الجمعة، أغسطس ١٥، ٢٠٠٨

7 - حكايات مسافر.. " العمارة مدينة سيئة السمعة "

نزلت لبهو الفندق ، كان ممدوح قد أنهي إجراءات الحجز لكلانا ، وصعد للراحة. وجدتني أخرج من باب الفندق وأستدير تجاه شارع الرشيد القريب. الشارع طويل للغاية، وله سحر لايقاوم، أشعر برائحة القدم والأصالة والتاريخ. المباني لاتزال علي حالها، قديمة ونظيفة، والعديد من البلكونات يظهر من أسفلها الكمر الحديدي الذي يحملها بطريقة البناء البغدادي القديم، والذي لايزال معمولاً به. ومهما طغي إيقاع العمارة الحديثة فسيظل ماتبقي للشارع من أبنية قديمة تعطيه ذلك الجو الساحر والحالم. بواكي البنايات تشكل مظلة لأجزاء طويلة من الشارع، قهوة المرابعه أحد العلامات البارزة، مبني الأورزدي وهو متجر كبير، عرفت فيما بعد أن أول محاولة لاغتيال عبد الكريم قاسم كانت أمامه، وأن صدام حسين كان أحد المشاركين.

صباح اليوم التالي علمت أن ممدوح غادر الفندق دون أن يترك أي رسالة كما أنه لم يخبر أي أحد بمكانه الجديد، قلت ربما توجه لإدارة التعليم الصناعي ليعرف المدرسة التي سيعمل بها. لو صدق توقعي فبإمكانى الاستفسار عنه هناك .
قابلت الأستاذ عدنان مدير الإدارة الذي رحب بي وأفهمني أنه سيرسلني للعمل بأحد محافظات العراق الجميلة. كان مشغولاً طوال الوقت بنظارته الصغيرة جداً والتي كلما ضبط موقعها فوق عينيه إلا أنها كانت تغافله وتسقط ثانية. مما جعله يحني رأسه كثيراً وهو يحدثني. ولا أعلم كيف اكتشف حبي الشديد لأكلات السمك، فقد رشحني لأحد المدن الشهيرة بالسمك وراح يعدد مزايا السمك هناك .
- تشتغل بمحافظة العمارة. محافظة جميلة وأجمل ما فيها السمك .
ولعله كان هو الآخر عاشقاً لأكلات السمك فقد راح يعدد لي أنواعه وأصنافه والطرق العراقية الشهيرة لطهيه. ورحت أنا الآخر أصف له أكلات السمك المحببة إلي وأنواع السمك النيلي والسلطات التي يجب أن تصاحب تلك أكلات السمك بمصر. ولأهمية الحديث الدائر بيننا فقد أوصي سكرتيرته بعدم دخول أحد لحين ترتيب مقر العمل للمدرس المصري الجديد .
- أهم حاجه سلطة الطحينة، أيضاً الرز لازم يكون معمول بزيت القليه ومعاه البصل والصلصله .
- عظيم عظيم . بالله عليك لتجرب سمك الزبيدي .
- وأسعار السمك يا أستاذ عدنان . عامله إيه ؟
- سمك دجلة غير إنه طيب رخيص للغايه وطازه .
- والبلد .
- جميلة ، كل شئ هناك رائع .
- علي بركة الله .
- تاخد أوراقك بسرعه ، وتروح هناك تسلمها للمدير، وهو يخطرنا باستلامك العمل.

تركت السيد عدنان وأنا في حالة نفسية مرتفعة فقد أكد لي أن المدينة جميلة، وأن السمك متوفر هناك بأسعار زهيدة، ماذا أريد أكثر من ذلك.؟! غير أنه كان بداخلي حالة من القلق لا أدري سببه، ربما كان بعد المسافة بين تلك المدينة وبغداد هو أحد الأسباب .إضافة لعدم معرفتي بمكان ممدوح، أو ماذا حدث له.
في طريق العودة، سألت سائق التاكسي عن رأيه بمدينة العمارة التي سأذهب لاستلام العمل بها، ويبدو أن الرجل فوجئ بسؤالي فقد التفت إلي محتداً وصرخ بصوت عال:
- خره علي العمارة وعلي اللي في العمارة.
كنت مندهشاً للطريقة الحادة في الرد، ويبدو أن تلك سمة واضحة لقطاع كبير من العراقيين، فهم لا يستطيعون تجميل رأيهم. يبدو أنه لاحدود لاندفاعهم، إذا أحبوا شيئاً فهم يحبونه بلا حدود، وإذا كرهوه فهم يكرهونه من كل قلوبهم.
بطبيعة الحال لم يعي السائق كل مادار بذهني، ولم يكلف نفسه عناء التصحيح أو تجميل مقولته، بل راح يشرح لي كيف أنها مدينة سيئة، وإناسها أكثر سوءً، مستخدماً أقصي ما أسعفته به ذاكرته من ألفاظ سيئة .
- أرجوك انتبه للطريق .
- أنت الذي يجب عليه أن ينتبه لطريقه .
- طيب السمك هناك مش كتير وطيب المذاق؟! .
- أي قواد ذكر لك هذا .
- يعني خلاص. مقفوله لا البلد، ولا ناسها، ولا السمك . مافيهاش حاجة خالص .
- روح أي مكان غير العمارة. يريد القواد إرسالك هناك بأي طريقة. لاتقبل .
- إيه المشكلة بالضبط .
- والله لو رحت هناك كأنك رايح لهلاكك. لاتقبل .
- غداً سأعود إليه، وسأطلب تغيير المكان .
- لاتنتظر للغد . هيا عد لهذا القواد الذي يريد إرسالك لحتفك. بابا لا تخاف منه ولا من أبوه.
- لنرى ماذا يحمل الغد من أخبار.

وجدت نفسي أواجه مشكلة حقيقية، فكل المعلومات التي شاركني أصدقائي المصريين في جمعها عن تلك المحافظة أوصلتنا لنفس النتيجة المفزعة التي أخبرني بها سائق التاكسي. وتطوع بعض الأصدقاء العراقيين للحضور لمقابلتي وتحذيري من العواقب الجسيمة التي تنتظرني في حالة ذهابي هناك. وقد علمت منهم أن تلك المحافظة الجنوبية تعد أحد المعاقل الهامة للشيعة والشيوعيون أيضاً. وأن قربها النسبي من الحدود الإيرانية يجعل أهلها أقرب ميلاً للسياسة الإيرانية وأشد حباً للإيرانيين .
- هوه ده السبب .
- في الحقيقة دي أسباب تخليك تبعد عن البلد ديه .
- بس هناك فيه سمك كتير ورخيص .
- المعلومه صحيحة . بس مش علشان السمك ترمي نفسك في العمارة .
- والله ياخويا من وجهة نظري أنا شايف أن كل الأسباب اللي ذكرتها لاتدفع للخوف، يبقي علي الأقل فيه سبب مشجع للذهاب، السمك والقرب من دجله.

وفي الحقيقة لم يكن لدي بالفعل من أسباب تجعلني أتفق معهم في الرأي. بل علي العكس فقد وجدت من المزايا - فيما سمعت - عن تلك المدينة الكثير. فهي مدينة صغيرة وهادئة وتقع علي أحد ضفاف نهر دجلة. ذلك النهر الذي لاتملك معه غير أن تحبه، فخلال المدة القصيرة التي قضيتها ببغداد وجدت نفسي عاشقاً لهذا النهر الرائع والهادئ والمسالم. ربما كان هناك سبباً مضافاً فالمدينة - كما قالوا - تمتلئ بالكثير من الأفكار والتيارات، وهذا في رأيي عنصر ساحر من عناصر الحياة التي يدفع الإنسان إليها وليس الفرار منها .قفز إلي ذهني جملة كنت قد قرأتها لأحد شخصيات لورانس داريل في روايته الشهيرة "رباعية الأسكندرية : "يبدو أن العيب ليس بالمدينة، العيب بداخلنا نحن" .

ليست هناك تعليقات: