الجمعة، أغسطس ٠٨، ٢٠٠٨

4 - حكايات مسافر .. " مقابلات الترانزيت"

ودعت أفراد أسرتي . كان الموقف مؤثراً وحزيناً . رجوتهم أن يغادروا المطار . أصر والدي علي البقاء ، وطلب مني الدخول للترانزيت والاسترخاء . تلكأت في الذهاب . منذ تلك اللحظة ، ولحظات الوداع تصيبني بنوع من القلق والإكتئاب ، وأظل مكتئباً ومتوتراً حتى تبدأ الطائرة في الإقلاع . وقتها فقط يزول عني التوتر وأعود إلي طبيعتي . وبسبب قسوة تلك اللحظة بالذات - الوداع الأول - وجدت نفسي فيما بعد لا أخطر أحداً بموعد وصولي ولا أرحب بأي مبادرة لتوديعي . وأصبحت ضمن طقوسي والتي اعتاد عليها الجميع فيما بعد أن أذهب للسفر بمفردي وأن أعود دون أن أجد من ينتظرني . وقد أكون محقاً في ذلك ، فلحظات القلق والتوتر حين تصيبني أحس معها بالضعف والعجز عن عمل أي شيئ وعدم القدرة علي الفهم لأي أمر يدور حولي .وقد يكون لدي مبرر نفسي لذلك ، فلم يقدر لي أن أري والدي ثانية بعد تلك اللحظة.

في قاعة الترانزيت تعرفت علي المهندس ممدوح ، وكانت فرحتي بمعرفته شديدة ، فقد كان ممدوح هو الآخر ذاهباً إلي بغداد للعمل بالتدريس ، حاولت الاقتراب منه والتودد إليه في محاولة مني للخروج من حالة القلق التي انتابتني .
- معرفة خير إن شاء الله . إن لم يكن لديك مانع فبالإمكان أن نرتب سوياً للعمل بنفس المكان .
- انت بتقول إيه .
وبدا أن ممدوح متحفظاَ للغاية فهو لا يود أن يوافقني ولو من باب المجاملة . كما أن صوته كان منخفضاً للغاية مما جعلني أقترب منه بأذني مرات عديدة في محولات يائسة للتعرف علي مايقول ، رحت أتابع حركات شفتاه محاولاً الفهم ، غير أنه ولحظي التعس وجدته يحرك شفتيه كيفما شاء دون أدني علاقة بما يصدره من أصوات . ولكل ذلك فقد عاني كثيراً - بعد ذلك - في العمل كمدرس ، رغم أنه بذل الكثير من الجهد .
- أنت محصن للغاية يا ممدوح .
- بتقول إيه .
- وكمان سمعك تقيل .
واكتشفت بعد قليل أنه يسمع جيداً ، إلا أنه يعطي لنفسه الوقت الكافي للتفكير فيما تقول وهو يسمع ، وخير وسيلة لتحقيق ذلك أن يظل يردد مع كل جملة أنطقها :
- إنت بتقول إيه .
- مفيش . نكمل كلامنا بعدين .
ظللنا بالترانزيت لفترة تزيد عن الأربع ساعات ، ولم يكن هناك مفر من الجلوس صامتاً ، ورحت أراقب غيري من المسافرين ، كان معظمهم من العراقيين الذين قدموا للقاهرة لقضاء أجازاتهم وشراء احتياجاتهم ، ويبدوا أن فريق كبير منهم راح يعيد توزيع المشتريات فيما بينهم لتخفيف أعباء الجمارك ببغداد .
- نفس تصرفاتنا .
- يعني إيه .
- أنا ها حاول أطلع بره .
- علي فين .
- أبويا وأمي بره . اقعد معاهم شويه واَجي .
- لا هاتعرف تطلع وإن طلعت مش هاتعرف تدخل .
- هاحاول .
خرجت لمنطقة الجوازات ، وجدتني أسير تجاه ضابط ذو رتبة كبيرة ، قلت له :
- الطياره العراقيه متأخره ، وبلغونا إنه هتطير بعد تلات ساعات .
- طلباتك .
- القعده جوه الوقت ده كله متعبه .
- معاك حق ، في الحالات ديه لازم يكون فيه ترتيبات تانيه للمسافرين من شركة الطيران .
- ممكن أخرج أقعد مع الأسره بره .
- مفيش مانع ، بس سيب جوازك هنا ، وخلي ودنك مع الميكرفون .
وبهذا الحل العملي والسهل ، قدر لهذا الضابط أن يحطم - ولو لتلك اللحظة فقط - قيود البيرقراطيه الرهيبة دون أن يستخدم لفظاً واحداً من ألفاظها مثل لابد ، ختم جديد ، إلغاء إجراءات المغادرة ، وغير ممكن ، ولازم .وتعالي بكره .!!
ولأنني كنت جاهلاً بدهاليز وطرقات المطار ، فقد وجدت نفسي أصعد العديد من السلالم ، وأهبط غيرها ، واكتشفت أخيراً أنني تائه داخل المطار .
- من فضلك استراحة صالة السفر فين .
- إنت في الاستراحه ، عاوز مين .
- أنا بادور علي جماعه كانوا معايا .
- يمكن روحوا

كان هذا الإحتمال أقرب للتصديق . وقد علمت فيما بعد أنه لم يكن صحيحاً ، فقد ظلت أسرتي باقية مدة طويلة وحتى الموعد المحدد لإقلاع الطائرة . علي كل حال رحت أتمتع بحالة التيه ، اشتريت المزيد من الجرائد ، وشربت كوبين من الشاي ورحت أنظر لوجوه المسافرين وتصرفاتهم . ووجدت أنني لست الوحيد الذي أصابه التوتر والقلق. يبدو أن صلابتنا نحن المصريين غير كافية لمواجهة تلك اللحظات.

عدت لمنطقة الجوازات دون مشاكل ، فقد اختزنت ذاكرتي وبشكل جيد طريق العودة ، أخذت جواز سفري ، ودخلت قاعة الترانزيت. كان ممدوح واقفاً قلقاً ، ويبدو أن التعب قد أصاب معظم المسافرين ، فقد راح معظمهم في النوم ، وخيم علي القاعة الصمت .
- يا أخي ، إنت كنت فين . أنا كنت قلقان عليك .
- فيه أخبار عن الطياره .
- أبداً .
- يعني الجماعه ناموا .
- لازم يناموا بعد الزيطه اللي عملوها ، اختلفوا مع بعض كتير ، لكن في النهايه اتفقوا .
لم يكن هناك من مفر غير أن نقضي الساعات المتبقية داخل قاعة الترانزيت ، نحملق في وجوه المسافرين العراقيين ، وأستمع في عناء لحديث ممدوح الذي أظهر سعادة كبيرة بعودتي، وبدا واضحاً أن تكلفه وتحفظه كان مصطنعاً وأنه هو الآخر وجد في نوعاً من الأمان له . لعله وصل لنتيجة - أثناء غيابي عنه - بأن وجودي معه أفضل له من أن يكون بمفرده .
وأخيراً ، وبعد طول عناء ، جاء الفرج ، أرتفع صوت نسائي جميل ودافئ عبر الميكرفون بأن نستعد . نشط الركاب من جديد ، وراحت الصيحات تتعالي واندفع الجميع تجاه باب المغادرة .
.
القاهره. شتاء 1994

ليست هناك تعليقات: