئ الغريب الآخر هو لماذا اصطفاني الباشا بشرف معرفته ؟!! وهي حكاية تستحق أن أذكرها . فقد كان من ضمن عادات الباشا أن يقيم كل سنة حفلا تأبينيا في ذكري وفاة والده " العشماوي باشا الكبير" . ولا أدري مالذي أشعلها في رأسه أن يلقي قصيدة شعر في والده في آخر احتفال أقامه بالقاهرة . والأهم أن خبيثا من الأصدقاء قال له ببراءة شديدة :
- اسمع ياعشماوي أنت زي الحمار في الخطابة وفي إلقاء الشعر بالذات .
- لكن أنا متذوق كبير للشعر واللغة .
- صدقني أنت هاتحط نفسك في ورطة كبيرة .
- ولا ورطه ولا حاجه . أنا هاكتب القصيدة وهاقولها . ياعني انت فكرك اللي هيسمعوها هيفهموا حاجه . ماهم شوية حمير هما كمان.
- لا . فيه حل كويس . عليك بعادل . دا شاعر جهبذ وله محاولات ناجحة في الإذاعة والجرايد كتبت عنه كتير .
بدأت الحكاية بهذا الشكل وقد حكاها لي أكثر من مرة العشماوي باشا وهو يضحك كما حكاها لي صديقنا المشترك ذلك الخبيث الذي برر كذبه عنى وفعلته بالقول :
- يا أخي وجع دماغي بحكاية حفلة المرحوم . قلت أبعده شويه عني . دا مافيش كلام بيننا غير الحفلة والقصيدة . قلت أحوله عليك .
وقد كان . جاء العشماوي بنفسه لمقابلتي أثناء وقت الشاي بالعمل ، وطلب مني في أدب جم وبكلام منمق وراق لا يصدر بالفعل إلا من أولاد الباشاوات أن أجهز له قصيدة تشيد بوالده الباشا الكبير وتعدد من أفضاله ومآثره . احترمت زيارته لي وشعوره تجاه والده فأجبته جادا :
- شوف يا باشا . الموضوع صعب للغاية لسبب ، أولا أنا مش شاعر وثانيا أنا ماقدرش أكتب إلا الموضوع اللي أنا مقتنع بيه .

ويبدو أن الباشا وجد في طريقتي في الكلام معه شيئا يريحه . فخلافا للطريقة المتبعة من " الرعاع " الذين كانوا يتندرون عليه في حضوره ودون أي حفظ للألقاب ، كنت أصر علي الحديث معه بالاحترام الواجب ، والبدء بكلمة الباشا قبل أسمه ، وما تعنيه تلك الكلمة - الغريبة - من وقع سحري يطول روحه ونفسه . استقر رأينا أن يختار الباشا قصيدة مناسبة ويلقيها بنفسه . وقد عرضت عليه المساعدة بإيجاد قصيدة مشهورة وجميلة . وكانت المفاجأة الثانية لي في هذا اللقاء هو دعوته لي بحضور حفل التأبين.فمن المعروف أنه ولا واحد من الرعاع تشرف بحضور مثل تلك الاحتفالات . وافقت وقلت في نفسي ولم لا ؟.

في حفل التأبين فاجأني الباشا بإلقاء قصيدة من تأليفه . ولولا أن الحضور جميعهم كانوا من أقاربه وأولاد الباشاوات السابقين لكانت فضيحة كبري . بدأ الباشا قصيدته بالنظر إلينا ثم قال بصوت عميق وقوى وهادئ :
في بلاد الواق واق ،
وبلاد تتاجر بالغربة والنضال .
ظل الرجل صامدا لا يقول واق .
حتى إذا ضربوه .
أو جردوه من أوسمته .
فهو لا يصرخ .
أو يقول واق واق .
وظل علي هذا النحو ولمدة طويلة يردد تلك الكلمات الفارغة ونظرات الاستحسان المزيفة مرتسمة علي وجوه الأقارب والضيوف . المهم والأكثر دهشة أنه وبعد أن أنتهي من قصيدته قدمني باعتباري كاتبا مرموقا ومفكرا لامعا وأحيانا شاعرا عظيما .!! ومصرا أن أقول كلمة صغيرة في هذا اليوم الخالد !!. لا أعتقد أن أي فرد يمكنه الهرب أو الاعتذار من هكذا موقف . علي كل تحدثت بشكل مباشر ولمدة قصيرة للغاية عن دور التعليم في رقي الفكر وفي نهضة البلاد . وقلت لعلها فرصة أن يتم التصالح بين الرأسمالية الوطنية وبين الشعب من خلال هذا الطريق . كنت ألمح الامتعاض والقرف يرتسمان علي الوجوه ، غير أن صديقي العشماوي باشا كان سعيدا للغاية يكل كلمة قلتها حتى أنه نسي أن يسألني رأيي في قصيدته وأخذ يردد: أنت علي حق . كلامك رائع وعظيم . هذا هو المطلوب. أنت شاعر ممتاز يا عادل.!!

لنعد لبغداد ..
كان لابد أن أقابل صديقنا العشماوي باشا. كانت غرفته مظلمة إلا من ضوء شمعة خافت و صوت أم كلثوم ينساب جميلا بأحد أغانيها القديمة ، بينما كان الباشا راقداً فوق سريره يغالب البكاء من فرط تأثره. نظر إلي واضعاً إصبعه أمام فمه طالباً مني الصمت ففعلت وجلست أستمع أنا الاَخر إلي ذلك الصوت الهادر وهو يغني للحب:
لسه فاكر قلبي يديلك أمان .
ولا فاكر كلمة هاتعيد اللى كان.
ولا نظره توصل الشوق بالأمان .
لسه فاكر . كان زمان .
شئ ما نحتار فى تفسيره مع ذلك الصوت الرائع لتلك السيدة . مالذى يفعله ذلك الصوت بأرواحنا. بالنسبة لي فهو يعمق إحساسي بوجودي المصري وبأرض الوطن ، ومهما بعد المكان فصوتها قادر على أن ينقلني بسرعة غريبة إلى مصر ، أكاد أشم رائحة الشوارع والمقاهي والبيوت وحتى عرق الجباه للوجوه المصرية المتعبة .
بعد فترة نهض الباشا وأحضر صامتاً كوباً من الشاي ناولني إياه دون أن يتحدث بينما كانت الدموع تنساب فوق وجهه . وأخيراً همس بصوت يغالبه البكاء :
- اسمع . اسمع الست بتقول إيه ، لما الست تغني أحس أن مصر هي اللي بتغني .
- والله ظالم نفسك بحكاية البشاويه ديه ياعشماوي . إحساسي إنك مصري حتى النخاع.
ويبدو أن التعبير قد أعجبه، فتغير للنقيض تماما، وأخذ يصفق ويضحك من قلبه وهو يرددً كلمتي الأخيرة.
- حتى النخاع ، تعبير قوي وجميل.
- طيب يا أخي قولي حمدلله علي السلامه الأول .
- حمدلله علي السلامه . جيت أمتي ، إمبارح .
- أنا لسه جاي دلوقت يا باشا ، وقلت اَجي أعرف منك الأحوال .
- شوف البلد هنا جميله جداً ، حاجتين تبعد عنهم تعيش سعيد .
- الأوله في الغرام إيه يا باشا ؟
- الحر .
- والتانيه في الغرام يا باشا ؟!!!
- الرعاع المصريين وضمن أولئك الرعاع ، الكثير من الرعاع العراقيين أيضا .
.
القاهرة. شتاء 1994

الأحد، أغسطس ١٠، ٢٠٠٨

5 – حكايات مسافر .. " الطائرة العجوز " ...

كانت الطائرة العراقية رابضة علي البعد ، بدت لنا من خلف اللوح الزجاجي السميك الذي يفصل بيننا وبين ساحة الطائرات كبيرة للغاية وشكلها يوحي بالثقة. سألت ممدوح إن كان يعلم عنها شيئاً.
- كل اللي عارفه إنها موديل قديم " ترايدنت " إنجليزية الصنع .
- يعني هتوصلنا وللا هاتعطل في السكه .
- ايه اللي هيعطلها . خلاص إتصلحت .
- إنت مش بتقول موديل قديم ، ممكن الكربراتير يعملها وهيه فوق .
- كاربارتير إيه ، النوع ده مالوش كاربارتير .
- أنا باضحك ياممدوح . كنت أقصد موضوع تاني .
كانت الطائرة من الداخل نظيفة للغاية ، وتناسق الألوان والإضاءة يوحي بالهدوء والسلام . قلت في سري : يبدو أن معلوماتك ياممدوح ينقصها الدقة . وقبل أن أفتح فمي معبراً عن هذا الرأي بادرني بصوت واضح ومسموع .
- احترس من كلامك . أنت الآن فوق أرض عراقية.

كانت هذه المرة الأولي التي أركب فيها طائرة ، لذا فقد اعتراني العديد من الهواجس والخوف نتيجة لعدم الثقة في أشياء كثيرة متعلقة بصناعة الطائرات نفسها . فمن يضمن مثلاً - ونحن نحلق في السماء - أن كل شئ سيكون علي مايرام . من المؤكد أن أقل خطأ سيؤدي إلي كارثة محققة ، وإذا حدث ذلك فما العمل؟! وحين راحت أحد المضيفات في التنبيه علي الركاب بما يتوجب عمله عند المخاطر ، وكيفية استخدام أقنعة الأكسجين وأبواب الطوارئ ، والإشارة إلي أماكن سترات النجاة ، ازدادت هواجسي ومخاوفي ، وقلت لنفسي : إنهم يعلمون بأن هناك خطر قادم وإلا فما معني كلامها .
- الموضوع من أوله مش حلو .
- فيه إيه ؟
- انت مش سامع المضيفه بتقول إيه .
- دي تقصد لو حصل حاجه .
- وده ممكن يحصل ، انت مش قلت الطياره ..
- أنا ماقلتش أي حاجه .
- انت مالك مرعوب كده ليه.

كان ممدوح يحرك شفتيه ويصدر أصواتاً غريبة ، فهمت منها بالكاد أننا فوق أرض عراقية والحكمة تقتضي عدم الحديث عن أي شيء . عدلت وضع مسند مقعدي للوضع العمودي كما نصحتنا المضيفة ورحت أشاهد أسفلت ممر الطائرة وهو يجري للخلف بسرعة كبيرة ومعه بنايات المطار بينما راحت الطائرة في الارتفاع ببطء ومعها كانت البيوت والشوارع وكل شئ بالقاهرة يصغر ويصغر حتى لم يعد من شئ يمكن رؤيته سوي السحاب . واعتراني بعض الحزن والقلق ورحت في الحديث مع نفسي وأنا أتذكر الكثير من أحبابي وأصدقائي وسؤال يلح علي متي أراهم ثانية.؟!

ومع أن وجبة الطعام التي قدمت إلينا كانت أكثر من رائعة ، فقد كانت ساخنة وكافية ، وصاحبها تقديم القهوة والشاي لأكثر من مرة إلا أن تأثير فرق الضغط داخل الطائرة كان قاسياً علي أذاننا مما سبب لنا طنيناً مزعجاً . رحت أتطلع لوجوه العديد من الركاب العراقيين وقد غطي وجوههم اللون الأصفر بينما انشغل البعض الآخر في مص الليمون .
- اَه ياراسي ، خلاص هاموت .
كان ممدوح يصرخ من الألم ممسكاً رأسه بكلتا يديه ، وراح يتأوه بصوت عال ولم أعرف مالذي ينبغي عمله فلم تعد نصائحي له تجدي نفعاً . نصحته بربط رأسه بمنديل وأن يحاول النوم . انشغل بالبحث عن منديل بجيوبه ثم أخذ يربط رأسه به بإحكام. تغير شكله للنقيض وتذكرت وجه أحد باعة البطاطا كان مشهورا بصوته القبيح ، وبربط رأسه بمنديل قذر وكبير. وقبل أن اسأل ممدوح إن كان أحد أقاربه يبيع البطاطا بشوارع القاهرة ، نظر إلي وهو يصرخ متألما .
- هاتلي المضيفة.

كنت في الحقيقة أعاني أنا الآخر وأحسست بأن أذناي قاربتا علي الانفجار . استدعيت المضيفة التي جاءت تترنح هي الأخرى ووقفت تستند بظهر الكرسي المقابل لنا وراحت تتحدث وهي تتأرجح يميناً وشمالاً دون أن أفهم شيئاً ثم سرعان ماراحت تركض تجاه مقدمة الطائرة وهي تغطي فمها بيدها .
- هيه راحت فين . هيه مش شايفاني عامل إزاي .
- ياممدوح إنت مش شايفها هي التانيه عامله إزاي. دي خلاص هاتموت.

حضر بعد قليل عدد من طاقم الطائرة وبيدهم أكواب لقهوة والشاي ومعهم وبعض الأقراص، التفوا حولنا مما جعل بعض الركاب العراقيين يتركون أماكنهم ويقفون معهم لمشاهدة الركاب المصريين المرضي. ومع أن الجميع كان يبدو عليهم التعب والإرهاق، إلا أن كل منهم حرص علي أن يكون بيده نصف ليمونه يمتصها بين الحين والآخر . إلا أن حالة ممدوح وأنا معه كانتا من نوع آخر.
- أول مرة تركب طيارة .
- أيوه .
- هوه ده السبب، أبو كريم هات ليمونه. الولد المصريين هيموتوا خلاص.

جاء أبو كريم ومعه بعض الليمون وأعطي كل منا ليمونة كبيرة وراح يشرف بنفسه علينا ونحن نقضمها بأسناننا ونمتصها غير أنني كنت من النوع الذي يصيبني الليمون بغثيان أكثر عند امتصاصه ؟ بصوت واهن شرحت ذلك لأبو كريم الذي لم يقتنع وراح يتحدث مع أصدقائه الآخرين .
- والله أعجوبة. دا حتى الليمون من عندكم ، ليمون مصري.
تطوع آخر بالمساعدة، نظر إلينا بتودد وراح يصف لنا مالذي يمكننا عمله.
- باوع عيني سد حلجك وامسك خشمك وانفخ حيل .
- نعم ؟!! . انت بتكلمني أنا .
- أبو طارق الولد مش فاهمين . يابا علي كيفك شويه .
راح يحاول بكلمات مصرية إفهامنا مالذي قاله أبو طارق .
- بص ياخويا سد بقك وامسك خشمك يعني سد منخارك يعني سد مناخيرك وانفخ حيل يعني أنفخ جامد . ودانك هاتسلك علي طول.

ومن الغريب أنها كانت وصفة رائعة أزاحت بعض الألم عن أذاننا ورحت أنا وممدوح نفعل ذلك مرات عديدة بينما كان العراقيون يراقبوننا وقد اكتست وجوههم بعلامات الجدية بينما تطوع البعض منهم بتدريبنا وذلك بتأدية نفس الوصفة وهم ينظرون إلينا مشجعين . وراحت ابتساماتهم تتصاعد إلي ضحكات عالية كلما أحسوا أننا نتعافى .
كانت تلك بداية طيبة مع العراقيين وخلافاً لكل ما سمعته عنهم ، فقد وجدتهم محبون لتقديم المساعدة والتعارف وكسب الود . وهم في ذلك قريبون للغاية من طباعنا. كانوا يتحدثون عن مصر والمصريين بمتعة كبيرة، وراح أبو طارق يصف لنا المنطقة التي كان يعيش بها ويسرد أسماء شوارع القاهرة بحنين وحب.
- وين عايش بالقاهره .
- إمبابه .
- لابد وأنك تعرف السيد حسين ...
- مين هوه ده .
- ده موظف بالفندق وعايش بإمبابه وعزمني عنده .
- بس إمبابه بها أكثر من مليون .
- يعني ماتعرفش السيد حسين ...
- المهم هنوصل إمتي .
- لولا السوريين كنا وصلنا من بدري .
- وإيه علاقة السوريين بوصولنا .
- ممنوع علي الطيارات العراقية الطيران فوق سوريا .
- السبب .
- هو ممنوع وخلاص . إيش مدريني .

كنت مندهشاً فالذي أعلمه أن الحزب الحاكم بسوريا - حزب البعث - هو نفسه الحزب الحاكم بالعراق والحزبان يتبعان نفس الفكر . وحتى الآن لا أدري سبباً للعداء التقليدي بينهما رغم المظلة الواحدة لفكر البعث .
ضاع معظم الوقت المتبقي في الحديث والتعارف وكنا نقترب من بغداد وراحت المضيفة تعلن قرب وصولنا فأخذت أنظر من النافذة متمتعاً بشكل الأضواء الكثيرة .
- برضه بغداد جميله .
- وين يابا بغداد وإحنا وين . لسه بدري.

راحت الطائرة بالفعل تعلو وتنخفض وتعلو ثانية ، ومعها راح الألم يهاجمنا بقسوة أشد ، وركزت كل جهدي علي الاستماع لصوت المضيفة المتعب وهي تصرح بوصولنا لمطار بغداد الدولي ، وتطلب منا ربط أحزمة المقعد والجلوس في وضع عمودي وأن درجة الحرارة ببغداد تزيد عن الأربعين .
كنت أشرح كل ذلك بصوت بائس لممدوح الذي تدلي رأسه وجحظت عيناه ، وكنت أشك أنه سمع كلمة واحدة مما قلت. غير أن وجوه العراقيين ارتسمت عليها علامات الفرحة وراحت الابتسامات ترتسم علي الوجوه ومع قرب الطائرة من الأرض تعالت الأصوات والضحكات، بينما راح المضيفين يصرخون في رجاء أن يظل الجميع بأماكنهم لحين توقف الطائرة.

شئ رائع وجميل تلك الفرحة التي يشعر بها الإنسان حين يقترب من وطنه ، فهمت بعد ذلك لماذا يأخذ المصريين بالتصفيق حين تلامس عجلات الطائرة أرض المهبط ، بل أن منهم من يركع مقبلاً تراب الوطن . وقبل أن تقف الطائرة كانت أصوات فك الأحزمة يتصاعد وهب الجميع وقوفاً لترتيب حقائبهم والاستعداد للنزول .
- حمدالله علي السلامة .
- خلاص وصلنا . ده آخر كلام .
- هلا بيكم في بغداد .

بناء علي نصيحة ممدوح، ظللنا بالطائرة كي يستجمع قواه الخائرة ، وما أن خرجت من باب الطائرة حتى وجدت نفسي أستدير عائداً إليها، كان الجو بالخارج أشبه بفرن كبير ، فالحرارة عالية للغاية والهواء لافح شديد السخونة. أمسكني المضيف الواقف بباب الطائرة من ذراعي بقوة وتحدث معي ضاحكاً:
- لأعتقد أنك ستتحمل رحلة أخري معنا.أهلا بك في بغداد.
.
القاهره : شتاء 1994

الجمعة، أغسطس ٠٨، ٢٠٠٨

4 - حكايات مسافر .. " مقابلات الترانزيت"

ودعت أفراد أسرتي . كان الموقف مؤثراً وحزيناً . رجوتهم أن يغادروا المطار . أصر والدي علي البقاء ، وطلب مني الدخول للترانزيت والاسترخاء . تلكأت في الذهاب . منذ تلك اللحظة ، ولحظات الوداع تصيبني بنوع من القلق والإكتئاب ، وأظل مكتئباً ومتوتراً حتى تبدأ الطائرة في الإقلاع . وقتها فقط يزول عني التوتر وأعود إلي طبيعتي . وبسبب قسوة تلك اللحظة بالذات - الوداع الأول - وجدت نفسي فيما بعد لا أخطر أحداً بموعد وصولي ولا أرحب بأي مبادرة لتوديعي . وأصبحت ضمن طقوسي والتي اعتاد عليها الجميع فيما بعد أن أذهب للسفر بمفردي وأن أعود دون أن أجد من ينتظرني . وقد أكون محقاً في ذلك ، فلحظات القلق والتوتر حين تصيبني أحس معها بالضعف والعجز عن عمل أي شيئ وعدم القدرة علي الفهم لأي أمر يدور حولي .وقد يكون لدي مبرر نفسي لذلك ، فلم يقدر لي أن أري والدي ثانية بعد تلك اللحظة.

في قاعة الترانزيت تعرفت علي المهندس ممدوح ، وكانت فرحتي بمعرفته شديدة ، فقد كان ممدوح هو الآخر ذاهباً إلي بغداد للعمل بالتدريس ، حاولت الاقتراب منه والتودد إليه في محاولة مني للخروج من حالة القلق التي انتابتني .
- معرفة خير إن شاء الله . إن لم يكن لديك مانع فبالإمكان أن نرتب سوياً للعمل بنفس المكان .
- انت بتقول إيه .
وبدا أن ممدوح متحفظاَ للغاية فهو لا يود أن يوافقني ولو من باب المجاملة . كما أن صوته كان منخفضاً للغاية مما جعلني أقترب منه بأذني مرات عديدة في محولات يائسة للتعرف علي مايقول ، رحت أتابع حركات شفتاه محاولاً الفهم ، غير أنه ولحظي التعس وجدته يحرك شفتيه كيفما شاء دون أدني علاقة بما يصدره من أصوات . ولكل ذلك فقد عاني كثيراً - بعد ذلك - في العمل كمدرس ، رغم أنه بذل الكثير من الجهد .
- أنت محصن للغاية يا ممدوح .
- بتقول إيه .
- وكمان سمعك تقيل .
واكتشفت بعد قليل أنه يسمع جيداً ، إلا أنه يعطي لنفسه الوقت الكافي للتفكير فيما تقول وهو يسمع ، وخير وسيلة لتحقيق ذلك أن يظل يردد مع كل جملة أنطقها :
- إنت بتقول إيه .
- مفيش . نكمل كلامنا بعدين .
ظللنا بالترانزيت لفترة تزيد عن الأربع ساعات ، ولم يكن هناك مفر من الجلوس صامتاً ، ورحت أراقب غيري من المسافرين ، كان معظمهم من العراقيين الذين قدموا للقاهرة لقضاء أجازاتهم وشراء احتياجاتهم ، ويبدوا أن فريق كبير منهم راح يعيد توزيع المشتريات فيما بينهم لتخفيف أعباء الجمارك ببغداد .
- نفس تصرفاتنا .
- يعني إيه .
- أنا ها حاول أطلع بره .
- علي فين .
- أبويا وأمي بره . اقعد معاهم شويه واَجي .
- لا هاتعرف تطلع وإن طلعت مش هاتعرف تدخل .
- هاحاول .
خرجت لمنطقة الجوازات ، وجدتني أسير تجاه ضابط ذو رتبة كبيرة ، قلت له :
- الطياره العراقيه متأخره ، وبلغونا إنه هتطير بعد تلات ساعات .
- طلباتك .
- القعده جوه الوقت ده كله متعبه .
- معاك حق ، في الحالات ديه لازم يكون فيه ترتيبات تانيه للمسافرين من شركة الطيران .
- ممكن أخرج أقعد مع الأسره بره .
- مفيش مانع ، بس سيب جوازك هنا ، وخلي ودنك مع الميكرفون .
وبهذا الحل العملي والسهل ، قدر لهذا الضابط أن يحطم - ولو لتلك اللحظة فقط - قيود البيرقراطيه الرهيبة دون أن يستخدم لفظاً واحداً من ألفاظها مثل لابد ، ختم جديد ، إلغاء إجراءات المغادرة ، وغير ممكن ، ولازم .وتعالي بكره .!!
ولأنني كنت جاهلاً بدهاليز وطرقات المطار ، فقد وجدت نفسي أصعد العديد من السلالم ، وأهبط غيرها ، واكتشفت أخيراً أنني تائه داخل المطار .
- من فضلك استراحة صالة السفر فين .
- إنت في الاستراحه ، عاوز مين .
- أنا بادور علي جماعه كانوا معايا .
- يمكن روحوا

كان هذا الإحتمال أقرب للتصديق . وقد علمت فيما بعد أنه لم يكن صحيحاً ، فقد ظلت أسرتي باقية مدة طويلة وحتى الموعد المحدد لإقلاع الطائرة . علي كل حال رحت أتمتع بحالة التيه ، اشتريت المزيد من الجرائد ، وشربت كوبين من الشاي ورحت أنظر لوجوه المسافرين وتصرفاتهم . ووجدت أنني لست الوحيد الذي أصابه التوتر والقلق. يبدو أن صلابتنا نحن المصريين غير كافية لمواجهة تلك اللحظات.

عدت لمنطقة الجوازات دون مشاكل ، فقد اختزنت ذاكرتي وبشكل جيد طريق العودة ، أخذت جواز سفري ، ودخلت قاعة الترانزيت. كان ممدوح واقفاً قلقاً ، ويبدو أن التعب قد أصاب معظم المسافرين ، فقد راح معظمهم في النوم ، وخيم علي القاعة الصمت .
- يا أخي ، إنت كنت فين . أنا كنت قلقان عليك .
- فيه أخبار عن الطياره .
- أبداً .
- يعني الجماعه ناموا .
- لازم يناموا بعد الزيطه اللي عملوها ، اختلفوا مع بعض كتير ، لكن في النهايه اتفقوا .
لم يكن هناك من مفر غير أن نقضي الساعات المتبقية داخل قاعة الترانزيت ، نحملق في وجوه المسافرين العراقيين ، وأستمع في عناء لحديث ممدوح الذي أظهر سعادة كبيرة بعودتي، وبدا واضحاً أن تكلفه وتحفظه كان مصطنعاً وأنه هو الآخر وجد في نوعاً من الأمان له . لعله وصل لنتيجة - أثناء غيابي عنه - بأن وجودي معه أفضل له من أن يكون بمفرده .
وأخيراً ، وبعد طول عناء ، جاء الفرج ، أرتفع صوت نسائي جميل ودافئ عبر الميكرفون بأن نستعد . نشط الركاب من جديد ، وراحت الصيحات تتعالي واندفع الجميع تجاه باب المغادرة .
.
القاهره. شتاء 1994

الثلاثاء، أغسطس ٠٥، ٢٠٠٨

3 - حكايات مسافر.. " الطريق الي بغداد"

"القاهرة. صيف 1975"
حين زرت العراق لأول مرة كانت هناك نبرة تفاؤل عالية بأن هذا البلد من الممكن أن يضاهي أية دولة أوربية متقدمة، وكان هناك الكثير من الآمال التي عقدت علي هذا البلد وشعبه.ماالذي حدث . وهل من جديد يمكنه أن يأتي.
كان من الواضح أن ارتفاع أسعار البترول - نتيجة لحرب أكتوبر - أعطي دفعة كبيرة للدول العربية للسير قدماً تجاه تنفيذ خطط تنمية كبيرة لبلادهم وهو ما انعكس بعد ذلك علي تغيرات كبيرة في شكل الخدمات المقدمة للمواطن هناك مثل شبكات الطرق الرائعة والخدمات الصحية الراقية إضافة للخدمات التعليمية وغير ذلك في شتي مجالات التنمية.

كانت صفحات الجرائد ممتلئة هذه الأيام بإعلانات الوظائف المطلوبة للأسواق العربية . ولعل الساسة العراقيين رأوا أنه من الأنسب لهم التوجه مباشرة للسوق المصري لمعظم طلباتهم من الكوادر المطلوبة وذلك عن طريق الإعلانات بالجرائد اليومية ، فذلك إضافة انه يحقق شعاراتهم بأن العراق بلد كل العرب وأن أي فرد يستطيع دخول العراق والعمل بها - وتلك كانت الخطوة الثانية للتواجد المصري بالعراق - فقد كان ذلك يضمن لهم دفع مرتبات أقل مما يحدده بروتوكول التعاون بين البلدين، فضلاً عن مرتبات باقي دول الخليج ، وذلك وفق ما يسمي بالعقود الشخصية.وكان طبيعياً أن يبدأ بالكوادر المتخصصة والراقيه من المهندسين والأطباء والمحاسبين والمدرسين وأساتذة الجامعات . ذلك أن الوجود المصري في العراق كان قاصراً حتى ذلك الوقت علي الكفاءات التي تعمل بموجب بروتوكول التعاون بين البلدين ، وكان العدد قليلاً وأغلبهم من أساتذة التعليم الثانوي ومعاهد المعلمين ، كما كان يوجد أيضاً بعض مهندسين الري .
والحق ان العراق كان محقاً في ذلك ، فأحواله الإقنصادية - ذلك الوقت - لم تكن تسير بنفس الوتيرة المتصاعدة كباقي دول الخليج . كما انه كان يواجه حرباً في شمال البلاد ، وبالنتيجة فقد كانت طبيعة الحياة هناك أقرب في شكلها لطبيعة الحياة في مصر ، ويعزز من ذلك الأمر أن دخل المواطن العراقي كان تقريباً متساوياً مع دخل المواطن المصري.
.
وكان الانطباع السائد - ولايزال - عن العراق أنها بلد الثورات والانقلابات وأنهار الدماء والسجون وأحكام الإعدام . كانت الصورة أكثر من قاتمة ومع ذلك فقد أخبرني أحد الأصدقاء الذين زاروا العراق بأن الأمر لا يصل إلي هذا الحد ، وأن هناك الوجه الأخر وهو حسن إلي حد كبير . فتشابه الأحوال الاقتصادية وتساوي الدخل للمصريين والعراقيين جعل هناك نوعاً من القرب الطبيعي بين المصري والعراقي . خلافاً لما كان سائداً بباقي دول الخليج ، حيث العلاقة محددة ومعروفة سلفاً ، بحيث لاتسمح بأي علاقة أو تقارب ، بل علي العكس لابد من وجود مسافات فاصله ، لا يجوز للمصري أن يتعداها . كما أن البلاد جميلة وغنية والمستقبل يحمل الكثير من الرخاء ذلك أنهم فيما يبدو هناك لا ينقصهم الإيمان أو الشجاعة لتنمية بلادهم وتحديثها، وتلك الضمانة الحقيقية للإستقرار والتأثير علي مجريات الأمور.
.
كان كل ذلك يبدو صحيحاً للوهلة الأولي. لكن، هل ظلت تلك الصورة وبهذا الشكل. لماذا نسبق الأحداث. لنعد للبداية ثانية. جاء جاري الأستاذ عبد الموجود ، لتوديعي وإعطائي نصائحه ووصاياه الأخيرة . ومشكلة جاري أنه يعتقد أنه يفهم في كل الأمور لذا فحديثه يحتاج لوقت طويل وصبر لمتابعته .
- أخيراً ، هتسافر للعراق .
وراح يضحك ، ولم أجد سبباً للضحك ففضلت الصمت ، غير أن حالة من القلق بدأت تساورني ، فعبد الموجود حين يضحك - وهو يتحدث - بتلك الطريقة فلابد أنه يحمل أخباراً سيئة .
- فيه حاجه عاوز تقولها ياعبد الموجود . قامت ثوره جديدة في العراق .
واصل ضحكه ، وهو ينظر في وجهي ، زاد ارتباكي وأيقنت بأنه يريد إبلاغي رسالة خطيرة .
- العراق مش وحش ، بس خلي بالك .
- من إيه ؟
- أصل المشكلة مش في العراق . المشكلة فيك .
- أرجوك توضح كلامك ، إذا كان فيه حاجه مفيده قولها .
- ملكش دعوه بالسياسه !! إبعد عن السياسه هتعيش كويس .
والحق أن وصية جاري لم تكن الأولي ، فأي إنسان كان يعلم بسفري للعراق إلا وينظر في وجهي متأملاً ثم يتحدث إلي بإشفاق قائلاً :
- المهم ، تخلي بالك وماتتكلمش في السياسه.

كانت هذه النظرة السائدة عن العراق والعراقيين ، شعب متقلب ، الثورات والانقلابات كثيرة وتتسم بقدر كبير من الإنفعال والدموية ، حرية التعبير غير متاحة . وكل ماهو متاح أمام الفرد الانضمام للحزب الحاكم والالتفاف حول الزعيم والتغني بأمجاده.
.
ويبدو أنه كان لي رأي آخر ، فالكلام في السياسة - في رأيي - هو الحد الأدنى المتاح أمامي كي أعبر عن رأيي ، ليس مهماً أن أعمل بها ، فذلك أمر يجلب المتاعب بالفعل إضافة لأن ذلك له مؤهلاته التي لاتتوفر لدي ، وله أيضاً نوعية معينة من الرجال لا يجدون ضيراً في أن يتخلوا عن حرية فكرهم لخدمة المعتقد السياسي الذي يخدمونه . وأنا لا أستطيع العيش دون مساحة كافية خاصة بي لوحدى أتحرك فيها علي هواي ، أمارس فيها حريتي وأطلق العنان لفكري . وكما أنه لا يفترض أن يكون الإنسان ترساً منضبطاً داخل آلة كبيرة يملك مفتاح تشغيلها السلطان أو الزعيم ، فهو أيضاً ليس بالحيوان الذي يعيش فقط كي يأكل ويشرب ويتناسل ، لقد خلق الله الإنسان حراً كي يعمر ويبدع ، وتلك هي قمة المسئولية أمام الخالق .
- أنا عارف مفيش فايده ، إنت ناوي تقول الكلام ده هناك .
- ياعبد الموجود إحنا بندردش مع بعض .
- الكلام ده هناك ممكن يوديك ورا الشمس . خليك عاقل .
- يعني أعمل إيه .
- يا أخي إعمل معروف وماتتكلمش في حاجه . مالكش دعوه بكل الكلمات اللي هاتوديك في داهيه ، حرية ، واَله ، وحيوانات ، وزعيم ... أنا قلتلك . وانت حر .
- شفت أديك قلتها أنا حر .
كان من الواضح أن المناقشة مع جاري وصلت للحد الذي أصابه بنوع من القرف . نظر إلي وهو يبتسم في بلادة ، ثم أدار رأسه بعيدا في إشارة معبرة عن تجاهلي ، وسأل عن السيارة التي تقلني للمطار .
- ياخونا التاكسي أخباره إيه .
- التاكسي وصل.

أقلتني سيارة تاكسي طراز فيات قديمة ومتهالكة ، القاهرة في يوليو لاتطاق ، من المؤكد أن حرارة الشمس أذابت طبقة الأسفلت التى تغطى الطريق ، ذلك أمر واضح من صوت احتكاك عجلات السيارة العجوز بأرضية الشارع ، ليختلط كل ذلك بأدخنة تتصاعد من كل أجزاء السيارة ، نكاد أن نختنق ، أصرخ بيأس :
- افتحوا الشبابيك .
- الشبابيك كلها مفتوحه .
- ياعم ، إنت جايب العربيه ديه منين .
- يابيه دي عربيه مفيش منها ، دي إتنين كامه .
- إتنين كامه ولا عشرين ، المهم إعمل حاجه للدخنه اللي هتقضي علينا .
- ده الشكمان ، وشوية تصليح بسيط وتبقي رهوان .
- ياعم صلحها ، حرام عليك .
- ما نت عارف يابيه الظروف ، شوف كيلو اللحمه بقي بكام.!!

كان لأي حديث تلك النهاية . ومها تحدثنا ، في السياسه أو الأدب أو العلوم ، فلابد أن ينتهي بنا الحال الي الأسعار واللحمه والزيت والسمن ورغيف العيش والسكن والحكومه وإسرائيل . ومع كل ذلك فأنني أعتقد أن جيلي كان أكثر راحة وسعادة بل وزهواً . كنت وانا واحد من هذا الجيل لدي الأمل والتفاؤل بغد أفضل لابد له أن يأتي . كان يجمعنا الإحساس بالفخر بعد حرب أكتوبر ، ولم يكن لدي أي منا أدني إستعداد للمزايدة علي إنتصارنا في إكتوبر ، كنا نعاني من المعيشة واللحمه والزيت والسمن ورغيف العيش والسكن ، ليكن ، لكن الغد سيأتي بكل الخير لمصر .
- ياعم حاسب ، إيه اللي بتعمله ده .
- يظهر يابيه والله أعلم أنه الكاربراتير .
- أنت مش قلت الشكمان !!
- الكاربراتير برضه تعبان شويه .
- هيه باينه من أولها ، الطياره ميعادها خلاص .
- إن شاء الله فيه وقت . ماتستعجلش.

إحساسنا بالوقت غريب ، لاأعتقد أن هناك مشكلة بيننا وبينه ، ولن تجد شعباً غني للصبر مثلما غنينا ، وتظل عالقة بذهني - ومنذ الطفولة - تلك اللافتة المعلقة بأحد المحلات وقد كتب عليها الصبر ورسم بجانب الكلمة مفتاح ضخم.من المؤكد أن الصبر يكون مطلوباً عند الشدائد ونفاذ الوسيلة ، لكن أن نركن إليه هكذا وبهذا الشكل فتلك مشكلة كبيرة وفي حاجة لدراسة . كان لدي الحس بأنه ينبغي أن نتعامل مع الوقت بشكل أفضل .
- هيه اللحمه برضه السبب .
- الظروف يابيه تعمل أكتر من كده .
- نزل الشنطه .
لم يكن بالإمكان أن نمشي الي المطار رغم أنه لم يكن بعيداً ، رحت اشير للسيارات التي كانت تتسابق فيما بينها ، وأخيراً توقفت أحد السيارات الخاصه ، شرحت له المشكله ، سمح لنا مشكوراً بالركوب .
- المشكله أن التاكسي مع أنه اتنين كامه بس الشكمان تعبان شويه .
- إنشاء الله هتلحق الطياره .
- إحساسي إنها طارت خلاص .
وصلت أخيراً المطار ، إقتربت من موظف الإستعلامات ، سألته بقلق عن رحلة بغداد .
- طيارة بغداد عليها تأخير ، عطلانه .
- عطلانه !! الشكمان برضه، إمتي هيصلحوها .
- الله أعلم . بعد ساعتين ، بعد أربعه ، ماتستعجلش .
- بس دي طياره ، والمفروض أنهم ...
- دور علي مندوب العراقيه وقله الكلام ده.

كنت أعتقد أن حركة الطائرات أكثر دقة في مواعيدها عن أي وسيلة أخري للمواصلات ، إلا أن اعتقادي هذا ظل خاطئاً لفترة طويلة ، خاصة لخطوط الطيران العربية . حاولت ومعي بعض المسافرين ، العثور علي مندوب الخطوط العراقية دون جدوى ، نصحنا أحدهم بدخول قاعة الترانزيت للاستراحة ومتابعة أخبار الطائرة. سألته:
- أيمكنني الخروج بعد ذلك والبقاء مع أسرتي .
- طبعاً مش ممكن ، لأنك لو دخلت الترانزيت ، بعد ختم الجواز ، كأنك خرجت بره مصر .
- بس أنا لسه جوه مصر .
- شوف ، واضح إنك مش فاهم تعليمات السفر ، علشان تدخل منطقة الترانزيت وتخرج منها ، فلا بد من إلغاء إجراءات المغادرة ، وعند دخولك مرة ثانيه ، لابد من إعادة إجراءات المغادرة مره ثانيه. دي قوانين وتعليمات.
- وطبعاً هناك فيه ختم تاني وبيانات تانيه .
- هناك فين ؟
- بغداد .
- هو أنت مسافر بغداد .
- أيوه ، فيه حاجه .؟!
- لأه ، مفيش ، هناك ياسيدي فيه ختم وفيه حاجات تانيه كتيره .
من الواضح أنني كنت جاهلاً تماماً بكل تلك القوانين والتعليمات، ولم يكن لدي مقدرة علي الاقتناع بها، إلا أنني علي الأقل أدركت أن السفر من دولة عربية لأخرى عربية له طقوسه التي لابد وأن تنقذ ، ورحت استرجع مفردات تلك الطقوس ، منطقة ترانزيت ، ختم مغادرة ، ختم وصول ، بيانات مسافر . ومن المؤكد أن كافة بيانات المسافر هنا وهناك ستسجل بكل دقه وأن نسخة من تلك البيانات ستكون أمام أجهزة الأمن للدراسة والمتابعة والعمل بها عند اللزوم . ويبدو أنني رحت أدمدم.
- أمال إيه حكاية بلاد العرب للعرب و...
- إنت جاي منين بالضبط !!
- من إمبابه .
- أنا شايف أنك تدخل الترانزيت أحسن.

وفهمت - أخيراً - من رده أنني قد وقعت في المحظور ، وأن وصايا جاري عبد الموجود لم أستطع تنفيذها ونحن لانزال بالقاهرة ، وكان لي عذري في هذا ، فقد كانت روح انتصارنا في أكتوبر تجلب لنا العديد من المعاني الجديدة للتضامن والإخاء العربيين ، إضافة لثقة بالنفس والمستقبل بدون مبالغة أو تكبر ، فالسادات يدير معركة جديدة - داخل مصر - لاتقل في خطورتها عن حرب أكتوبر ، فقد كان يمهد لعبور من نوع آخر ، تجاه ضفاف الحرية واحترام الرأي الآخر ، وبشائر نسمات الحرية القادمة لمصر توحي بالتفاؤل. ولم تكن روح الناصرية قد خبت بعد ، وجذوة الحس القومي لاتزال متوهجة ، وبتصرفات أقرب في شكلها للرومانسية كنا علي اقتناع كامل بأن كل ماقيل لنا له وجهه الأصيل ، فبلاد العرب ينبغي أن تكون للعرب ، والوحدة العربية هي الحصن والملاذ ، وأن تحقيق ذلك أمر وارد وممكن ، إن لم يكن غداً فبعد غد . المهم في الأمر هو كيف يمكن تحقيق ذلك.

.
القاهرة : شتاء 1994

الأحد، أغسطس ٠٣، ٢٠٠٨

2 - حكايات مسافر. " لو كان لي جناحان "

وشاء حظي - بعد ذلك - أن أعمل بأحد المطارات العربية مما جعل السفر بالنسبة لي أمراً ميسوراً، كما خدمتني الظروف السياسية كثيراً لأزيد من عدد جولاتي للعديد من البلاد والمدن، فقد فوجئنا نحن المصريين صباح أحد الأيام وبعد قمة بغداد الشهيرة ( 1979 ) التي أقرت المقاطعة العربية لمصر، بأن السفر للقاهرة بالطائرات العربية أو المصرية أصبح أمراً مستحيلاً. طبعاً لم يكن بالإمكان الاعتراض أو التصريح بعدم جدوى مثل تلك القرارات الغريبة التي لا تؤذي سوي المواطن العادي الذي يتلهف للعودة إلي بلاده . سألت وقتها عن الحكمة في ذلك القرار الثوري والعظيم، أجابني أحد الأصدقاء العراقيين بأنه لغرض الضغط علي الحكومة المصرية .
- لكن في الحقيقة إحنا اللي المضغوط علينا .
- هوه ده المطلوب بالضبط .
- بس إحنا الشعب .
- مش مهم الكلام ده عند القادة .

- وإيه تاني ؟
- القرار أيضا يعد رسالة تحذير للحكومة بأنه ممكن فيه حاجات تاني
- زي إيه .
- يعني ممكن الاستغناء عن خدمات كل المصريين .
- المهم أسافر علي مصر ازاي .
- سافر بالطيارة لأي بلد ومنها بطياره أجنبية علي مصر .
- وليه اللفه دي كلها .
- هكذا الأمر .
- كل ده علشان القادة العرب زعلانين من مصر؟! .
- أخي حاول تفهم ممنوع طياراتنا تروح مصر وممنوع طيارات مصر تيجى هنا.
- مش ملاحظ أن الأجانب هما اللي المستفيدين من القرار ده .

وبالفعل، فقد شهدت مطارات عديدة مثل لارناكا وأثينا ومالطة ازدحاما ورواجاً لم يكن يحلمون به، وكما شهدت الطرق البرية والبحرية جموعاً هائلة من المصريين العائدين لبلادهم. ووسط ذلك الازدحام والتكدس كان هناك العديد من المشاكل والماَسي التي واجهت جموع المصريين العائدين وللحد الذي كان يصل لامتهان آدميتهم وكرامتهم .وعلي طول الحدود البرية العربية قدر لجموع المصريين أن يمارسوا أقصي أنواع ضبط النفس والصبر والجلد في مواجهة تعنت واستخفاف موظفو الجوازات والجمارك وحرس الحدود وحتى المواطنين العرب الذين وجدوا في كل ذلك فرصة طيبة للكسب والابتزاز.إنها حالة كثيراً ماتتكرر، ولعلها تشكل القاعدة في التعامل مع المصريين عند نقاط الحدود والجوازات والجمارك العربية والتي أسفرت عن شعور بالتوتر يتملكني - ويشاركني في ذلك الإحساس الكثيرون - عند الشروع في زيارة دولة عربية .
وهكذا يصبح المواطن المصري دوماً الحائط المائل الذي ترتكن عليه حماقات القادة العرب .

علي كل وجدت نفسي - فيما بعد - قادراً علي السفر. واكتشفت أنني عاشق له. فبين كل آونة وأخري كنت أتحين الفرصة لأطير لأي بلد. زرت العديد من البلدان البعيدة والقريبة. إنجلتره، النمسا، المجر، قبرص، إيطاليا، الأردن ، الكويت ، سوريا ، تايلند ، ألمانيا، بخلاف إقامتي لفترة كبيرة بالعراق .
وأصبح هاجس السفر يلح علي دوماً بالتجوال والاستزادة ويقف لي دوماً بالمرصاد إذا ماكررت زيارة أحد البلاد ثانية. فقد دفعني حبي لبعض البلاد أن أكرر زيارتها مرات عديدة مثل لندن وفيينا وبودابست ولارناكا. وأعترف أنه كان محقاً في ذلك فقد كان من الممكن والأجدى أن أسافر لبلاد أخري لم أراها من قبل.
يبدو أن عشق السفر لايقبل بمحبوبة سواه. ولعل ابن بطوطة خير مثال للرحالة الذي كان كلما وجد نفسه محاصراً في أحد البلاد بالزوجة والعيال إلا ووجد لنفسه عذراً لمغادرة ذلك البلد ومعاودة الترحال .

كان شاغلي في كل رحلاتي - وأيضاً في الأماكن التي عملت بها - محاولاتى الجادة للفهم، فهم للمكان وللإنسان. والأمر لم يكن بسيطاً كما كنت أعتقد وكما كنت أريد ، فالقرب من الإنسان يظل محفوفاً بمخاوف ومحاذير تفرضها اعتبارات عديدة، كما أن البلاد لا تبوح بأسرارها ببساطة لكل عابر مهما كانت مهارته وخبراته، إنه شيء - كما يصفه عاشق مصر الدكتور جمال حمدان - أشبه باكتشاف جبل جليدي عائم، فمهما حاولت فلن تري منه سوي قمتة بينما يظل باقيه مدفوناً في الأعماق.

ومع كل ذلك فباعتقادي أنه يكفيني شرف المحاولة لكل ما سأكتبه. وهو لن يزيد عن ذلك، فلا تنتظر مني ياصديقي أن أحشو كلامي بأرقام وخرائط وأسماء، ذلك لم يكن ذلك عملي أو هدفي. كل ما ستجده هو انطباعات شخصية فرضتها ظروف المعايشة ومحاولة الفهم.

وربما كان هناك شاغل آخر أكثر إلحاحاً وأهمية، وهو موقف الإنسان المصري في البلاد العربية الجاذبة للعمالة. مالذي يحدث له، وكيف تتشكل علاقته بمن حوله من أبناء تلك البلاد. ولماذا يكون المصري دوماً هو الضحية. إنه أمر يشكل بكل المقاييس هماً مضافاً لهموم الغربة ومتاعب البحث عن الرزق .

ومع أن معظم رحلاتي كانت منذ سنوات بعيدة وأحداثها قديمة، فمعظمها حدث في السبعينات والثمانينات، إلا أنني أري أنه لم يجد جديد، بل علي العكس فكثير من تلك الأحداث لاتزال في انتظار نهاية لها قد لاتأتي إلا بعد مرور كثير من الوقت، وقد لا تأتى بالمرة أية نهاية. ولعل ذلك أحد السمات العربية الأصيلة، فتلك هي اللعبة المفضلة للحكام العرب أياً كان أسمائهم، رئيس أم ملك أم شيخ أم أمير أم زعيم. فأولئك الحكام هم المسئولون عن كل مانجابه بالمنطقة من أحداث رديئة وتكرار ممل للرداءة والرتابة. فمعذرة إن وجدت بعض الأحداث معادة، فذلك لن يكون ذنبي، فلولا كلام حكامنا العرب يعاد لنفد كل مالدينا من كلام.

ولعلني لا أضيف جديداً إذا قلت أن كل مانواجهه من مشاكل مع العرب هو افتقادهم للحرية ولأساليبها في التعامل. فالحوار بيننا معدوم أصلاً وإذا ماتم فنفسه قصير للغاية ومفرداته معروفة، الطلقة والسكين والسجون الضيقة. وأبسطه السباب والاتهامات الساخنة بالخيانة والتكفير.

ويصبح الدفاع عن حرية الإنسان العربي مدخلاً لتصحيح الكثير من المواقف والقضايا. وقد يبدو للوهلة الأولى أننا في مصر نتمتع بقدر كبير - نسبياً - من الحرية وحق التعبير، وقد لا نكون في مصر راضين عن كل ذلك ونطمح للمزيد، إلا أن مانتمتع به يعد بكل المقاييس أكبر بكثير مما هو سائد وموجود في معظم لدول العربية.

ذلك ليس نوعاً من التباهي فتلك حقيقة. وليس من مطلب سوي أن نطالب بالمزيد من الحريات للمصري داخل بلاده أولاً حتى تصبح مصر واحة للحرية الحقيقية والأمان وسط تلك المساحات الهائلة من الصحراء المجدبة. ويقيني أنه إذا ماتم ذلك فستنتشر عدوي الحرية لمساحات أبعد من الواحة المصرية.

وتتوالي الأيام والسنين ولازلت أحلم بالسفر والترحال إلي بلاد الله الواسعة وحيث الإنسان يكد ويسعى ويحلم ويحب .
لازلت أحلم بالسفر إلي أمريكا، اليابان، فرنسا، الدول الاسكندفانية ، جنوب أفريقيا، الجزائر، جبل طارق، وكم أتمني أن أقضي كثيرا من الوقت - ثانية - وسط الأكراد في شمال العراق في محاولة ثانية للفهم. وربما تحين لي الفرصة لزيارة لواء الأسكندرونة، وقبل كل ذلك فكلي شوق لزيارة المدن المحررة من فلسطين.
لازلت أملك الحلم بالطيران والتحليق .
اَه لو كان لي جناحان!!
.
القاهره: شتاء 1994

السبت، أغسطس ٠٢، ٢٠٠٨

1 - حكايات مسافر.... " الفائدة السابعة للسفر" ...

منذ مايزيد علي العشرين عاماً وأنا في حالة سفر. كانت البداية البحث عن عمل خارج مصر، كان السفر هذا الوقت ترفاً لا أقدر عليه، حتى استطعت الحصول علي عقد عمل بالعراق كمدرس بالتعليم الصناعي. وكنت متردداً فخبراتي بالتدريس قليلة كما أنني كنت - ولازلت - أعتقد أن التدريس مهنة شاقة وأن المقابل المادي لها قليل للغاية .
ذات يوم وأثناء عملي بمصنع الحديد والصلب بحلوان ووسط ضجيج الماكينات ولفيح الحرارة والأدخنة المنبعثة من الفرن العالي لمحت أحد أساتذتي صاعداً درجات السلالم الحديدية التي تحيط بأحد بنايات الفرن، ومعه مجموعة من تلاميذه الذين جاء بهم لزيارة المصنع. كان الحوار معه صعباً للغاية ومع ذلك فقد أخبرت أستاذي بسفري القريب .
- بس خايف .
- بتقول إيه. زعق شوية .
- المشكلة يا دكتور إني مسافر ومش هاشتغل مهندس .
- طيب وإيه يعني. هاشتغل إيه ؟! .
- مدرس .
- علي صوتك .
- في التدريس .
- رائع هتكسب خبرة جديدة. إيه المشكلة.!! مسافر فين؟
- العراق. ودي مشكله لوحدها .
- ولا مشكله ولا حاجه. اسمع، السفر في حد ذاته مكسب. وبعدين وقت متلقي نفسك مش قادر تواصل في العراق سافر لمكان تاني .
- مكان تاني فين يا دكتور؟! .
- عندك ماليزيا وسنغافوره، بلاد كويسه، وقريبين من العراق. تقدر تسافر لهناك بسهوله .
- فين يا دكتور.؟!
- باقولك ماليزيا وسنغافوره .
- ماليزية إيه وسنغافورة إيه يا دكتور . أعمل إيه هناك؟! .
- اشتغل. هناك فيه مطاط، اشتغل في المطاط .
- مطاط إيه اللي اشتغل فيه يادكتور أنا خايف أسافر أصلاً .
- زي ماقلتلك السفر في حد ذاته مكسب كبير، ده له فوايد سبعه. صدقني هاتكسب .
وراح يعدد فوائد السفر فائدة تلو الأخرى .
- لكن دول سته بس يادكتور .
- عليك باكتشاف الفائدة السابعة بنفسك.

ورغم أن ذلك الموقف حدث بهذه الطريقة العفوية، إلا أنه كان أول درس لي في تجربة السفر، وأنا أدين به لأستاذي. طبعاً لم يسعفني الحظ بالذهاب إلى ماليزيا أو سنغافورة للتجارة بالمطاط. كما أنني لازلت أبحث عن الفائدة السابعة للسفر.
.
القاهره : شتاء 1994