الجمعة، أغسطس ٢٢، ٢٠٠٨

8 - حكايات مسافر .. " العمارة أول محاولة للفهم "

أخذت قراري بالسفر للعمارة رغم صيحات التحذير الكثيرة من العراقيين والمصريين وكان علي أن أرتب أموري بسرعة للذهاب فقد تعطلت عدة أيام في مناقشة تلك المسألة ولم يعد هناك مبررا لبقائي ببغداد . كل ما كان يشغلني هو أين ذهب ممدوح ولماذا تصرف علي هذا النحو ، وبينما كنت أجهز حقيبتي إذ بوجه ممدوح يطل من فتحة الباب وهو يتحدث بسرعة فتختلط الكلمات بعضها ببعض .
- اسمع عاوز أرجع .
- ترجع فين .
- مصر طبعاً . عاوزين يحدفونى للعمارة .
- وفيها إيه العماره .
- أنا لما عرفت إنك التاني رايح هناك. جيت أشوفك .
- المهم إنت كنت فين الكام يوم اللي فاتوا .
- كنت بادور علي شغل .
- ماحنا جايين علي شغل .
- أنا لاهاشتغل مدرس ولا هاروح العماره واللي يحصل يحصل .
كان علي أن أقنع ممدوح بخطأ تفكيره، وأن عليه التريث حتى يجد عملاً أفضل ، ولم أستغرق وقتاً طويلاً في ذلك فقد أقتنع بحديثي وكان من الواضح أنه فشل في إيجاد عمل آخر وهذا ما سهل من مهمتي. راح ينظف نظارته بهدوء وهو يتمتم " المهم نكون مع بعض.

توجهنا إلي كراج النهضة وركبنا أحد السيارات المتوجهة إلي العمارة، المسافة طويلة والحر يجعل كل الأملاح المختزنة بالجسم تخرج مع العرق الذي سرعان مايجف تاركاً دوائر بيضاء من الملح الآدمي يعلق بالملابس. بينما أسند ممدوح رأسه فوق مسند مقعده وراح في نوم عميق. علي جانبي الطريق كانت هناك مساحات شاسعة من الأراضي مغطاة هي الأخرى بطبقة كثيفة من الملح، وبالرغم من هذا غزو الملح الشرس إلا أنك تستطيع أن تتبين أنها أرض طيبة وجيدة إذا ما تم العناية بها، كنت مستغرقاً تماماً في النظر والتأمل لتلك المساحات الهائلة التي يزحف عليها البوار بإصرار وهدوء. ويبدو أن جاري لاحظ انشغالي فراح يتحدث معي عن تلك المشكلة:
- عفواً إذا قاطعت صمتك .
- لاهي بالصحراء ولا هي بالأرض الزراعية، الملح يكاد يأكلها .
- نعم . وتلك أحد التحديات التي علينا مقابلتها. المشكلة قديمة وعلي مدار السنين لم يجرؤ عهد من العهود البائدة علي فعل شئ .
- في رأيي أن المشكلة فنية بالدرجة الأولي وقد يكون لها وجهها الاقتصادي. فتلك الأراضي بحاجة لشبكة كبيرة للري والصرف.
- لا تنسي الوجه السياسي أيضاً، فحين لاتملك مقدراتك لاتسطيع فعل شئ .
- هذا كلام طيب ، ولكنكم بالفعل تملكون مقدراتكم .
- نعم ، هذا صحيح ، فمنذ تأميم النفط العراقي وكل مشاكل التنمية تستحوذ علي تفكير السيد النائب .
- تقصد صدام حسين .
- صدام حسين . يبدو أنك وافد جديد للعراق .
- عفواً فنحن في مصر نكتفي بذكر الرئيس باسمه المجرد وأيضاً الوزراء نذكرهم بأسمائهم ودون أي ألقاب ، ولا نعتقد - في مصر - أننا بذلك نستخف بهم أو نهينهم. أتعتقد أننا قاربنا الوصول.؟!
- نحن علي مقربة لم يتبق الكثير.
كان واضحاً من سؤالي عدم رغبتي في مواصلة الحديث، كنت علي يقين أن محاولتي للفهم ستجعلني أطرح العديد من الأسئلة المحظورة، مثل من هو صدام ومن أين جاء، وكيف يفكر، وماهي صيغة الحكم في العراق، وماهو الجديد الذي يمكن للسيد النائب أن يفعله. خلال المدة القليلة التي قضيتها ببغداد، أدركت أن نجم صدام حسين في صعود مستمر، وأنه ورغم وجود المرحوم أحمد حسن البكر كرئيس لمجلس لقيادة الثورة وللجمهورية، إلا أن الضوء كان يحوط بصدام بشكل ملحوظ ودعائي وبشكل أقرب للتنظيم المتعمد. وبدا واضحاً أن أسم صدام لابد أن يذكر بشئ من التبجيل وذلك باستخدام مفردات مثل السيد. وقد حدث - بمرور الوقت - نوع من التمادي في ذلك حتى أنه أصبح لزاماً للمواطن العادي وهو يتحدث عن صدام أن يسبق اسمه بلقب السيد، ويعقبه بدعاء له، وكان من الشائع والعادي لأي مواطن عند الحديث عنه أن يبدأ بالسيد النائب حفظه الله.
.
أخيراً وصلنا للعمارة وكما توقعت كانت مدينة صغيرة تبدو النظافة واضحة بشوارعها وقد أغلق الجميع أبوابهم ساعة القيلولة هرباً من حرارة الجو العالية. وجدنا أحد الفنادق البسيطة ، استرعي انتباهي اسمه ( فندق الكويت لصاحبه حنون).تخيرنا غرفة تطل علي الشارع الرئيسي وشاطئ دجلة. كان سعر الغرفة ملائماً. فوجئت بأن صاحب الفندق ورغم حرارة الجو الخانقة يصر علي ارتداء بذلة كاملة، بصعوبة تتبين لونها البني، وربطة عنق فوق قميص أزرق. أخذ يعدد لي مزايا الفندق ويؤكد أن السعر يشمل أيضاً سريرين آخرين للنوم بسطح الفندق، وحين أخبرته بأننا لا نود النوم ليلاً علي السطح ابتسم قائلاً :
- يعني ماتريدوا السراير .
- حلال ياعم عليك .
- أعتقد إنه صعب عليكما المبيت بالغرفه . وقت ماتريدوا السراير خبروني ، بصراحه هأجرها لغيركم ، لكن سمعة الفندق فوق كل اعتبار، حاولوا تناموا بالغرف وألله يساعدكم .
هل جرب أحدكم النوم بأحد الفنادق الصغيرة في أحد مدن الجنوب العراقي وفي شهر يوليو ( تموز ) بغرفة مغلقة ليس بها سوي مروحة سقفية. انه الجحيم بعينه.

كان حنون محقاً فلم نستطع المبيت داخل الغرفة سوي لعدة ليالي قليلة للغاية . كانت ليالي لاتنسي. في الليلة الثالثة أو الرابعة وفور رقودي فوق السرير الساخن رحت أنظر بإمعان إلي المروحة السقفية وهي تئن وتدور دون جدوى . كنت أحدث نفسي بأننا أشبه بتلك المروحة القديمة المتهالكة، ما الجدوى من رحيلي ووضعي في تلك الغرفة الضيقة الساخنة. وبينما أستعد للإجابة علي هذا السؤال محاولاً إقناع نفسي بأن هناك ثمة فائدة من قدومي، وأن هناك فارق كبير بيني وبين تلك المروحة. وقبل أن أصل لنوع من الرضي لوصولي لتلك النتيجة، إذ بي ألمح ( برص ) ضخم للغاية يمشي متلصصاً بجوار اللمبة النيون الملتصقة بالجدار ناظراً تجاهي مقترباً ببطء يثير الهلع من سريري. كان برصاً ضخماَ وشكله مقزز وجلده شفاف ويكشف عن كرش ضخم، للحد الذي تستطيع أن تري بوضوح أحشاءه الداخلية الممتلئة. بالكاد استطعت أن أقول وبصوت عال " ياليلة سودا " ثم نهضت من فوق السرير فزعاً صارخاً طالباً النجدة، لايستر جسدي سوي سروال داخلي قصير، وخلفي كان ممدوح يجري عاريا هو الآخر، ممسكاً بنظارته وآثار النوم بادية عليه .
ويبدو أن حنون وأولاده لم يفهموا الأمر بالشكل السليم. نزع حنون جاكيت البذلة ورمي بالكرافتة خلف ظهره وشمر أكمام القميص الأزرق ونظر تجاهنا مرعوباً :
- حنش بالغرفة .
- ياحنون مش حنش. برص كبير .
- شينو، لؤي روح معاه ياوليدي .
مشي لؤي تجاه الغرفة بتكاسل وهدوء قاتل ثم دخل ونظر حيث كان البرص لا يزال واقفاً مكانه مستمتعاً بالتهام بعض الحشرات . وخرج لؤي ضاحكاً وبنفس مشيته المتكاسلة الهادئة كنا نسير في إثره .
- يابا دا أبو بريص .
وعلت ضحكات حنون ومن حوله من زبائن الفندق الذين كانوا يتابعون الموقف باهتمام بالغ . اقترب مني حنون وراح يفهمني - وهو يكتم ضحكاته - أنه لاضير من أبو بريص، وإنه غير مؤذ، ولايقترب من الآدميين .ربما لخشيته منهم أو لأنه "يقرف". وفي كل الأحوال فهو غير مؤذ علي الإطلاق.
- يعني إيه ياحنون .
- يعني لاتخاف .
رسمت علامات الشجاعة وعدم الخوف فوق وجهي وأجبته:
- مش خايف ياحنون. أنا ما خافش غير من ربنا. بس مش ممكن أنام مع برص .
أكد ممدوح علي كلامي وراح يتأتأ هو الاَخر:
- احنا مانخافش غير من ربنا.
- لؤي خد ياوليدي البخاخه رشه .
أخذ لؤي بخاخة مملؤة بمبيد حشرات وراح يدفع بحماس المكبس عدة مرات في وجوه من حوله من الزبائن وحين وجدهم يفرون من أمامه اطمئن لعملها. دخل الغرفة ونحن خلفه. أطلق عدة رشات من المبيد تجاه البرص الذي فهم علي الفور أنه غير مرغوب فيه فتحرك ببطء وكسل فوق الجدار، وظل ينظر إلينا، وكأنه يسخر مني ويتوعدني بالمجيء ثانيةً إلي أن خرج خارج الغرفة .
بعد ذلك جاء حنون ليطمئن أن كل شئ علي مايرام .
- تدرى ، هذا فندق محترم. وقد اعتقدنا أنه حنش . ماذا يقولون .
- مين .
- الناس بالخارج . لا شئ يمكن كتمانه في هذا البلد .
ولم يكن بالإمكان إقناع حنون بأن أبو بريص أيضاً يمكن أن يسئ لسمعة الفندق .

كانت جدران الغرفة تنفث بلا هوادة مخزونها الهائل من السعير، والمروحة السقفية لاتفعل أي شئ سوي تقليب الهواء الساخن وإعادته لجسدي المنهك من الحر وعدم النوم. كان يفصلنا عن سطح الفندق جدار يعلوه حاجز سلكي. تركت - دون جدوى - باب الغرفة مفتوحاً علي أمل أن تأتي بعض النسمات الليلية الباردة، ، كل ما هنالك أن نزيلا ً بسطح الفندق اكتشف أن الغرفة بها حمام خاص فاقتحمها دون استئذان.
اضطررنا لإغلاق الباب ثانية، فأصبحت الغرفة أشبه تماماً بأحد أفران الخبز. مع قرب الفجر ارتديت ملابسي وخرجت للشارع ورحت أتمشي. كانت هناك بعض النسمات الرقيقة تأتي علي استحياء لكنها كافية لأن أشعر بكم هو الفارق. أخذت قراري بأن أبيت منذ ليلتي التالية بالسطح وعدت مسرعاً لمقابلة حنون الذي ظل يضحك وهو يردد بضعة كلمات واصفاً حر الجنوب.
- وماذا عن ممدوح .
- لا يرغب بالنوم علي السطح .
- يعني سرير واحد . آخر كلام .
.
من الغريب أن ممدوح رفض تماماً فكرة النوم بسطح الفندق وراح يتأتأ بعدة جمل، فهمت منها أنه ومهما كانت حدة الحر فلن يغادر الغرفة، بل وأحكم إغلاق بابها حتى لايتكرر ماحدث ثانية.اكتشفت بعد ذلك كم كنت أحمقاً حين رفضت النوم بالسطح، فحين يأتي الليل وتبدأ نسماته الباردة في القدوم لاتشعر إلأ بنوع لذيذ من الاسترخاء والهدوء وفوقك السماء صافية وجميلة ومملوءة بكل أنواع النجوم الناصعة. كنت كل مساء أصادق إحداهن ولازلت حتى الآن وكلما نظرت للسماء الواسعة أجدهن بانتظاري، فأبعث إليهن بسلامي وأتمتم في صمت بأماني التي لم تجد حتى الآن مرفأ الأمان. وزادت المتعة بصحبتي لراديو صغير كان باستطاعته أن يسمعني إذاعات مصر وغيرها، كما راحت أغاني عبد الحليم وفريد وعبد الوهاب والست تغوص في أعماقي محركة الشجون والأسى. كان صوت عبد الحليم ينساب قوياً دافئاً ونبرة حزن خفيفة تغلفه فتمس القلب ، وأردد معه بكل الشوق لمصر:

لولا النهار في جبينك .
لولا الورود في خدودك .
لولا الأمان في وجودك .
ماكنت هويت ولا حبيت .
ولا حسيت بطعم الحب ،
ياعمري .

نعم " لولا الأمان " تلك القيمة الغالية والنادرة التي يفتقدها المصري خارج بلاده. كنت أسأل نفسي دوماً مالجديد في تلك الكلمات وتلك الموسيقي، فكل ذلك كثيراً ما سمعته بالقاهرة دون أن أهتم أو تصيبني تلك الانفعالات. يبدو أنه الحنين للوطن والأهل والحنين للصديق والحنين للحبيبة.

كانت عربات الشرطة تتجول بشوارع المدينة ببطء يثير الدهشة، وقد نصب رشاش آلي علي قاعدته في صندوق العربة وخلفه كان أحد الجنود يقف منتصباً في توتر جاهزاً لتنفيذ الأوامر.

ومع ذلك كانت المدينة تموج بالحركة والحياة. كان السوق الشعبي بشكله العراقي التقليدي يتوسط المدينة وقد غطي سقفه بقماش أسود كثيف لحجب الحرارة العالية بينما تدلت بعض المرواح السقفية بطول السقف، الدكاكين عامرة بالسلع التموينية والأقمشة الشعبية الملونة. وخارج الدكاكين كان باعة الخبز، والجبن والسمك يقفون أمام بضائعهم يسامون بلا ملل المشترين ومعظمهم من النسوة الذين يغطون رؤوسهن وأجسادهن بالعباءة السوداء.
يملك نساء العمارة أجمل العيون، ورغم حاجز العباءة فهن يسمحن لها بالتطاير لتكشف عن جمالهن وروعة أجسادهن الفائقة الأنوثة .يقولون أن أجسادهن " فائرة " و " تنضج مبكراً " بفعل الحر الذي يكسب التمر حلاوته ويزيد من العسل المخزن بداخله.

ليست هناك تعليقات: