الأحد، أغسطس ١٠، ٢٠٠٨

5 – حكايات مسافر .. " الطائرة العجوز " ...

كانت الطائرة العراقية رابضة علي البعد ، بدت لنا من خلف اللوح الزجاجي السميك الذي يفصل بيننا وبين ساحة الطائرات كبيرة للغاية وشكلها يوحي بالثقة. سألت ممدوح إن كان يعلم عنها شيئاً.
- كل اللي عارفه إنها موديل قديم " ترايدنت " إنجليزية الصنع .
- يعني هتوصلنا وللا هاتعطل في السكه .
- ايه اللي هيعطلها . خلاص إتصلحت .
- إنت مش بتقول موديل قديم ، ممكن الكربراتير يعملها وهيه فوق .
- كاربارتير إيه ، النوع ده مالوش كاربارتير .
- أنا باضحك ياممدوح . كنت أقصد موضوع تاني .
كانت الطائرة من الداخل نظيفة للغاية ، وتناسق الألوان والإضاءة يوحي بالهدوء والسلام . قلت في سري : يبدو أن معلوماتك ياممدوح ينقصها الدقة . وقبل أن أفتح فمي معبراً عن هذا الرأي بادرني بصوت واضح ومسموع .
- احترس من كلامك . أنت الآن فوق أرض عراقية.

كانت هذه المرة الأولي التي أركب فيها طائرة ، لذا فقد اعتراني العديد من الهواجس والخوف نتيجة لعدم الثقة في أشياء كثيرة متعلقة بصناعة الطائرات نفسها . فمن يضمن مثلاً - ونحن نحلق في السماء - أن كل شئ سيكون علي مايرام . من المؤكد أن أقل خطأ سيؤدي إلي كارثة محققة ، وإذا حدث ذلك فما العمل؟! وحين راحت أحد المضيفات في التنبيه علي الركاب بما يتوجب عمله عند المخاطر ، وكيفية استخدام أقنعة الأكسجين وأبواب الطوارئ ، والإشارة إلي أماكن سترات النجاة ، ازدادت هواجسي ومخاوفي ، وقلت لنفسي : إنهم يعلمون بأن هناك خطر قادم وإلا فما معني كلامها .
- الموضوع من أوله مش حلو .
- فيه إيه ؟
- انت مش سامع المضيفه بتقول إيه .
- دي تقصد لو حصل حاجه .
- وده ممكن يحصل ، انت مش قلت الطياره ..
- أنا ماقلتش أي حاجه .
- انت مالك مرعوب كده ليه.

كان ممدوح يحرك شفتيه ويصدر أصواتاً غريبة ، فهمت منها بالكاد أننا فوق أرض عراقية والحكمة تقتضي عدم الحديث عن أي شيء . عدلت وضع مسند مقعدي للوضع العمودي كما نصحتنا المضيفة ورحت أشاهد أسفلت ممر الطائرة وهو يجري للخلف بسرعة كبيرة ومعه بنايات المطار بينما راحت الطائرة في الارتفاع ببطء ومعها كانت البيوت والشوارع وكل شئ بالقاهرة يصغر ويصغر حتى لم يعد من شئ يمكن رؤيته سوي السحاب . واعتراني بعض الحزن والقلق ورحت في الحديث مع نفسي وأنا أتذكر الكثير من أحبابي وأصدقائي وسؤال يلح علي متي أراهم ثانية.؟!

ومع أن وجبة الطعام التي قدمت إلينا كانت أكثر من رائعة ، فقد كانت ساخنة وكافية ، وصاحبها تقديم القهوة والشاي لأكثر من مرة إلا أن تأثير فرق الضغط داخل الطائرة كان قاسياً علي أذاننا مما سبب لنا طنيناً مزعجاً . رحت أتطلع لوجوه العديد من الركاب العراقيين وقد غطي وجوههم اللون الأصفر بينما انشغل البعض الآخر في مص الليمون .
- اَه ياراسي ، خلاص هاموت .
كان ممدوح يصرخ من الألم ممسكاً رأسه بكلتا يديه ، وراح يتأوه بصوت عال ولم أعرف مالذي ينبغي عمله فلم تعد نصائحي له تجدي نفعاً . نصحته بربط رأسه بمنديل وأن يحاول النوم . انشغل بالبحث عن منديل بجيوبه ثم أخذ يربط رأسه به بإحكام. تغير شكله للنقيض وتذكرت وجه أحد باعة البطاطا كان مشهورا بصوته القبيح ، وبربط رأسه بمنديل قذر وكبير. وقبل أن اسأل ممدوح إن كان أحد أقاربه يبيع البطاطا بشوارع القاهرة ، نظر إلي وهو يصرخ متألما .
- هاتلي المضيفة.

كنت في الحقيقة أعاني أنا الآخر وأحسست بأن أذناي قاربتا علي الانفجار . استدعيت المضيفة التي جاءت تترنح هي الأخرى ووقفت تستند بظهر الكرسي المقابل لنا وراحت تتحدث وهي تتأرجح يميناً وشمالاً دون أن أفهم شيئاً ثم سرعان ماراحت تركض تجاه مقدمة الطائرة وهي تغطي فمها بيدها .
- هيه راحت فين . هيه مش شايفاني عامل إزاي .
- ياممدوح إنت مش شايفها هي التانيه عامله إزاي. دي خلاص هاتموت.

حضر بعد قليل عدد من طاقم الطائرة وبيدهم أكواب لقهوة والشاي ومعهم وبعض الأقراص، التفوا حولنا مما جعل بعض الركاب العراقيين يتركون أماكنهم ويقفون معهم لمشاهدة الركاب المصريين المرضي. ومع أن الجميع كان يبدو عليهم التعب والإرهاق، إلا أن كل منهم حرص علي أن يكون بيده نصف ليمونه يمتصها بين الحين والآخر . إلا أن حالة ممدوح وأنا معه كانتا من نوع آخر.
- أول مرة تركب طيارة .
- أيوه .
- هوه ده السبب، أبو كريم هات ليمونه. الولد المصريين هيموتوا خلاص.

جاء أبو كريم ومعه بعض الليمون وأعطي كل منا ليمونة كبيرة وراح يشرف بنفسه علينا ونحن نقضمها بأسناننا ونمتصها غير أنني كنت من النوع الذي يصيبني الليمون بغثيان أكثر عند امتصاصه ؟ بصوت واهن شرحت ذلك لأبو كريم الذي لم يقتنع وراح يتحدث مع أصدقائه الآخرين .
- والله أعجوبة. دا حتى الليمون من عندكم ، ليمون مصري.
تطوع آخر بالمساعدة، نظر إلينا بتودد وراح يصف لنا مالذي يمكننا عمله.
- باوع عيني سد حلجك وامسك خشمك وانفخ حيل .
- نعم ؟!! . انت بتكلمني أنا .
- أبو طارق الولد مش فاهمين . يابا علي كيفك شويه .
راح يحاول بكلمات مصرية إفهامنا مالذي قاله أبو طارق .
- بص ياخويا سد بقك وامسك خشمك يعني سد منخارك يعني سد مناخيرك وانفخ حيل يعني أنفخ جامد . ودانك هاتسلك علي طول.

ومن الغريب أنها كانت وصفة رائعة أزاحت بعض الألم عن أذاننا ورحت أنا وممدوح نفعل ذلك مرات عديدة بينما كان العراقيون يراقبوننا وقد اكتست وجوههم بعلامات الجدية بينما تطوع البعض منهم بتدريبنا وذلك بتأدية نفس الوصفة وهم ينظرون إلينا مشجعين . وراحت ابتساماتهم تتصاعد إلي ضحكات عالية كلما أحسوا أننا نتعافى .
كانت تلك بداية طيبة مع العراقيين وخلافاً لكل ما سمعته عنهم ، فقد وجدتهم محبون لتقديم المساعدة والتعارف وكسب الود . وهم في ذلك قريبون للغاية من طباعنا. كانوا يتحدثون عن مصر والمصريين بمتعة كبيرة، وراح أبو طارق يصف لنا المنطقة التي كان يعيش بها ويسرد أسماء شوارع القاهرة بحنين وحب.
- وين عايش بالقاهره .
- إمبابه .
- لابد وأنك تعرف السيد حسين ...
- مين هوه ده .
- ده موظف بالفندق وعايش بإمبابه وعزمني عنده .
- بس إمبابه بها أكثر من مليون .
- يعني ماتعرفش السيد حسين ...
- المهم هنوصل إمتي .
- لولا السوريين كنا وصلنا من بدري .
- وإيه علاقة السوريين بوصولنا .
- ممنوع علي الطيارات العراقية الطيران فوق سوريا .
- السبب .
- هو ممنوع وخلاص . إيش مدريني .

كنت مندهشاً فالذي أعلمه أن الحزب الحاكم بسوريا - حزب البعث - هو نفسه الحزب الحاكم بالعراق والحزبان يتبعان نفس الفكر . وحتى الآن لا أدري سبباً للعداء التقليدي بينهما رغم المظلة الواحدة لفكر البعث .
ضاع معظم الوقت المتبقي في الحديث والتعارف وكنا نقترب من بغداد وراحت المضيفة تعلن قرب وصولنا فأخذت أنظر من النافذة متمتعاً بشكل الأضواء الكثيرة .
- برضه بغداد جميله .
- وين يابا بغداد وإحنا وين . لسه بدري.

راحت الطائرة بالفعل تعلو وتنخفض وتعلو ثانية ، ومعها راح الألم يهاجمنا بقسوة أشد ، وركزت كل جهدي علي الاستماع لصوت المضيفة المتعب وهي تصرح بوصولنا لمطار بغداد الدولي ، وتطلب منا ربط أحزمة المقعد والجلوس في وضع عمودي وأن درجة الحرارة ببغداد تزيد عن الأربعين .
كنت أشرح كل ذلك بصوت بائس لممدوح الذي تدلي رأسه وجحظت عيناه ، وكنت أشك أنه سمع كلمة واحدة مما قلت. غير أن وجوه العراقيين ارتسمت عليها علامات الفرحة وراحت الابتسامات ترتسم علي الوجوه ومع قرب الطائرة من الأرض تعالت الأصوات والضحكات، بينما راح المضيفين يصرخون في رجاء أن يظل الجميع بأماكنهم لحين توقف الطائرة.

شئ رائع وجميل تلك الفرحة التي يشعر بها الإنسان حين يقترب من وطنه ، فهمت بعد ذلك لماذا يأخذ المصريين بالتصفيق حين تلامس عجلات الطائرة أرض المهبط ، بل أن منهم من يركع مقبلاً تراب الوطن . وقبل أن تقف الطائرة كانت أصوات فك الأحزمة يتصاعد وهب الجميع وقوفاً لترتيب حقائبهم والاستعداد للنزول .
- حمدالله علي السلامة .
- خلاص وصلنا . ده آخر كلام .
- هلا بيكم في بغداد .

بناء علي نصيحة ممدوح، ظللنا بالطائرة كي يستجمع قواه الخائرة ، وما أن خرجت من باب الطائرة حتى وجدت نفسي أستدير عائداً إليها، كان الجو بالخارج أشبه بفرن كبير ، فالحرارة عالية للغاية والهواء لافح شديد السخونة. أمسكني المضيف الواقف بباب الطائرة من ذراعي بقوة وتحدث معي ضاحكاً:
- لأعتقد أنك ستتحمل رحلة أخري معنا.أهلا بك في بغداد.
.
القاهره : شتاء 1994

ليست هناك تعليقات: