الاثنين، ديسمبر ٢٢، ٢٠٠٨

بعد أن خلق الله الرجل والمرأة ..

.
.
يخيل إلي أن الله حين خلق الرجل - ومن بعده خلق المرأة - أنه جاء بكتلة من الطين وقسمها قسمان أو بالأحري شطرها. وكان الجزء الأكبر للرجل، فهكذا اقتضت مشيئته. وانتصب الرجل واقفا مزهوا وهو يردد بأن الله لم يعدل في القسمة، وأنه – ويا لغبائه – وباعتباره المخلوق الأكبر كتلة وجسارة وقوة فقد نوي أن يقيم العدل ويحفظ مكانة الله، ويصحح ما أخطأ فيه، ولو استدعي الأمر إن يقاتل ويقتل ويدمر ويحرق وينهب.

أما الكتلة الأصغر، أو المرأة، فقد وقفت تراقب بخوف ووجل ما يحدث من الرجل. ابتسمت ثم أخرجت قنينة عطر صغيرة من صندوق خشبي مطرز بالرسوم والألوان الجميلة كان الله قد تركه بجوارها هدية لها. وأخذت تمسح بالعطر حول رقبتها وصدرها، ثم أخذت تلف في إيقاع راقص حول الرجل. تقترب منه وكأنها تبتعد، وحين كانت تبتعد كانت تقترب. حتى أن الرجل وقف مبهورا وراح يتمتم بكلمات غامضة، ولم يقو علي متابعة تهديداته فقد استغرق تماما في مشاهدة المرأة وهي تلف عقدا من الزهور البرية الجميلة حول رقبتها.

أما الله فيخيل إلي أنه كان ينظر اليهما وهو يضحك مستمتعا بما صنع. ثم قال لهما: اذهبا، رغم مابكما من تناقضات فأنتما لن تنسيان أبداً أنكما من ذات النفس وذات الروح ونفس الجسد، قد كتبت عليكما وقدرت لكما أن الحب والرغبة في الالتئام والوصال هو قدركما.
.

الأحد، ديسمبر ٢١، ٢٠٠٨

أول درس ...

.
هو درس بسيط للغاية، وبقدر بساطته بقدر ما كان عظيم التأثير في شخصيتي وربما في كل حياتي. كنت بالمرحلة الإعدادية ( المتوسطة ) بالصف الثاني. وجاء مدرس الرياضيات العجوز تسبقه حكايات مرعبة عنه زرعت الخوف والرعب داخل قلوبنا الخضراء آنذاك. وقلوبنا كانت بالفعل كذلك، وبالتأكيد فكل شيء قد تغير مع الوقت.
.
ضمن الحكايات التي سبقت مجئ هذا الأستاذ أنه يتعاطى الأفيون ولا يمكنه العمل دون أن يستحلب الأفيون طوال اليوم الدراسي. حتى أنهم أسموه (أبو افيونه)، وأنه قاس مع التلاميذ ولا يتورع عن ضربهم بعصا غليظة تصاحبه علي الدوام. ولكم أن تتخيلوا رعب الصف بأكمله ونحن نتنصت علي وقع أقدامه، أو أي صوت قد يصدر عنه قبل دخوله الصف. ويجئ الأستاذ وهو محمل بالعديد من الأدوات الهندسية الخشبية الضخمة. أهمها مثلث كبير للغاية وفرجار ضخم. لا ادري لماذا رحت أراقبه في كل صغيرة وكبيرة. كان أبيض اللون والأكيد أن جذوره تركية، وشعره غزير يكسوه الشيب. وكان يصر علي ارتداء بذلة وحيدة طوال العام دون أي اهتمام بأي نوع من الأناقة أو الترتيب. اكتشفت فيما بعد أنه أقرب في الشبه لاينشتاين في الشكل والملبس والتصرفات.
.
ولا أدري إن كان اينشتاين مثل أستاذنا الذي كان مشغولا دائما بشئ ما في فمه، كان يلوكه علي مهل وهو يتطلع إلينا مبتسما. لم يكن أفيونا كما زعموا فقد جاءت مناسبة ليحكي بنفسه عشقه لحبات القرنفل الجافة وأخذ يشرح لنا فوائد تلك البذور في تطهير الفم واللثة وأيضا فهي تضيف رائحة ذكية. وربما لغرابة شخصيته ابتدعوا له حكاية الأفيون. المهم ابتدأ الرجل معنا شرح أول درس، وكان واضحا غاية الوضوح في عمل اتفاق مسبق معنا بما يرضيه ولا يرضيه. أتذكر انه قال: دائما ما يأتي الألف قبل الباء. فلا يعقل أن أسمي مثلثا (ا . ج . ب) إنما الأصح أن أسميه (ا . ب . ج) . أرجوكم تذكروا هذا دائما. الباء تأتي دائما بعد الألف والاثنان بعد الواحد. عكس ذلك سأغضب وسأعاقب من لا يحترم النظام والمنطق.

كان الرجل يستخدم أدواته الهندسية الضخمة ببراعة وخفة ودقة وكأنه يرسم بها ولا يسطر خطوطا صماء. كان منظما ودقيقا وبسيطا في شرحه وتفسيره حتى لأعقد الأمور الرياضية علي عقولنا وفهمنا. بالتأكيد نسيت كلمات هذا المدرس العبقري، لكنه نجح معي أن أتعلم درسا رائعا. كيف أرتب أولوياتي بحيث لا تسبق الباء الألف. أتذكر وأنا بالجامعة - وقد نسيت تماما كلمات هذا المدرس - أنني أخذت قرارا بتأجيل الحب والتعرف علي الفتيات. لم يكن لا الوقت ولا ظروف الحياة تساعد علي مثل تلك الرفاهية لأمثالي، فاعتبرت أنها تأتي في المرتبة التالية من حيث الأهمية، وأن الأولوية أن أنتهي من دراستي وأتخرج وأعمل. واعترف انه لا يمكن للحياة أن تسمح لنا بتنفيذ مثل تلك القوانين بشكل دقيق وحسابي، ولكنني حاولت قدر استطاعتي. وحتى الآن حين أجد نفسي منشغلا في أمر ما قد لا أكون (أستحقه)، أجدني أستعيض عن هذا الانشغال بتأدية عمل آخر أنشغل فيه بكل دقة وإصرار وتركيز بحيث يعوضني عن انشغالي بالأمر الأول. وهذا ما حدث معي قيل يومين.

أستاذي العجوز ، لك كل تقديري واحترامي وتحياتي ، وليرحمك الله إن كنت حيا أو ميتا.
.

الخميس، ديسمبر ١٨، ٢٠٠٨

2 - قباقيب الجواري وحذاء الزيدي .. " تكملة "

اعتقد أن هناك الكثير أيضا من الجوانب والموروثات التي لا بد وأن نؤشر عليها عند اعتراضنا وعدم قبولنا للنضال بالأحذية والقباقيب. فلا يمكن أن نركز فقط علي الجانب الأخلاقي لمهنة الصحفي والتي تحكم تصرفاته وتجعل من قلمه – وليس من حذائه - الأداة الفاعلة للتعبير وممارسة دوره في الحوار وتبادل الآراء.
.
دعنا نتخيل صورة عبثية لشكل حوار داخل أحد البرلمانات، وذلك بالتراشق بالأحذية وصولا لضرب الأعضاء بعضهم البعض، وحتى نفاذ الذخيرة وأعني الأحذية. فيمكنهم حينئذ من استخدام أحزمة بنطلوناتهم في استكمال الحوار والوصول إلي قرارات تصب في خدمة الوطن والمواطن. وبالتأكيد ستجد لافتة رئيسية عند مدخل القاعة وبها البنود المنظمة "للحوار الديمقراطي". أولها يحرم استخدام أي نوع آخر من الأسلحة عدا الحذاء والحزام. وبالبند الثاني اشتراطات لنوع الحذاء ومقاسه، والتأكيد بعدم وضع أية زوائد حديدية أو حتى بلاستكية خاصة بمقدمة الحذاء. والبند الثالث يحرم ويجرم استخدام الجزء العلوي من الحزام لأسباب يعلمها الجميع. أما البند الرابع فيطلب من الأعضاء "الموقرين" وبأدب جم الخضوع للتفتيش للاطمئنان علي مراعاة العضو لكل ذلك.
.
الصورة عبثية بالفعل وقاتمة، لكنها الأقرب للفهم والتطبيق لواقع الحوار بيننا وكأحد الدروس المستفادة من واقعة حذاء الزيدي.فحين لا يتمكن الآخر من قبولي أو أتمكن من قبوله بالحوار وممارسة الديمقراطية الحقيقية، فالحذاء والحزام و.. وما يتبع ذلك من تبادل للشتائم والألفاظ المعبرة هو البديل الشرعي والمنطقي.
هناك إصرار عجيب وغريب من بعض الكتاب المؤيدين لرشقة الحذاء علي وضع فهمنا للمسألة في كفة، ووضع حذاء الزيدي في الكفة الأخرى. ثم أن لديهم الإصرار علي اليقين بأن كفة الحذاء هي الراجحة والغالبة وهي المعبرة في مقام الزهو والانتصار، وصولا لمقام إذلال "العدو" فهي الناجعة والموجعة عملا وفعلا وتأثيرا في مواجهة قوي الشر والظلام.!!
.
والملاحظ أن معظم الكتاب المؤيدين - للضرب بالحذاء أو لرشقة الحذاء أو للحوار عموما بالأحذية - يفترضون افتراضات هي في معظمها خاطئ، ومع ذلك فهم يبنون ما بقي من تفكيرهم علي تلك الافتراضات. وبديهي أن مايصلون إليه من نتائج هو في مجمله خاطئ أيضا – لفساد المقدمات – حتى لو كانت تلك النتائج تمثل اتهامات من وزن العيار الثقيل المصحوب بشتائم مثل "الخيانة وعدم الوطنية". وهي اتهامات لو صدقت لكان مكاننا الآن داخل قفص حديدي بأحد قاعات محاكم الجنايات بتهمة تدنيس الحذاء المقدس.
.
ومع أنني أكدت أنني لست مؤيدا للسياسة الأمريكية بالمنطقة برمتها، فهم يرون أننا - الرافضين للحوار بالأحذية والقباقيب – نستغل ذلك الموقف لتجميل الوجه القبيح وتلميع صورة بوش، فيما يري آخرون أنه موقف مغرض يهدف للدفاع عن التواجد الأمريكي بل والسياسة الأمريكية برمتها.
.
ويري الكثيرون أيضا أننا غفلنا عن ذكر الدافع الحقيقي لرشفة الحذاء. وهم يعنون الاحتلال الأمريكي للعراق وما خلفه من دمار وقتل للأبرياء، فيما يستغرب البعض اتهامنا لمثل هذا التصرف بعدم التحضر وعدم اللامبالاة وسوء الفهم وتقدير الأمور، وهي أمور جميعها تنطبق علي فعل غزو الأراضي العراقية واحتلالها.
وبتقديري أن مثل هذا الاتهام هو نوع من خلط الأوراق المتعمد. ولا يهدف حقيقة إلا لاستنفار الحناجر بالهتافات العالية واللعنات الساخنة لكل من يخالفهم الرأي والرؤية. فلا علاقة بالمرة بين الجهاد ضد الأمريكان أو غيرهم بالتراشق بالأحذية أو حتى "الردح" بصوت عال. كما وأن أبواب الجهاد الحقيقية مفتوحة ومعروفة للجميع، ولا أعتقد أن من بينها باب كتب عليه " لا يعبره إلا من يلبس حذائه بقدمه وينوي الجهاد به."
.
وفيما أعلم – وقد أكون مخطئا – أننا لسنا بحاجة لإذلال أيا من كان حتى لو كان عدوي. فالإذلال وفيما أعلم لا يندرج بقائمة وسائل مقاومة المحتل. بل أن أدبيات كثيرة للمقاومة تتيح لنا قدرا معقولا من الفهم بأننا كلما وضعنا عدونا في مكانه وحجمه السليم كلما استفدنا أكثر بمعرفة خباياه ونقاط ضعفه. الإذلال عمل غير إنساني وغير متحضر سواء كان من بوش وعساكره أو صدام وأشاوسه أو الزيدي وحذاءه إن كان يهدف لذلك حقيقة.!!
.

الأربعاء، ديسمبر ١٧، ٢٠٠٨

1 - قباقيب الجواري وحذاء الزيدي ..

أيمكنك مشاركتي مرارة وعبثية التفكير فيما يحدث. هل سيغير حذاء الزيدي من واقع الاحتلال الأمريكي للعراق.؟! وهل ما فعله الزيدي يمكن أن يندرج تحت مسمي العمل البطولي والوطني فضلا عن الأخلاقي.؟!!
أكتب في موضوع يشغل أفكار معظم العامة بالتأييد المطلق، وفي نفس الوقت انقسم الخاصة من المثقفين حول أنفسهم بين مباركة رشقة الحذاء في وجه بوش وبين الرافضين لهذا التصرف.

بداية أعود بالذاكرة لحادثة القبقاب الشهيرة. وهي حادثة نفذت بواسطة الضرب بالقبقاب وحتى الموت، والتي راحت ضحيتها حاكمة مصر"شجرة الدر" حيث قام بعض "الجواري" بضربها بالقباقيب حتى الموت داخل احد الحمامات. والقبقاب يصنع من خشب الشجر وهو أشبه "بالشبشب" ويستخدم بالحمامات الشعبية - بشكل خاص – ويصدر صوت "طرقعة" أثناء المشي، وهو بهذا الوصف ولحجمه وكتلته يعد أداة مثالية للقتل.

وعي كل فعمليات القتل والتصفية كانت أمرا شائعا بين المماليك، ويبدو أنه لم يكن ممكنا تغيير أي سلطان منهم إلا بواسطة قتله بطريقة أو بأخرى. ويستمر الحال علي ماهو عليه، حيث يأخذا الحاكم الجديد في عد ما مر من أيام حكمه منتظرا النهاية المحتومة. ولم يغير مقتل شجرة الدر أو غيرها من طبيعة حكم المماليك والتربص بعضهم ببعض. وذلك ما يعنيني فالضرب بالقبقاب حتى الموت أو الإعدام فوق الخازوق أو قذف المهزوم من فوق أسوار القلعة كل ذلك لم يغير من تلك الطباع الهمجية شيئا، فضلا عن عدم تغيير النظام والفكر السائدان في التعامل.

وهذا تحديدا ما أرمي إليه بعد حادثة قذف الزيدي الصحفي العراقي بحذائه تجاه الرئيس بوش. فمن الخطأ أن نقول ماذا قبل وماذا بعد واقعة الحذاء. فلن يتغير شئ بالمرة.!! وتتبقي الواقعة باعتبارها عملا لا يمثل، ولا يمكن أن يمثل الشعب العراقي بأكمله. وهو عمل غير متحضر وغير مهذب بالمرة ولا أستطيع قبوله بأكثر مما تحتمل تلك المعاني.
ما يحدث – الآن - بعد الواقعة هو نوع من العنتريات الفارغة التي لا تحمل أكثر من الصياح والتهليل حتى مطلع الفجر، ثم يعود كل شيء لطبيعته وكما كان يحدث قبل الواقعة، في انتظار رشقة حذاء آخر أو حتى الضرب بالقباقيب حتى الموت.
.
وما أشجعنا من شعوب وساسة وكتاب ومنافقين حين نتصدر بكل الهمة والعزم "للفارغ والتافه"، وننصت لصوت حذاء خاو، لنريح عقولنا التائهة والضائعة من الفهم، وترتفع ضحكاتنا عاليا أشبه بضحكات "الحشاشين" الذين خلقوا لأنفسهم عالما وهميا لا يجوز لأحد من العقلاء أو الأسوياء دخوله أو مناقشتهم فيه. وهو بديل مريح للغاية، حيث المقاومة بالأحذية والهتافات العالية والخطب النارية والأهازيج وطلقات الرصاص في الهواء.

لست مع بوش ولا أنا مؤيد للسياسة الأمريكية. لكنني لن أكون مؤيدا أيضا لرشقة حذاء الزيدي ولن أنساق وراء الجموع التي تريد أن تصنع من ذلك الحذاء رمزا للحرية والمقاومة وشيم الأبطال والأحرار والأشاوس وتجعل من الزيدي بطلا قوميا أجدي بالإتباع والمباركة والهتاف باسمه.
هذا رأيي أقوله ورزقي علي من لا يغفل ولا ينام.
- يتبع -

الأحد، ديسمبر ٠٧، ٢٠٠٨

تقمص الشخصية في المسلسلات التلفزيونية. "نور الشريف"

.
وإذا كان الفخراني باستطاعته الترجل من سيارته والذهاب فورا لموقع التصوير أو الأستوديو ليؤدى أحد أدواره، فالأمر يختلف تماما مع نور الشريف. نجح نور الشريف وباقتدار في تأدية العديد من ألأدوار المختلفة. وقد رأينا تلك المقدرة تصاحبه منذ شبابه وخطواته الأولي في السينما. أدي دور الحبيب في فيلم رومانسي جميل (حبيبي دائما)، كما أدي دوراً مميزاً في ( الأخوة الأعداء )، والعامل البسيط في (سواق الأتوبيس)، ولا ننسي دوره المميز في فيلم (كتيبة الإعدام) وأيضا في فيلم (العار).

القاسم المشترك لبراعة نور الشريف في تأدية أي دور يعرض عليه هو الماكياج. ولو تأملت وجهه في الأدوار المختلفة التي تحدثت عنها أو غيرها لوجدت أنه يهتم بتفاصيل دقيقة للغاية يرسمها الماكياج فوق وجهه ليقترب من الشخصية. فما أبعد المسافة بين وجه نور نفسه، ووجه (الممثل) " الحاج البرعي " في "لن أعيش في جلباب أبي"، أو وجه شاب رومانسي حالم، أو وجه سائق أتوبيس، أو وجه شخص خارج من السجن بتهمة لم يرتكبها ويتربص به الجميع للقضاء عليه.
.
كثير من ممثلين السينما يهتمون للغاية بالماكياج، حتى السينما العالمية، الممثل الأمريكي الكوميدي (ايدي ميرفي) له مقولة معبرة ومفسرة لهذا الاهتمام فهو يقول: بدون وجود الماكياج لا يمكنني تأدية الكثير من الحركات والانفعالات بشكل أكبر وأدق ومرضي. ويبدو أن الممثل - بدون الماكياج اللازم - يشعر بأن ثمة شئ هام ينقص ادائه للشخصية التي يؤديها. هل هذا يعني أن الماكياج يساعد الممثل في عملية التقمص.؟! يبدو الأمر كذلك.

في المسلسل التلفزيوني الناجح جماهيريا (لن أعيش في جلباب أبي)، والذي كان يبدأ بتتر يصاحب سير نور الشريف في أحد الشوارع المزدحمة، مرتديا جلبابا فقيرا به الكثير من التمزقات ، ويضع غطاء رثا فوق رأسه، ودون أن يفقد وجهه قسماته الأصلية فقد تغير تماما لوجه أحد الفقراء المطحونين وهو يمسك " رغيف خبز" لاصقا إياه فوق صدره. وتلك الشخصية متواجدة باستمرار وتستطيع العين أن تلتقط العديد من المعدمين وبنفس الهيئة التي أحال الماكياج و"والملابس" الممثل إليها. المشهد كان طبيعيا للغاية وليس هناك أي هرج أو مرج من جمهور الشارع المزدحم والذي عادة ما يصاحب تصوير المسلسلات أو الأفلام، وما يعني ذلك من تواجد النجوم بالشارع ووسط الناس. حتى أنني – ولا زلت – علي اقتناع تام بأن كل ما فعله المخرج هو تخبئة الكاميرا عن الأعين. فلن يلتفت أو يهتم ولن يعرف أي فرد من جمهور الشارع الحقيقي بأن الماشي وسطهم هو الممثل نور الشريف بعدما نجح وباقتدار - وبمساعدة الماكياج - في تقمص تلك الشخصية المعدمة والمحبطة واليائسة والتي لا تملك من قوت يومها أكثر من رغيف خبز.

حتى لو لم يهدف الماكياج لتغيير معالم وجه الممثل، ليوظفه ويقربه للشخصية المطلوبة تأديتها، فهو يؤدي وظيفة أخري غاية في الأهمية، وهي جعل الوجه مقبولا للكاميرا. فمن المعروف أن هناك وجهاً لا تقبله الكاميرا بحيث يظهر علي شاشة السينما أو التلفزيون ليس به حيوية، ومختلفا تماما عن وجه صاحبه. أعتقد أن ذلك موجود أيضا في التصوير الفوتوغرافي. فكثيرا ما نسمع تعليقا يقول عن صورة أحد الأشخاص: لقد ظلمته الكاميرا.

والقاعدة أنه ما من ممثل - حتى لو كان وجهه مقبولا من الكاميرا - يصور دوره أحد الأفلام أو المسلسلات دون أن يضع علي الأقل القليل من المساحيق بمعرفة أخصائي الماكياج كي تتصالح الكاميرا مع هذا الوجه ولا تظهره وكأن لا حياة فيه، خاصة للقطات القريبة والتي تظهر تفاصيل دقيقة وخافية.

الماكياج - خاصة مع استعمال الإكسسوارات الحديثة لأجزاء الوجه - يساعد الممثل في تقمص الشخصية. وإذا أضفنا إلي ذلك تأثير الملابس فلا يبقي سوي فهم الممثل نفسه للشخصية، وقربه منها للحد الذي أشرت إليه بأنها قد تسوقه أو يسوقها، أو كما يقولون يركب الشخصية أو تركبه.
أتحدث بطبيعة الحال عن ممثلين كبار بحجم نور الشريف . فهو فنان قدير وحرفيته في الأداء عالية ، ومما يساعده علي ذلك نجاح الماكياج لرسم تفاصيل وجه الشخصية بدقة كما حدث في " مسلسل أديب " حيث قام بلعب الشخصية الرئيسية لشخص وجهه ملئ بآثار مرض الجدري .

والملاحظ أن نور فطن عن وعي أنه "كبر في السن"، فابتدأ يستعمل الملابس التي تناسب عمره. وأغلبها – علي الأقل – في المسلسلات التي شاهدتها له أخيرا – البذلات الواسعة بشكل ظاهر كما في مسلسل (حضرة المتهم أبي).

شاهدت أخيراً لنور الشريف مسلسل (الدالي) الذي جسد فيه شخصية رجل أعمال قوي وذو نفوذ وهو أيضا كبير عائلة (الدالي) الثرية والمهددة بزوال اسمها. لعب نور الشخصية بذكاء وحس إنساني راق، وطوال المسلسل كان مشغولا للغاية بين أعماله المتشعبة ومحاولاته حل معظم مشاكل تلك العائلة. اكتفي نور في هذا المسلسل بتقصير شعره، وخلافا لما هو معتاد كان يمشطه للأمام، إضافة للبذلات الواسعة كما نوهت.

نور الريف ممثل رائع بكل المقاييس، وهو حرفي أو صنايعي كما نقول، فهو ينشغل بكل كبيرة وصغيرة لإحكام المسك بالشخصية التي يؤديها، مستغلا " الماكياج" والملابس لزيادة قبضه علي تلك الشخصية حتى لا تفلت منه في أقل تصرفاتها. أضف لذلك أنه نجم جاد ومنضبط للغاية، فهو يحترم مواعيد عمله ويعد نفسه مسئولا عن العمل ككل.

ليس غريبا لفنان بكل تلك القدرات مثل نور الشريف أن يتقمص الشخصية من الخارج، بحيث يضيع أي تأثير لها علي حياته الخاصة، وشكل تعاملاته مع الآخرين فور خروجه من الأستوديو أو موقع التصوير. وإن كنت أشعر أنه يكون بحاجة للقليل من الوقت للتصالح وللإمساك ثانية بشخصيته الحقيقية.
...
ورأي جميل من الكاتبة " مني الشماخ " تقول فيه بعنوان: أصل وصورة:

لاشك أن العمل الدرامي كل متكامل لابد من توفر النجاح لكل عناصره حتى يمكن تعميم الحكم بالنجاح عليه. ويبقى العامل الأساسي والنهائي وهو الممثل الذي تتجمع من خلاله عناصر العمل الفني وللماكياج دور هام في اقناع المتلقي بالشخصية ورسم ملامحها في ذهنه ،ويتعاظم هذا الدور عندما يجسد العمل الفني سيرة ذاتية لشخصية حقيقية ،عاشت أو لازالت تعيش في ذاكرة الجمهور،وسأضرب مثالا وان كان يمثل تجسيد الشخصية في السينما الا أنه يعبر عما أقصده بوضوح: الفنان الراحل أحمد زكي وتجسيده لشخصيات الزعماء:جمال عبد الناصر، أنور السادات ، وأخيرا الفنان عبد الحليم حافظ.
فعلى الرغم من التباين الشديد في مظهر كل شخصية من الشخصيات السابقة، فضلا عن اختلافهم مع ملامح الفنان المؤدي إلا أن هذه الاختلافات تلاشت أمام براعة الماكياج الذي نجح (مع قدرة الفنان على التجسيد) في إقناع المشاهد أنه يرى أصل الشخصية لا صورتها..

نعم كلامك سليم ورأيك صحيح. ويجب في نفس الوقت ألا ننسي أن الراحل أحمد زكي كان ممثلاً بارعاً، أو " صنايعي " بدرجة امتياز في تقمص الشخصية من الداخل. بمعني أنه وبعد فهمه لحدود الشخصية التي كان عليه أن يلعب دورها كان يندمج معها للدرجة التي كانت تلك الشخصية تقوده في أبسط تصرفاتها. ولدرجة أنه كان يعاني الأمرين - من بعض الشخصيات التي لعب أدوارها وترك لها حرية اقتياده حيث تشاء وليس حيث هو يشاء - حتى ينتهي تأثيرها عليه، أو حتي يتمكن من التخلص منها ومن تأثيراتها عليه في حياته الفعلية. من تلك الشخصيات شخصية ضابط " المباحث " في فيلم " زوجة رجل مهم ". الذي يحاول الحفاظ علي الأمن والنظام بطريقته الخاصة والمحبط للغاية حين تغيرت كل مفاهيم التعامل مع المقبوض عليهم " سياسياً " إلي النقيض من طريقته في العمل تماماً.

كان الحل الدرامي - في الفيلم - لذلك المأزق بأن جعله كاتب الرواية والسيناريست يستمر في " تقمص " شخصية ضابط المباحث القوي حتى بعد فصله من الخدمة، ورغم معرفة من حوله بذلك. وفي الحياة العامة وبعد انتهاء التصوير غطت تلك الشخصية علي تصرفاته " الحقيقية " حتى أصابه نوع من الإكتئاب الشديد. لاحظ المفارقة في كل ذلك، ففي العمل أمام الكاميرا "لبست" شخصية ضابط المباحث وقبل طرده من الخدمة الممثل (أحمد زكي)، وكان عليه أن يؤدي بنفس الكيفية حتى بعد طرده من الخدمة. فظل تاركاً تلك الشخصية مسيطرة عليه وتقوده لصنع الأحداث رغم علم الجميع بأنه لم يعد ضابطاً أو قوياً كما كان.
ثم نأتي للمرحلة الأصعب، وأعني المرحلة التي تلي العمل والتصوير في الفيلم حيث ظلت تلك الشخصية تقود الإنسان والفنان أحمد زكي في حياته العادية وفي تعاملاته مع الناس. وكما ترين كان علي الفنان أحمد زكي أن يتقمص تلك الشخصية أو بالأحري تتقمصه تلك الشخصية ثلاث مرات وليس مرة واحدة. وبطبيعة الحال يصبح ذلك أمراً مزعجاً باستمرار تأثير تلك الشخصيات عليه لفترات قد تطول أو تقصر بعد انتهاء التصوير. خاصة مع تكرار مثل تلك الشخصيات " المركبة " في أفلامه والتي كان عليه أن يؤدي أدوارهم أو يعيش كل شخصية في أدق خلجاتها كما كان يفعل.

تلك هي سمة من سمات الممثلين العظام. طبعاً هناك الكثير يمكن قوله عن أعمال هذا الفنان الكبير تأييداً لكل ذلك. في هذا الفيلم تحديداً كثيراً ما أتوقف أمام الطريقة التي كان يتحدث بها أحمد زكي أو ضابط المباحث. ففي أحد الحوارات بينه وبين زوجته " ميرفت أمين " أستخدم طبقة صوتية بارعة لتعبر عن مدي الإحباط والحزن والهزيمة للشخصية، رغم أن التغيير في طبقة الصوت لم يتعد الثوان القليلة لكنه كان مقنعاً ومؤثراً.

وبالمقابل أجدني أقف موقفاً مخالفا للشخصيات التاريخية التي قام بتأدية أدوارها. جمال عبد الناصر والسادات وعبد الحليم. وبإيجاز شديد أري أنه نجح للغاية في تقمص شخصية الزعيم السادات رغم أنه قبض علي شخصيته من الخارج وليس من الداخل بالخلاف لطريقته المتبعة في تقمص الشخصية. الكتابة عن هذا الفنان تشكل موضوعا جميلاً قد أعود إليه .. الله يرحمه
..
القاهرة. 24/03/2009

...



السبت، ديسمبر ٠٦، ٢٠٠٨

تقمص الشخصية في المسلسلات التلفزيونية .. يحيي الفخراني

.
استسلمت – أخيرا - لقدري ولما هو مكتوب لي أو علي، واكتفيت بالرقاد أمام شاشة التلفاز أتابع العديد من المسلسلات الدرامية. والتي كانت لكثرتها وتكرار الكثير من الممثلين للعمل بمعظمها رد فعل سيئ عندي، لدرجة أنني كنت اكتفي بمشاهدة حلقة من مسلسل ما دون أن أجد رغبة أو متعة في مواصلة المشاهدة لحلقة أخري لمسلسل آخر. وكنت كثيرا أحدث زوجتي – رفيقتي – في المشاهدة والتعليق بأن الممثلين يقفزون بخفة ومهارة من مسلسل لآخر، لدرجة أن الأمر اختلط علي ولم أعد بقادر علي معرفة من يكون أبو من ومن هي الأم وما هو سر المشكلة إذا كانت هناك مشكلة أصلا. وكانت زوجتي تعالج الأمور وتوضحها لي بصبر ومهارة، وتقنعني بأنني أتحدث عن مسلسل آخر غير الذي نشاهده، بالرغم من وجود نفس الممثلين في كلاهما. علي كل لا أعتقد أن حالتي الصحية أو مزاجي قادران علي مساعدتي بالكتابة عن أفكار تلك المسلسلات، أو المقارنة بينهم أو اختيار مسلسل كأفضل ماتم عرضه. فالحقيقة أن مثل المقارنات هي للاستهلاك والإثارة، ولا بأس بها مادام هناك من يغذيها ومن يرحب بالتطوع بالإجابة، فعالم الفضائيات رحب وواسع وليس سهلاً أن تحجر علي أفكار أو طرق عمل تلك الفضائيات، حتى لتلك التي تبدو أكثر تخلفا وجهلا وسماجة في عرض موادها للمتفرج المسكين.
.
كان من ضمن المكاسب التي اعتقد أنني جنيتها من الرقاد أمام التلفاز ومشاهدة العديد من تلك المسلسلات والأفلام هو زيادة فهمي لموضوع تقمص الممثل للشخصية التي يلعب دورها. سأستعرض هنا بعض أسماء الممثلين الكبار وأتحدث عن طريقة فهمهم وتقمصهم. بطبيعة الحال القائمة طويلة إلا أنني سأكتفي بالحديث عن: يحيي الفخراني ونور الشريف وعادل إمام. وربما تذكرت غيرهم لأكتب عنهم في وقت لاحق.
.
يحيي الفخراني ممثل قدير ومحبوب من جماهير المشاهدين، ولديه قبول قوي وحضور رائع لدرجة أن جزء كبير من نجاح أي عمل يكون مشاركا فيه ينسب له. وهو كممثل يستطيع بإجادة وبساطة أن يلعب أي دور يسند إليه. وما يهمني في الحديث عن يحيي هو قدرته الفائقة والرائعة علي تجنيد وتسخير حجمه الضخم وكتلته الكبيرة التي تبدو غير متسقة، وغير جميلة بالمرة. فهي كتلة مملوءة بالشحوم وليس هناك أي تناسق في خطوط جسده، للحد الذي أتخيل أن صاحب مثل هذا الجسد المترهل يجد صعوبة بالغة في الحياة في التأثير والإقناع وكسب الود من الباقين، فما بالك ويحيي يجني كل ذلك من المتلقي وهو يؤدي ببساطة وتلقائية، ودون أدني حرج منه في إخفاء تضاريس جسده المترهل. بل العكس فإحساسي أنه يتعمد أظهار ذلك وتسخيره (الحجم والكتلة) وهو يتقمص الشخصية التي يمثلها.

شاهدت للفخراني مؤخرا عدد من المسلسلات الجميلة منها: الليل واَخره، ويتربى في عزه، ونصف ربيع الآخر. في الليل واَخره يلعب الفخراني دور الصعيدي التاجر الثري والشقيق الأكبر للعديد من الأشقاء الذين أكملوا تعليمهم وحازوا المناصب الرفيعة ليصبحوا نجوما في المجتمع. والمسلسل يتحدث عن الخلافات التي تنشأ بين هذا النموذج وأخوته. وربما كان التعميم مفيدا ولعل ذلك أحد حسنات هذا المسلسل فمثل هذا النموذج يعيش وسطنا، وهم كثرة وقد لا نشعر بهم إلا في حالة حدوث مشاكل جسيمة وخلافات في الرؤي معهم. وفيما كان أخوته يغيرون ملابسهم - خلال مشاهد المسلسل - ببذلات أنيقة لم يفارق جسد الفخراني الجلباب الصعيدي والكوفية. وهو زي علي بساطته يشكل الزى الشعبي الصعيدي. والحق أنه كان متمشيا مع جسده الضخم بحيث أن هذا الجسد أضاف الكثير من المهابة والأناقة والإقناع وهو يرتدي ذلك الزى البسيط. بطبيعة الحال أجاد الفخراني في الحديث باللهجة الصعيدية وأتقنها، كما أتقن في البوح بمشاعره الداخلية التي كان يفجرها بين الحين والآخر وهو يستجير طالبا العدل والرحمة وأن تتفهم عائلته مشاعره واحتياجاته.

لا يمكن أن يعد الفخراني ممثلا جميلا، فإضافة للحجم الكبير وكتل اللحم، والشحوم الهائلة التي تغطي جسده، فوجهه ليس جميلا بالمرة بمقاييس جمال الرجال بطبيعة الحال. فهو يملك أنفا ضخما للغاية لا أعتقد أن له مثيلا بكل مصر، كما أنه لا يهتم علي الإطلاق بتسريحة شعره أو محاولة عمل "نيو لوك" لهذا الوجه الضخم. لكن المؤكد أنه أيضا يملك وجها ليس دميما، بل هو وجه معبر وصافي القسمات، ويستطيع أن يعبر بهذا الوجه خاصة صفاء العينان ونغمة صوته المميزة للكثير من الانفعالات الإنسانية بدرجاتها وأنواعها المتباينة.

وربما هي سمة للفخراني بأنه لا يعتمد علي الماكياج في تغيير الخطوط العامة لشكله أو مظهره الخارجي. وأنه ولذكائه الشديد ولحسه الفني الراقي وفهمه لطبيعة الشخصية التي يتقمصها كسب كل تلك "الفوضى" الجسدية وحتى شكل وجهه ذو الأنف الضخم، كسبه أيضا في مد جسر من القبول والحب والإقناع بينه أو بين الشخصية التي يلعبها وبين المتلقي.

في مسلسل " يتربي في عزه " لعب الفخراني دور الابن الأكبر الثري والمدلل للغاية كإبن وحيد " لماما نونه " والتي قامت بتأدية دورها الممثلة القديرة كريمة مختار. في هذا المسلسل نجح الفخراني أن ينقل إلي المتفرج سخافة دلع الابن الأكبر، فما بالك وإذا كان هذا الابن تجاوز الستين وله عدة تجارب فاشلة في الزواج، والعديد من الأولاد أكبرهم ضابط شرطه صارم الطباع وأصغرهم شاب التحق حديثا بركب الإرهاب. تركيبة صعبة ومزعجة رغم أن خيوط الأحداث في المسلسل كانت تنساب بهدوء وعقلانية وبشكل إنساني جميل. .
لا يحاول الفخراني المبالغة في تأدية أدواره، ففي ذلك المسلسل اكتفي باظهار الشخصية من الخارج في تعاملاتها مع الآخرين، وبملابس تناسب تلك الشخصية "تي شيرتات واسعة وبنطلونات جينز"، والتحرك بخفة ومهارة شاب في العشرين. ورغم كل المعوقات الجسدية التي تحدثت عنها، فالفهم السليم للشخصية مكنه من قيادتها ببراعة ويسر، وأيضا أن يخرج لنا أيضا بعضا من أسرارها الدفينة الداخلية، كموقفه عند موت أمه في ذلك المسلسل. وهو بهذا ينجح في التقمص حتى لو كان من الخارج في أن يقود الشخصية بإيجابية وبراعة ومهارة وحرفية عالية. وبالرغم من سلبية الشخصية فقد تعاطف معها الجمهور. لسبب وحيد أن الفخراني هو الذي أدي تلك الشخصية، بحيث لم يفقد حب وتعاطف المتلقي – كالعادة - وكما يحدث مع أي شخصية أخري يؤديها.
.
الفخراني أستاذ محترف في التقمص " من الخارج " ووسائله كثيرة تبدأ بفهمه لطبيعة الشخصية ثم تكييف إمكانياته الجسدية لإظهار ملامح تلك الشخصية ثم الاستعانة بحرفيته العالية في "الحوار والحركة والنطق". وأخيرا الاهتمام الكبير بنوع الملابس والتي غالبا لا تزيد عن ملابس بسيطة للغاية، لكنها تؤدي دورها في قبولنا لحركة تلك الكتلة الكبيرة من العاطفة المتدفقة والوهج الخلاق .
.

الأربعاء، ديسمبر ٠٣، ٢٠٠٨

تقمص الشخصية في المسرح ...

.
تقابلت خلال إجازتي الأخيرة مع اثنان من ممثلين المسرح النمساوي. فيرنر بريكس، وجوركيوري سبيرج. الأول يعمل ممثلا http://www.sobieszek.at/sites/A_KuenstlerC_Videos.php محترفا ويقدم عروضه في مسارح اتفق علي تسميتها بمسارح الكباريه وهي مسارح منتشرة بمعظم المدن الأوربية وليس لها علاقة بالكباريه الليلي وكما نفهمه. فهي مسارح صغيرة عدد كراسي المتفرجين محدود وربما لا يزيد عن المائة. وهي مسارح تعني بتقديم الجديد من اجتهادات الممثلين والفرق الصغيرة، والتي يري القائمون عليها أنها تتمشي مع اهتمام المشاهد ومتعته.
الجميل في الأمر هو اهتمام المشاهد بمتابعة برامج تلك المسارح، وما يعني ذلك من أن تلك المسارح تكسب الكثير من وراء بيع بطاقات الدخول للمشاهدين. وهذا يفسر انشغال الممثل الدائم بالترحال لكثير من المدن الأوربية لتقديم أعماله.
برع فيرنر في تقديم أعماله الكوميدية علي شكل منولوج داخلي، وقد اختار لنفسه شخصية الإنسان الأوربي العصري المهموم دائما بضغوط العصر وتعقيداته النفسية والتكنولوجية ايضاً. في أحد مونولوجاته أو معاناته قدم شخصية رجل يحاول وضع رسالة إجابة اتوماتيكيه لهاتف مكتبه، وعليه أن يبدأ الرسالة فور استماعه لصفارة التنبيه، وعليه أن ينهيها بعد عدة ثواني محددة وقبل صفارة التنبيه التالية، المشكلة تبدو بسيطة للغاية وكلنا تقريبا مررنا بها لكنها بالتأكيد لن تكون كذلك مع إنسان عصبي ومتوتر ولا يستطيع أن يتوافق مع أجهزة التكنولوجيا وصفارات البدء والنهاية. في أحد شخصياته الأخرى يقدم شخصية مريض نفسي بعيادة أحد الأطباء النفسيين ومشكلة هذا المريض انه لا يستطيع الاسترخاء والتوقف عن الحديث، فهو لا يستطيع أن يتوقف عن الكلام والنظر في ساعته وإظهار توتره الدائم. ولا يستطيع الاستجابة لطلب طبيبه المعالج بالاسترخاء والتوقف عن الكلام لدقائق معدودة.

الممثل الآخر جوركيوري سبيرج ممثل محترف أيضا لنوعية أخري من الأعمال . فهوما يمكن أن نطلق عليه ممثل تراجيدي وأعماله تقدم من خلال فرقة مسرحية مشهورة وفوق احد المسارح الهامة التي تأتي في المقام بعد المسرح القومي بفينا. وقد لعب جوركيوري العديد من الأدوار الهامة مثل أحدب نوتردام وهاملت، وهذا يشير لنوعية المسرحيات التي تقدمها الفرقة التي يعمل بها.
.
سألت الاثنان. ما هو تأثير الشخصيات التي يؤدونها علي حياتهم الخاصة؟ بمعني هل ينسحب تأثير تلك الشخصيات لما بعد إسدال ستارة النهاية للمسرحيات أو الأعمال التي يؤدونها.؟!! فكما هو معلوم هناك مدرستان، الأولي وهي تهتم بالتقمص الكامل للشخصية أو ما يسمي بالتمثيل من الداخل، والمدرسة الأخرى تهتم بالجانب الحرفي لأداء الممثل وفهمه للشخصية، بحيث يكون الممثل نفسه حياديا معها وقت تأديته لتلك الشخصية، وهو ما يطلق عليه التمثيل من الخارج . الأمر الهام انه لا علاقة بكل ذلك بإجادة الممثل إذا ما تقمص ولعب الشخصية من داخله أو لم يتقمص وأدي دوره وفق فهمه ولعب الشخصية من خارجه. أريد أن أقول أن الإجادة ينبغي أن تكون واحدة، إذا ما تحدثنا عن ممثلين محترفين يفهمون ويقدرون الشخصية التي يؤدونها.

الفنان الكبير عمر الشريف من أنصار المدرسة الثانية. التمثيل من الخارج، وهو يري أن التمثيل عمل مثل أي عمل يلزمه الكثير من التدريب والفهم والقراءة والحفظ، ثم يأتي الدور لتمثيل الشخصية. وبعد الانتهاء من ذلك لا ينبغي للشخصيةأن تظل ( راكبة ) الممثل، فقد انتهي العمل وعلي الممثل أن يغادر المسرح أو الأستوديو لمنزله وللمحيطين به بشخصه الحقيقي.

ولعل المسألة تكون أسهل مع ممثلي السينما. فالشخصيات التي يؤدونها لا تتكرر كل ليلة بنفس تكرارها اليومي والرتيب في المسرح، كما وأن تنفيذ اللقطات في السينما يتيح قدرا معقولا من الراحة للمثل وعدم السماح للشخصية بالتغلغل داخله. ومع ذلك فهناك الكثير من ممثلين السينما ( تركبهم ) الشخصية التي يؤدونها للدرجة التي يعانون منها. من المعروف أن احمد ذكي كان ضمن أولئك الفنانين الذين تتعايش الشخصية معهم حتى بعد انتهاء التصوير. وضمن الحكايات التي تقال عن أحمد ذكي معاناته من شخصية ضابط المباحث المحبط في أحد أفلامه ( زوجة رجل مهم ) والذي يصر علي تقمص شخصيته ( ضابط المباحث ) حتى بعد فصله من العمل - ذلك في أحداث الفيلم - ويبدو أن الشخصية ظلت لاصقة به بعد الفيلم أيضا.

المدهش أن الفنان الكبير عمر الشريف يحكي عن يوسف وهبي عكس ما كنا نعرفه. فقد كنت أظن أنه أحد أساتذة التقمص من ( الداخل ) خاصة في المسرح. فيأتي عمر الشريف ليوضح أن هذا الفنان الكبير كان عكس ذلك تماما. فقد كان واعيا لحدود الشخصية التي يمثلها، كما أنه كان من الذكاء والخبرة بحيث كان يقودها بالشكل الذي كان يكسب معه دائماً حب وتقدير المشاهد.

ومما يقال أيضا عن أصحاب مدرسة التقمص من الداخل، أن الفنان جورج ابيض وهو أحد رواد المسرح في مصر كان أستاذا في تقمص الشخصية التي يؤديها، وكانت له طقوس لمعايشة تلك الشخصية قبل دخوله لخشبة المسرح حتى تسيطر عليه بالكامل. كان يصرخ: سخنوني سخنوني .، ثم يهرول داخلا لخشبة المسرح. وفي احد المرات اندفع بل وعي طالبا التسخين أو المعايشة أو الدعم أو المدد، وإذا به يصطدم بالديكور فيقلبه رأسا علي عقب، ويسدل الستار لإعادة ترتيب الديكور، وتسخين الممثل من جديد. ومن يتذكر فيلم الحرب والسلام بنسختيه الروسية والأمريكية سيجد مثالا لذلك خاصة لشخصية الضابط النبيل في كل من الفيلمين.

أعود لرأي فيرنر وجوريجوري. كما أسلفت بأن فيرنر يؤدي في الغالب شخصية الإنسان العصري المتوتر والمهموم دائما بالسرعة والوقت والأجهزة والعلاقات المعقدة. ويبدو أن تلك الشخصية قد أثرت عليه وعلي شكل تعاملاته اليومية مع المحيطين به، مما استدعي ذهابه بالفعل لأحد الأطباء النفسيين، الذي نصحه بالراحة التامة والبعد عن العمل لفترة، والإدراك العقلي بأن ما يقوم به من عمل هو لساعات محدودة وتتم فوق خشبة المسرح، وما عدا ذلك فيجب أن يكون طبيعيا.

الممثل الآخر جريكوري ينتمي للمدرسة الثانية ( التقمص من الخارج ) مما يعني انه يدرس جوانب الشخصية جيدا بحيث ينتهي تأثيرها فور مغادرته خشبة المسرح. وبالرغم من ذلك فهو يعترف بأن هناك شخصيات يظل تأثيرها عالقا أو راكبا.!! لمدة من الوقت، فهو لا ينسي تأثير شخصية أحدب نوتردام، وكانت تتطلب منه وضع ماكياج خاص لتلك الشخصية. وكأنه بالأحري يرتدي جسدا من الكاوتش والبلاستيك فوق جسده ليقارب في الوصف الشخصية الحقيقية لأحدب نوتردام القبيح الهيئة والأصم وصاحب العيون الجاحظة، فضلا عن حدبة الظهر والتشوه الكبير في شكل جسده. ومع كل تلك المعاناة فقد كانت المعاناة الأكبر من طريقة النطق للشخصية حيث أستوجب الأداء أن يشهق أثناء الكلام كلازمة للأحدب في طريقته في الكلام. ومن شاهد النسخة القديمة للفيلم يدرك ما أعنيه. علي كل يبدو أن تلك الشهقة الطويلة أثناء الحديث ظلت ملازمة لجوريكوري لفترة حتى بعد أن أنتهي من أداء هذا الدور المعقد والمركب.
.

الأحد، نوفمبر ٣٠، ٢٠٠٨

صباح الفل ياعم صلاح …..

.
كيف شفت قلبي و النبي يا طبيب
همد و مات و الا سامع له دبيب
قاللي لقيته مختنق بالدموع
وما لوش دوا غير لمسه من إيد حبيب
عجبي !!!!

لم أعد بقادر علي تذكر عدد المرات التي دخلت فيها وخرجت من قسم الرعاية المركزة للقلب بالمستشفي. بالتأكيد هي مرات كثيرة، ربما تفوق العشر مرات. في كل مرة أقابل أصدقاء جدد أصاب بعضهم الرعب لوجع قلوبهم، ومنهم من استسلم لأقداره في هدوء غريب. والبعض من يقاتل لحد العناد والاستماتة في مواجهة تلك الأمراض التي تصيب قلوبهم، فالأمل باق أن تظهر الشاشات التلفزيونية - بغرف القسطرة - صورة أفضل لشرايين القلب (الملكية) أو التاجية التي هي سبب الألم والعناء.
أنا واحد من أولئك المقاتلين، حتى أن الكثير من المرضي اعتقدوا أنني (حكيم) متخصص بأمراض القلوب، وكانوا يهرعون لاستشارتي والحديث معي قبل وبعد دخولهم غرفة القسطرة.
في كل مرة يدخل فيها الطبيب القسطرة المزودة بالكاميرا داخل شراييني المتعبة، ويأخذ في التجول بداخلها ومراقبتها وهو يضخ الصبغة الحمراء المؤلمة، ليكتشف أي شريان يعمل وأيهما أصابه الانسداد. في كل مرة أتذكر رباعية عم صلاح وأرددها بصوت هامس ففيها تشخيص لعلة قلبي وربما لباقي القلوب، وفيها الدواء الشافي لكل القلوب.
.

الثلاثاء، نوفمبر ٢٥، ٢٠٠٨

صباح الخير ياعم صلاح ...

.

في يوم صحيت شاعر براحة و صفا

الهم زال و الحزن راح و اختفي

خدني العجب و سألت روحي سؤال

أنا مت ؟ و لا وصلت للفلسفة

عجبي !!!

.

انا اللي عمري اشتياق في اشتياق
و قطر داخل في محطة الفراق
قصدت نبع السم وشربت سم
من كتر شوقي وعشمي في الترياق
عجبي !!!

.

فتحت شباكي لشمس الصباح
ما دخلش منه غير عويل الرياح
و فتحت قلبي عشان أبوح بالألم
ما خرجش منه غير محبه و سماح
عجبي!!!!

.

عجبتني كلمة من كلام الورق
النور شرق من بين حروفها و برق
حبيت أشيلها ف قلبي .. قالت حرام
ده أنا كل قلب دخلت فيه اتحرق
عجبي !!!

صلاح جاهين

الخميس، نوفمبر ٢٠، ٢٠٠٨

عاشقة السيدة العجوز ..

السيدة ماريا باير أو إيرين باير - نمساوية الجنسية والمولد - واحدة من عشاق مصر . قرأت الكثير من الكتب التي تتحدث عنها، وهي تزورها كل عدة أشهر وبشكل مستمر، وتحاول قدر ما تستطيع أن تقترب من الناس وفهم مايحدث. من أجل ذلك فلها العديد من الصداقات بكثير من المصريين العاديين، فهي تكره لمسات الرفاهية المتوفرة للسياح وتجد أنه من الأفضل - حين تحضر - أن تعيش مع الناس وكما يعيش الناس البسطاء.
كانت السيدة باير قد كتبت الأسطر - التالية ترجمتها - عن مصر وربما يكون الأصح أن أقول أنها كتبت خاطرة عن مصر. حاولت فى ترجمتها أن أقترب من المعاني المقصودة دون أن أخل - كثيرا – بروح الكاتبة في التعبير. ومع ذلك فلا أستطيع أن أدعي أنني قمت بأفضل ترجمة لما كتبته السيدة إيرين. ولعل هناك من يحاول ترجمة الموضوع يشكل أحسن. كما أود أن أنوه أن الترجمة للعربية التي قمت بها للموضوع هي ترجمة للموضوع بالإنكليزية والتى ترجم إليها بواسطة الكاتبة نفسها، حيث أنه مكتوب أصلا بالألمانية التي لا أجيدها بالمرة.


سيدتي الجميلة – مصر*

تنساب دموعي دون توقف حين أراك كم أصبحت ضعيفة ومنهكة للغاية، وأنت تمسحين جراحك، بينما يتواصل هجومهم عليك ونهشك حتى لا يبقي منك أية أثر .أنت سيدة ثرية. بينما يتملك أولادك النهم والسعار، لأن أرواحهم قد ذبلت وقلوبهم تحجرت، ولم يعد يملكون مايكفى من الحب أو المقدرة لمساعدة أمهم الرائعة، فأيديهم مغلولة وأرواحهم قد ثملت بسموم أفاعي الصحراء الضخمة.

يتملكني الأسى حين أري عصبة صغيرة وشرسة من أولادك قد تحولوا إلي ضباع جشعة تبحث دون كلل عن دمائك. ويا للسخرية فهم لا يتورعون – أيضاً - عن الفتك والتهام لحم أخوتهم أحياء.

آه يا سيدتي. كم من بهجة أنالها لو أنني غمرتك بدماء قلبي لتنظيف جروحك. لعلني أقدر علي إيقاظ أولادك من سباتهم، وتطهير أرواحهم، وفتح قلوبهم. لعلنا نقدر علي مقاومة نزعاتهم الدنيئة للتضحية بك.
لكن من أكون لأفعل كل ذلك وأنا ابنة لبلد آخر بعيد عنك لا تملك سوى حبها لك. فمنذ زمن بعيد وأنا عاشقة لك، وقلبي ملكك. فعبر آلاف السنين كنت قوية ومزدهرة تشعين الضياء وتمنحين الحب والعطاء للجميع. من لا يعرف أولادك البررة بك في تلك الحقب. أولادك الذين تألقوا بحبهم لك وبسعيهم المتواصل للمعرفة والعلم والفن والثقافة.

وعبر الزمن بقيت، وخاب مسعى كل الغزاة لأراضيك، والفاتحين لمدنك للسيطرة عليك. وفشلوا في أن تهيمن ثقافتهم أو عرقهم أو لونهم عليك. وباقتدار ومهابة وقوة عبرت كل تلك المحن، فأنت محبة لكل الأطفال حتى لو لم كانوا غرباء عنك. ويا لقسوة الأقدار، فالذي يحاول إسقاطك هذه المرة وافتراسك مثل ضبع لئيم هو أحد أولادك الذي وهبتيه الحياة رغم عنائك وتعبك.

كاتبة هذه السطور ماريا باير – نمساوية . يمتلأ قلبي بالاهتمام وبحب تلك السيدة العجوز والرائعة مصر. لن أتوقف عن حبها أو عن النضال من أجل نبلها وكرامتها .

السبت، أغسطس ٣٠، ٢٠٠٨

10 - حكايات مسافر .."ماذا تريد إيران؟!" ( تكملة )


ويبدو أن صناع القرار في أمريكا لايتركون شيئاً للصدفة، فهم يفكرون بشكل نفعي – وهذا حقهم - فيما يخدم المصالح الأمريكية. ولعلهم رأوا أن الأمور في إيران تسير للأسوأ مع وجود نظام الشاة، فلماذا لا يتم التعاون والمساعدة للنظام المقبول من الشعب والمرشح للحكم. ولعل ذلك يعطى تفسيراً لاحتضان أمريكا والعديد من الدول التي تدور في فلكها لزعماء التطرف ورموزهم في المنطقة العربية خاصة مصر.
.
فهم - الأمريكان - يعتقدون أن التطرف الإسلامي هو الوريث الشرعي للحكم في المنطقة. وبحجة الحوار والفهم لهذا التيار المعارض يتم تجميع تلك العناصر المتطرفة ومساندتهم ومنحهم حق اللجوء السياسي فى العديد من الدول الأوربية، والسماح لهم بجمع الأموال وممارسة الأنشطة السياسية المعارضة لدولهم وتمويل عمليات الإرهاب.برأيي أن العيب ليس في أمريكا بقدر ماهو في الأنظمة الفاسدة التي تتوهم أن أمريكا يمكنها حمايتهم إلي الأبد.
.
وبمجئ الخميني ارتفعت صرخات الثوار الشيعة بنشوة النصر والنجاح، وبدا لهم أن الطريق ممهداً لنجاح الحلم الفارسي. مستغلين تعاطف الشعوب العربية معهم، والفرحة الغامرة لنجاح أول ثورة ترفع راية الإسلام، والأمل في تبنى سياسة قائمة علي التعاون والفهم السليم للمشاكل المعلقة . ومستغلين أسوأ مافي العرب، وهو حالة التشرذم، وعدم وجود الحد الأدنى من الاتفاق الذي يمكنهم من الوقوف بصلابة. وقد ساعدهم أيضا وجود حالة من السخط الشعبي لفساد الأنظمة الحاكمة العربية مقابل تبني الإيرانيون للشعارات الدينية المطلقة عن العدالة وحقوق المستضعفين. وأسوأ ما في الأمر أنهم استغلوا النعرة الطائفية باعتبار الشيعة في الأقطار العربية هم أقرب إليهم من باقي المسلمين. ويمكن القول أن أسلوبهم كان بعيداً عن الفهم الصحيح للدين الإسلامي، وأنهم تحركانهم كانت سياسية في المقام الأول، مع استغلالهم للشعارات الدينية بشكل سيئ ومغلوط، وبالشكل الذي يجلب الفتنة والخراب.
.
ومع أن الغوص في قضية الشيعة والسنة لن يجلب سوي المزيد من التعقيدات، غير أن المرء يصاب بالدهشة وهو يطالع كتب التراث الشيعي، وما تبثه من كراهية وأحقاد بالنفوس تجاه الخلفاء الراشدين ( عدا علي رضي الله عنه ). بالإضافة للكراهية المستحكمة لأئمة المسلمين السنة، بحيث أصبحت كل تلك الكراهية من الموروثات والتي تشكل وجدان الشخص الشيعي العادي. شئ لا يصدق وغير مبرر ويبدو أن له جذوره السياسية ومنذ القدم.
.
بداخل أحد الطائرات العراقية المتوجهة من القاهرة إلي بغداد، وبينما كانت الحرب العراقية الإيرانية مشتعلة تأكل الأخضر واليابس في كلا البلدين، تقابلت مع مواطن باكستاني شيعي كان ضمن مجموعة باكستانية كبيرة تقوم بزيارة الأماكن الدينية بالقاهرة. وكانوا في طريقهم لبغداد لاستكمال زياراتهم للأماكن الدينية بمدينتي كربلاء والنجف. سألته عن رأيه بتلك الحرب. هب واقفاً في ممر الطائرة وكأنه ينتظر مثل هذا السؤال، وبعربية هزيلة ومضحكة وبشكل استعراضي تحدث بصوت عال، مردداً حديثاً نبوياً يفيد بظهور العديد من الفرق المسلمة والتي لامفر من أن تقاتل بعضها البعض حتى تكون الغلبة لأحد الفرق.
- أشك في صحة هذا الحديث ، فيكفي أن نكون مسلمين حتى لا نؤذي بعضنا بعضاً وتلك كانت ضمن وصايا الرسول صلي الله عليه وسلم لنا.
- لا، الحديث صحيح ولابد من القتال. ذلك شئ حتمي.
.
لم تكن هناك - إذن - أية بادرة للحل مع النظام الجديد بل علي العكس راحت الصرخات تتعالي بتصدير الثورة إلي البلاد العربية، وبالتهديد والوعيد لبلاد الجوار الضعيفة. وهم يعنون أن نموذج الثورة الإيرانية الشيعية هو النموذج الأمثل لتلك البلاد العربية المسلمة، ويأملون دون كلل أن يكون نموذجاً قائداً لتلك الدول وتابعا مخلصاً وأميناً لفكر وتوجهات الملالي.
.
وبشكل عملي، فقد نشطوا في تشجيع وتمويل التنظميات التي تؤمن بالعنف والسلاح، وتقوية الأقلية الشيعية في دول الخليج العربي، وتشجيعهم لإعلان التمرد والعصيان، وممارسة أساليب العنف والتخريب. كانت البداية مع العراق وقد مورس كل ذلك هناك، وأصبح انفجار القنابل وحوادث الاغتيالات، شيئاً مألوفاً. ولعل أبشع حادثة كانت إلقاء القنابل علي طلبة الجامعة المستنصرية، الذين كانوا يشيعون بعضا من زملائهم القتلى في انفجار سابق!!
وبالتدريج اتسعت الدائرة لتصل إلي السعودية حيث تم تدريب الحجيج الإيراني لعمل مظاهرات عدائية، وحمل صور الخميني، وماتلي ذلك من أحداث دموية هناك. وتتسع الدائرة لتصل إلي البحرين والسودان والجزائر واليمن ومصر. ويظل القاسم المشترك للحركات الإسلامية بكل تلك البلاد هو ظهور تيارات دينية تتبني أسلوب العنف والتطرف والاغتيالات.
.
إنني وبضمير مستريح علي يقين ووعي كاملين بأن الأصابع الإيرانية والإسرائيلية أيضاً هما المحركتان لتلك التيارات المتطرفة، والتي هي أشبه بالدوامة الهوجاء التي سرعان ماتنقشع ليعود الصفاء ثانية، ذلك أن تلك التيارات المتطرفة ضد منطق البناء والتقدم بل هي ضد الدين ذاته. وليس لأحد من مصلحة فيما يحدث – وفق المعلن من سياستهما - سوي طرفين هما علي وجه التحديد إيران وإسرائيل.

ونظراً لتعامل نظام صدام بكل العنف والقسوة والبطش لكل الخلايا والمنظمات التي تتلقي الدعم والتوجيه من إيران، والتي كانت تنتمي بالفكر لإيران أو التي تسببت في حوادث الاغتيالات والإنفجارات، حيث توعدهم صدام بتصفيتهم من الجذور!!. ليضع حداً لفشل عملية التصدير بشكلها المباشر إلي العراق.
والغريب أنهم استغلوا قضية فلسطين في مشروع التصدير فظهر شعار آخر وغريب وهو أن الطريق للقدس يمر بكربلاء وفي وقت آخر أصبح يمر ببغداد. ولعل وقع هذا الشعار هو ما جعل رجال صدام يستخدمونه أثناء حرب الكويت بأن الطريق إلي القدس يمر بالكويت.!!
.
ونموذج الحكم الإيراني يعد أحد النماذج السيئة السمعة لتسلطه وكبته لحرية شعبه. ولم يعد هناك فارق جوهري بين أسلوب الحكم أيام الشاة وبين حكم الملالي. وإذا كان الشاة معتمداً لتأمين نظامه علي التحالف بين مؤسسات الأمن والمخابرات وجنرالات الجيش، فقد بسط الملالي سيطرتهم وأحكموا قبضتهم علي جميع تلك المؤسسات العسكرية وأضافوا لها مؤسسة أخري تهيمن وتوجه وتتصدر الأحداث. بحيث أصبح ما يسمى بالحرس الثوري مؤسسة ضخمة تؤمن وتمول كافة الأنشطة، ابتداء من المحافظة علي نظام الحكم بالداخل، إلي تمويل عمليات الإرهاب والاغتيالات بالخارج بالإشراف الفعلي عليها بما في ذلك عمليات التدريب للمخربين والقتلة في بعض البلاد العربية والتواجد الفعلي للمشاركة في خلق حالة من القلق المتواصل. وأصبح بديهيا أن يندرج تحت عباءة تلك المؤسسة كافة أنشطة الشرطة والجيش والمخابرات.

وبخلاف ذلك، فلا أعتقد أن هناك أمل في التغيير يمكن أن يأتي بشكل ديمقراطي وسلمي، حتى مع مجئ رئيساً للدولة من جناح الآيات المعتدل. فلا يزال هناك مجلساً للوصاية، ومجلسا خاصا بالمحافظة علي النظام من أي قرارات خاطئة تصدر عن الرئيس المنتخب. ويمكن عبر أياً من تلك المجالس إجهاض أي محاولة للتغيير قد تأتي. ثم هناك مرشداً عاماً للثورة – أقوي رجل في هرم السلطة - والذي يستطيع أن يلغي أو يعدل أو يصدر أي قرار مخالف لتوجهات "الرئيس المعتدل" أو لمجلس حفظ النظام أو مجلس الوصاية أو حتى للبرلمان.
.
القاهرة . صيف 1995

الجمعة، أغسطس ٢٩، ٢٠٠٨

10 - ماذا تريد إيران ؟!


كان لطول الفترة التي عشتها بالعراق أثر كبير في فهم التفكير الإيراني بشكل عام، والسياسة الإيرانية بشكل خاص تجاه العرب سواء أيام حكم الشاه أو تلك الأيام التي يسيطر فيها الملالي علي مقادير الحكم والثروة بإيران.
وفي كل الأحوال فإن تلك السياسة تهدف دوماً للهيمنة والسيطرة علي حساب الأراضي والمصالح العربية، تحت مسميات وتبريرات غريبة وسخيفة وعبر وسائل أشد سماجة لعل أخرها ما عرف باسم "شعار تصدير الثورة الإسلامية" أو النموذج الإيراني إلي البلاد العربية.
وعموماً فصيغة التعالي والطمع تجاه كل ما هو عربي هما أبرز مايميز تصرفات الساسة الإيرانيين سواء أيام الشاه أو تلك الأيام. ولا أستطيع أن أصدق أن إيران - رغم عباءة الدين وحكم الملالي - ليس لها مطامع في الكعكة العربية، ويبدو أنهم محكومون في تصرفاتهم بأفكار غريبة ورجعية تـمليها عليهم القراءة الخاطئة للتاريخ، خاصة فترات التداخل الحضاري أثناء الفتح الإسلامي، ونتيجة لانتصاره علي الحضارة الفارسية، وهي نفس الأفكار التي كانت تملي علي الشاه السابق تصرفاته تجاه العرب.

باعتقادى أن المشكلة (الإيرانية – العربية) لم تتغير برحيل الشاة، ونظام حكمه القمعي والبوليسي، ومجئ الملالي وتمسحهم بعباءة الدين، بل ربما يكون من الأصوب أن نقول أن كمية المشاكل قد زادت وأنهم قد استطاعوا إضافة العديد من المشاكل داخل البلاد العربية .كان الملف طوال حكم الشاه يحتوي علي مشكلتين، شط العرب مع العراق، ومشكلة الجزر المحتلة مع الإمارات.

ومع تطلعات الشاه للقوة والسيطرة كان يلجأ علي الدوام لإلهاء العراق عن مشكلته ( شط العرب ) بتمويله للقلاقل وحوادث الاغتيالات والأخطر من ذلك بتحالفاته المشبوهة مع الأكراد في شمال العراق وإشعال فتيل الحرب بين الأكراد والعراقيين ، حتى لا يهنأ العراق لفترة راحة طويلة يلتقط فيها الأنفاس .
ووفق الحسابات الخاطئة للحكومة العراقية فقد قبلوا باتفاقية الجزائر 1974 التي تنص علي اقتسام المجري المائي ( شط العرب) مناصفة مع إيران. ورغم أن هذا الاتفاق مجحف لأنه ببساطة شديدة يمكن الإيرانيون من تملك نصف هذا المجرى الذي هو بحكم التاريخ والجغرافيا يقع داخل الحدود العراقية .
ولأن روح تلك الاتفاقية لاتمثل سوي النفعية والانتهازية لكل من الحكام في بغداد وطهران، فقد سحب الشاه كل مساعداته للأكراد وتركهم يواجهون بمفردهم جيش صدام القادم من بغداد. وبطبيعة الحال فقد انتهت علي الفور حرب الشمال، وكسب كل حاكم ماكان يطمع فيه من الآخر .
وربما كان تفكير صدام في هذا الوقت أنه وبعد أن يرتاح جيشه من الحرب مع الأكراد فسيتمكن – حينئذ - من إلغاء تلك الاتفاقية، ولو تطلب الأمر الدخول في حرب مع إيران شريطة أن يكون الوقت ملائماً. وهذا ماحدث بالفعل.
وعلي كل فهذا موضوع آخر أود الكتابة فيه. وكيف أن حسابات صدام الخاطئة توصله دوماً لسهولة اتخاذ قرار الحرب دون غيره من البدائل العديدة التي كانت متاحة أمامه. وكيف أنه أعد قطاع كبير من شعبه بنفس الأسلوب بحيث أصبحت العصبية التي تصل لحد الحماقة هو الأسلوب المميز لها القطاع.

لنعد لإيران ولنر ماذا يريد حكامها بالضبط .
كان نجاح الثورة الإيرانية وما تلي ذلك من تربع الخميني ومساعدوه من طبقة الملالي الشيعة، أشبه بفيلم – أمريكي - هائل جندت له كافة الامكانات البشرية والمالية والتقنية أيضاً من أجل حبكه بشكل لا مثيل له، ووفق زيادة جرعات الإثارة والتشويق. وليس بالإمكان وأنت تستعرض سيناريو الأحداث التي سبقت هروب الشاه من إيران وقدوم الخميني وبطانته بطائرة خاصة من باريس، ودخوله طهران منتصراً إلا أن يعتريك الشك في المساعدات القيمة - لإنجاح تلك الثورة - التي قدمت من الحكومات الغربية، وأجهزة الاستخبارات وفي المقدمة وكالة المخابرات المركزية.

إن الدرس البليغ الذي يجب أن يعيه الطغاة من حكام العالم الثالث هو أن أمريكا ليست دوماً علي استعداد لحمايتهم والمحافظة علي كراسيهم أو حتى حياتهم، إذا تعارض ذلك مع مصالحها.
.
القاهرة. صيف1995
- يتبع -

الخميس، أغسطس ٢٨، ٢٠٠٨

9 - حكايات مسافر .."الأكراد قادمون" ( تكملة )

.
"حين يستيقظ الزعيم في الصباح تستيقظ معه كل جبال بلادنا وأنهارها ومدنها ووديانها . الويل لمن يستيقظ قبل الزعيم. الويل لمن يستيقظ بعد الزعيم. انتبهوا أيها السادة فالزعيم بالحمام الآن يقضي حاجته ويمارس طقوسه، صفقوا له".
ليتني كنت أستطيع حفظ ما يعجبني من أشعار، والكلمات السابقة محاولة بائسة مني لترجمة مايعنيه أحد شعراء الأكراد في قصيدة مليئة بالمرارة والسخرية من حاكم العراق ومايفعله بهم. في تلك القصيدة راح الشاعر يتتبع يوماً للزعيم منذ استيقاظه في الصباح وحتي موعد نومه إن استطاع النوم. وفي كل لفتة من لفتاته فالشعب يلف حوله منقاداً مسخراً لنزواته الحمقاء .
- دعني أقول أنه ربما كنت تقصد صدام علي وجه التحديد. فهو نموذج في غاية السوء للحاكم المستبد، ولا يختلف من حوله عنه في ممارسة أبشع أنواع التسلط وقهر بني وطنهم. إنني لا أستطيع أن أفهم - مجرد الفهم - إلي أي حد من تضخم الذات وعشق النرجسية وصل إليها هذا الرجل. ولكني سأكون صريحاً معك. إن نموذج صدام كثير، حتى بينكم أنتم الأكراد، فتصرفات زعمائكم تنبئ عن ذلك، وأيضاً لا أستطيع الفهم، لماذا يعشق زعمائكم قتال بعضهم البعض، ولماذا تلك التحالفات المشبوهة فيما بينهم وبين صدام تارة أو الإيرانيون تارة أخري. إنهم دوماً يلعبون بالورقة الرابحة فوق جثث الأكراد. الخاسر دوماً هو الإنسان الكردي وقضيته التي تسعي جميع الأطراف بما فيها زعمائكم لإجهاضها. نحن يا صديقي مجرد قطع من أحجار شطرنج يلهو بها زعمائنا المبجلون سواء ببغداد أو بكردستان.
- هذا صحيح، غير أن مشكلتنا أولاً مع صدام. ونستطيع أن نحل مشاكلنا الخاصة فيما بعد .
- صدقني لن يجئ هذا الوقت أبداً، طالما كان زعمائكم يعالجون أموركم بهذا الشكل الأناني. ومع الأسف فإن جزءاً كبيراً من الحل في أيديهم. ذلك إذا آمنوا أولاً أنه لا فائدة من القتال فيما بينهم. وأن المواطن الكردي ليس مجرد كبش فداء لصراعاتهم فيما بينهم أو مع بغداد أو طهران أو أنقرة. حين يسعى أولئك الزعماء لاحترام آدمية بني وطنهم وحريتهم في التعبير وفي اختيار زعمائهم، بعد كل ذلك يأتي دور السلاح والقتال. إن ما يحدث الآن هو نوع من العبث الذي يصل لحد الانتحار الجماعي.

ومع أنني أري الصورة قاتمة وليس هناك من مخرج قريب، فالأكراد معرضون للقتل اليوم بالجنود القادمين من بغداد وغداً بجنود آخرين قادمين من أنقرة وبعد غد بجنود آخرين قادمين من طهران وتتوالي الأيام ويتزايد القتل .
ومع كل ذلك فالأكراد محبون للحياة ويمارسون حياتهم تحت كل تلك الضغوط يشكل يدعو للإعجاب والاحترام .

كانت أحد اللوحات الزيتية لفنانة كردية تصور مجموعة من الأكراد - رجال ونساء - يرقصون رقصتهم الشهيرة ( الدبكه )، وقد تراصوا بجوار بعضهم وتماسكوا بالأيدي.، كانت لوحة جميلة والتوافق بين أجساد الراقصين وحركتهم رائعاً، غير أن تلك الفنانة استخدمت أكبر قدر ممكن من الألوان الداكنة والمظلمة. ووسط ذلك كنت بالكاد ألمح ألوان الملابس للراقصين التي يفترض أنها من ألوان زاهية ولامعة، تلك الألوان المحببة للأكراد غير أن اللوحة لم تبح بذلك.
- وهل يوجد في حياتنا شيء مشرق أو جميل، أننا نرقص ونحن نموت، حياتنا هي تلك الألوان الداكنة وتلك الظلمة التي تلفنا. إنه نوع من الرقص أشبه برقصة الموت .

هناك أحد الحكايات بألف ليلة وليلة تحت اسم الكردي والعربي والجراب، والحكاية باختصار تروي عن نزاع حدث بين رجل كردي وآخر عربي بسبب جراب ادعي كل منهما ملكيته. ولم يكن هناك مفر غير اللجوء إلي القاضي لفض تلك المشكلة بين الرجلين وتحديد ملكية الجراب .
والمشكلة بدت - أمام القاضي - بسيطة للغاية فكل ماعليه أن يفعله هو أن يسأل كل رجل عما يحتويه الجراب بداخله من أشياء ومن المؤكد أن صاحبه الحقيقي سيصف دون زيادة أو نقصان ما بداخل الجراب .
ابتدأ الكردي وبعد أن حيا القاضي ودعي له بالتأييد وطول العمر، راح يؤكد أنه وضع بعض الأموال بداخل الجراب، وراح يصف ويعدد تلك الثروة المحفوظة بداخل الجراب العتيق. وجاء الدور علي العربي الذي كان قد استشاط غضباً لمبالغة الكردي، ومع ذلك فقد دعا للقاضي بالتأييد وطول العمر، وراح يعدد ما بداخل الجراب من بساتين وأنهار وجواري وقصور. وجاء الدور علي الكردي ثانية ليضيف بحاراً وجبالاً وقطعاناً من الأغنام. ويجئ الدور علي العربي فيضيف ويزيد هو الآخر شوارع وحواري، جواري، وعساكر، وقضاة وحكام. ويبكي الكردي من الغضب والغيظ ويأخذ في وصف ما بداخل الجراب من مدن فسيحة وقصور كبيرة وجبال عالية ووديان مترامية وأنهار جارية وقوافل تجار وأسواق عامرة بالبضائع والجواري الحسان والعبيد الأشداء .

هل يمكن لأحد أن يضع نفسه مكان القاضي الذي تخيل في البداية - ونحن معه - أنها مشكلة هينة وسهلة الحل. صحيح أن القصة في الف ليلة وليلة تنتهي بضجر القاضي منهما ومن ذلك التمادي والخيال الواسع لكل منهما. وينتهي الأمر بأن يقوم بفتح الجراب المهترئ فلا يجد بداخله سوي كسرة خبز يابسة وقطعة جبن صغيرة جافة فيقوم بطرد الرجلين.

والقصة - في رأيي - تعد أحد القصص القصيرة والجميلة والتي تعكس الصراع القديم بين العرب والأكراد علي حق الملكية. ففي حين يري كل من الكردي والعربي بأن الجراب ممتلئ بالخير والثروات، لا يري القاضي - أو رمز السلطة - فيه سوي جراب قديم ليس بداخله ما يستدعي كل هذا الصراخ والعويل. ومع ذلك فالأثنان لا يجدان مفراً غير اللجوء للقاضي في محاولة لفض ذلك الأمر بالتودد إليه ونفاقه بالدعاء له بالتأييد وطول العمر. والقصة لم تحدد هوية القاضي. عربياً أو كردياً كان، وإن كنت أميل أنها تفترض أن القاضي عربياً.

يجمع كافة الأكراد الذين التقيت بهم علي أن الدولة الكردية كانت موجودة حتى زمن قريب، وعلي كل وأياً كانت الأسباب التي أدت إلي تقسيم تلك الدولة فمن المؤكد والثابت تاريخياً أنه كانت للأكراد دولتهم الكبيرة المتاخمة للحدود العراقية والتركية والإيرانية والسورية. وأعترف أنني بحاجة للفهم وإلي من يزيد الأمور توضيحاً. وربما كانت وظيفة المؤرخين أن يظهروا لنا ماحدث، وكيف تم اقتسام أراضي تلك الدولة بين كل تلك الدول. والأهم هو لماذا تم تفتيت تلك الدولة " الوطن والمواطن " بهذا الشكل المأساوي.

هل لك أن تتخيل مثل هذا الأمر؟ أن تكون مواطناً لدولة ما، وذات صباح تجد نفسك مضطراً أنت وأولادك للدعاء والتغني لحاكم دولة أخري، غير الذي تعرفه، والتغني بنشيده الوطني وتحية علم دولته. بينما أقاربك وعلي بعد عدة كيلومترات منك مضطرون أيضاً لأن يتغنوا كل صباح لحاكم دولة أخرى وتحية علمه. شيء عبثي ومر، لكن هذا بالضبط هو ماحدث للأكراد .

وأستطيع أن أؤكد ومن خلال زياراتي وأحاديثي مع العديد من العرب والأكراد أن الأكراد يملكون مقومات الدولة. وأنه نوع من الغباء والاستغلال والابتزاز أيضاً أن تقف كل تلك الدول إيران وتركيا وسوريا والعراق في مواجهتهم، وإجهاض حلمهم بدولة مستقلة يمارسون فيها حياتهم كما يرون. والمؤسف في الأمر أن تلك المسألة غير واردة في تفكير أياً من تلك الدول.

وربما كان العراق هو الدولة الوحيدة التي تحدثت بصوت عال عن صيغة للحكم الذاتي للأكراد. ولا يخفي علي أحد أن صيغة الحكم الذاتي لأكراد العراق وضعت بمعرفة ومفهوم الحزب الحاكم في العراق وبما يخدم مصالحه بالدرجة الأولي، وربما كانت التوتر الدائم بين الحكومة المركزية في بغداد والأكراد، إضافة لتصاعد حدة الخلافات بين العراق وإيران خاصة المناطق الحدودية القريبة من تجمعات الأكراد. ربما كان كل ذلك هو السبب لطرح صيغة الحكم الذاتي للأكراد. فالأكراد يرون أن كل ذلك لا يزيد عن كونه محاولة لاسترضائهم، وهي محاولة غير كافية علي الإطلاق، ثم أنهم لا يضمنون حسن نوايا الحكومة المركزية ببغداد. وهم علي حق فمثل تلك الحكومة التي تتشدق بأن الأكراد جزء من الشعب العراقي، هي نفسها الحكومة التي تهلل - دوماً - لقرارات صدام حسين بإبادة قري كردية كاملة بالدبابات، ثم مسحها وتسويتها بمن عليها بسطح الأرض وإذا لم يكن ذلك مجدياً فهناك الإبادة بالغازات السامة.

هل يمكن لأحد أن يصدق أن هناك حاكم وحكومة تتعامل مع شعبها بتلك الهمجية وهذا الطغيان؟! أي حكم ذاتي وأي حقوق يمكن أن تأتى من صدام للأكراد .
وإذا كانت باقي الدول التي تحتل أراضي الأكراد لم تسعي إلي أي محاولة لاسترضائهم أو التجمل بصيغ للحكم الذاتي إلا أنهم يشتركون مع صدام في باقي أسلوبه: الردع حتى الإبادة .

منذ زيارتي تلك مرت العديد من السنوات العصيبة، وغطت علي كافة أوجه الحياة بالمنطقة. ولم يفرق غباء القادة العراقيين وشهوتهم للسيطرة والتدمير بين كردي وعربي. والمتتبع لما يحدث يستطيع أن يكتشف ببساطة أن الأكراد لن يملوا ولن ييأسوا من المطالبة بوطنهم السليب وانتزاعه من بين ألأنياب العراقية أو التركية أو الإيرانية أو السورية .
كيف يمكن لنا أن نطالب بحقوق الفلسطينيين في وطنهم السليب والمحتل ونحن - وفي نفس الوقت ورغم علاقات القربى والجوار والدين مع الأكراد - نصمت في رضا ونقبل باحتلال الأراضي الكردية، ومعاملة الشعب الكردي بتلك الطريقة الجائرة والظالمة.

الأكراد شعب عظيم وذو أصول راسخة. وهم فخورون بتاريخهم وتراثهم وعلي الدوام يذكروننا بأن صلاح الدين الأيوبي كان كردياً مسلماً. وغير صلاح الدين هناك آخرون من حقهم أن يتباهوا ويفخروا بهم. كلي يقين أن هذا الشعب - الذي يضحي دوماً بدماء أبناءه من أجل قضيتهم العادلة ومن أجل غباء قادتهم - سيكسب في نهاية المطاف وطنه حراً ومحرر.

لا يعتريني الشك أبداً في أنهم سيصلون يوما ما لتلك النتيجة، لسبب بسيط وهو أنه ليس بالإمكان ومهما طال الأمد أو التضحيات أن يظل هناك وطناً محتلاً وأهله بمثل إصرار وشجاعة وتضحية الأكراد.
إذا كنت غير مصدق فليس عليك سوي الذهاب إليهم في مدنهم وقراهم والصعود إلي جبالهم العالية، ومعرفة كيف يعيشون في ظروف غاية في السوء ثم أستمع إليهم بتمعن وفهم .
الأكراد قادمون يا عرب.
. القاهرة. شتاء 1997
.
آخر الكلام ...
وأخيراً ليسمح لي الصديق والزميل بختيار بوضع قصيدة صغيرة وجميلة للشاعر الكردي عبدالله بة شيو وأرفقها بالمقال. وأسمح لنفسي أن اعتبرها مداخلة وتعليق من بختيار أو من الشاعر نفسه. فأيهما يشرفني ويمنح المقال نوعا من المصداقية المطلوبة. في الحقيقة لست من أنصار الاستشهاد بالقصائد والأشعار عند كتابة المقالات السياسية، لكن فور قراءتي لتلك القصيدة شعرت أنني وجدت التفسير لمقالي ولكل ما قلته أو لم أقله.
والملاحظ أن القصيدة مترجمة من الكردية للعربية دون اهتمام "بصنعة الشعر" ومع ذلك فكلماتها تنساب بشاعرية ورقة رغم أنها تتحدث عن " ضريح الجندي المجهول"
اقرأ وتمعن.!!!.

...

لو زار وافد بلادي
وسال: أين ضريح جندكم المجهول؟
أقول له:يا سيدي
لا تخف
طأطأ رأسك قليلا
وضع من الورد إكليلا
فإكليلا
على ضفة أية ساقية
على دكة أي مسجد
على عتبة أي منزل
أمام مدخل أي كهف
أو محراب أية كنيسة
على أية صخرة
في أي جبل
على أية نبتة
في أي حقل
على أي شبر من الأرض
ضع إكليلك
وامضي سيدي
ولا تخفف
فأنت لم تخطئ الهدف.

.
القاهرة 30/3/2009
.
.

الثلاثاء، أغسطس ٢٦، ٢٠٠٨

9 - حكايات مسافر .."الأكراد قادمون"

يوليو 1984

دعاني أحد الأصدقاء الأكراد لزيارته بمدينة السليمانية ، ورغم رغبتي الشديدة لزيارة تلك المدينة غير أنني كنت متردداً للغاية ، فالحرب العراقية الإيرانية لاتزال مشتعلة بضراوة وقصف المدن والقرى - خاصة الحدودية - متبادل بين الطرفين بهمجية غريبة فيما عرف بحرب المدن ، ولم تكن الأمور مع الأكراد - أيضاً - هادئة فحوادث القتل والإختطاف كثيرة وحملات الكراهية وعدم الثقة متبادلة بين الطرفين ويبدوا أنه لن يكون لكل ذلك نهاية قريبة.
أجمع كافة أصدقائي من المصريين والعراقيين - عرب وأكراد - أنه ليس هناك مبرراً للقلق فالطريق إلي السليمانية آمن وتحت السيطرة وكل ماعلي هو السفر قبل الغروب بفترة تكفي للوصول قبل حلول الظلام تحسباً لأي هجوم يحدث علي السيارات المارة والذي غالباً مايحدث بعد الغروب، كما نصحني الكثيرون أنه إذا ما سمعت صوت طلقات نارية فكل ماعلي أن أنبطح بباطن السيارة التي تقلني .
- من الواضح أن الأمور آمنة بالفعل .
- إنبطح بالسيارة ولن يحدث شئ، فهم غالباً يطلقون الرصاص من مسافات بعيدة وإذا كنت سعيد الحظ وبعيداً عن منطقة المنحنيات فلن يصيبك أنت أو السيارة أي مكروه .
- المسألة إذن تعتمد علي الحظ ؟
- قلت لك أنهم يطلقون الرصاص من فوق الجبال ومن مسافات بعيدة للغاية كما أن أفراد الجيش يلاحقونهم باستمرار، المهم ألا تتصرف بشكل خاطئ خاصة وأنت بمنطقة المنحنيات فالطريق خطر في تلك المنطقة الجبلية وكثيراً من السيارات هوت إلي أسفل الوادي .
- بالفعل أمان ، وأي أمان .

فضلت عدم السفر بسيارتي والسفر بأحد المكروباصات المغادرة إلي هناك، وربما كان تفكيري بأن مايمكن أن يحدث لي سيحدث لغيري والعكس صحيح طبعاً، نوع من الحسابات التي تجلب الطمأنينة والهدوء .
ومن الغريب أن السائق أو أي فرد آخر لم يردد أي نصيحة عما يتوجب عمله إذا ماداهم السيارة والركاب أي خطر، وأحسست من وجوه الركاب الصامتين أن الجميع علي دراية بالموقف، ولعل هذا هو سبب صمتهم. يبدوا أن الناس - في العراق - اعتادوا التعايش مع أجواء الخطر والرعب باعتباره قدراً لا مفر منه. لا أتذكر أن هناك أحداً كان يتحدث بصوت عال، أو أن السائق حاول أن يشغل راديو السيارة أو المسجل، لم يكن هناك سوي الصمت وسحب دخان السجائر الكثيفة .

استغرقت الرحلة زمناً طويلاً يزيد علي الخمس ساعات، ومع الوقت راحت الطبيعة تغير من شكلها وثيابها من أراضي صحراوية منبسطة وجرداء إلي جبلية وعالية تزحف عليها الخضرة بلا ترتيب وبلا اهتمام واضح من العنصر البشري. حتي ملامح الإنسان تغيرت هي الأخرى وأيضاً زيه. أخذ الزى الكردي الشهير يظهر، وبين الحين والآخر كانت مجموعات التفتيش من الأكراد العاملين مع الحكومة توقف السيارة ويقومون بفحص هويات الركاب، وعلي البعد كان هناك آخرون مدججين بأسلحتهم الآلية لحماية الطريق.

اقتربنا من السليمانية فبل الغروب بوقت كاف ومع ظهور معالمها راحت أصوات الركاب في الظهور، وارتسمت بعض الابتسامات الواهنة فوق الوجوه المتعبة، أدار السائق كاسيت سيارته لتتعالي موسيقي وأغنيات كردية هادئة جميلة. انشغل أحد الأكراد مستمتعاً بالترجمة لي، وبعربيتة الركيكة علمت أنها تتحدث عن الشوق للحبيب البعيد، كان الرجل يضع يده فوق قلبه مردداً بضعة كلمات، وراح يكررها مراراً حتى يطمئن أنني قد فهمت مقصده، ربما كان يود أن يقول لي:
- الحب مشكلة، ورغم كل تلك القسوة فنحن نحب وقلوبنا ضعيفة ورقيقة وليست قاسية كالحجر مثل اؤلئك العرب من أهل بغداد.
- الحب يا سيدي يمس كل القلوب، وهو لا يفرق بين قلب العربي والكردي . القلوب صنعة الله.
- لا أعني العشق بين الرجل والمرأة فقط. أعني أن قلوبنا مفتوحة بالحب للكل. لا يمكنني التفسير لعله يمكنك أن تلمس ما أعنيه بنفسك .
وعدت الرجل أن يكون هناك بيننا لقاء آخر لاستكمال الحديث، كان سعيداً للغاية ووعدني بأن يعرفني علي العديد من أصدقائه، وراح يلح علي بقبول دعوته للغذاء بمنزله .

في موقف السيارات وجدت صديقي ينتظر، كان يسلم علي بحرارة مهنئاً بسلامة الوصول. وراح يشد علي يد رفيقي بالسفر متحدثاً معه بالكردية. علمت أنهما أصدقاء. شرح صديقي لي أن حادث إطلاق رصاص قد وقع لأحد السيارات قبلنا بعدة ساعات، وأن هناك العديد من الضحايا. صدق حدسي إذن، وهذا هو سر الوجوم والصمت المطبقين علي الركاب. فمثل تلك الحوادث ينتقل خبرها فور وقوعها، ومعظم الركاب والسائق أيضاً كانوا علي دراية بالحادث، والجميع كانوا علي يقين بأن الطريق غير آمن بالشكل الكافي. ومع ذلك فقد بدا أن الجميع لم يجدوا مفراً غير أن يتعايشوا مع الخطر ومع بعض الأمل بأنه قد لا يأتي .
.
القاهرة. شتاء 1997

الأحد، أغسطس ٢٤، ٢٠٠٨

8- حكايات مسافر ".. العمارة أول محاولة للفهم " ( تكملة )

طباعنا "أشبه بالطقس. تراه تارة هادئاً، وبدون مقدمات يتغير إلي شئ أشبه بنار جهنم، وفجأة يتحول إلي طقس ممطر. وتظل السماء تمطر لأيام. كيف يكون ذلك، الله وحده هو الأعلم، لكن من المؤكد أن الشخصية العراقية أشبه بطقسها. أتراني قد بالغت".
- عداك العيب ياسيد خلف ، يبدو أن كلامك به شئ من الصحة، وقد سبقك في هذا الرأي كثيرون. صلاح عبد الصبور مثلاً له قصيدة يقرر فيها أن " نفسه " تصبح رمادية حين يكون الطقس رمادياً.
السيد خلف معلم بالتعليم الابتدائي وقد أنتدب للعمل معنا كمدرس بالمدرسة الصناعية الجديدة التي تم افتتاحها بالبلدة. وهو شخصاً لا يمكنك أن تخطئه لطوله الفارع، إضافة لكونه يعمل بالتدريس أو لكونه محسوباً علي طبقة الموظفين فقد كان مجبراً كعادتهم أن يرتدي بذلة كاملة بالرغم من لهيب يوليو. غير أنه كان يترك قميصه وقد تدلي جزء كبير منه فوق البنطلون، ورباط عنقه مفتوحاً بشكل غريب وبعيد عن أية محاولة للأناقة أو التجمل، وكأنه يتعمد إهمال منظره إضافة لأنني لم أراه يوماً منتعلاً حذاء، فقد كان علي الدوام ومع هذا الزى ينتعل صندلاً ضخماً.

كان من السهل أن تجد دائرة الصحبة قد اتسعت لتشمل نماذج أخري عديدة. مديرون لدوائر حكومية، ومدرسون وموظفون. وحين يجتمع الشمل يكون القاسم المشترك للحديث هو مصر والأحوال هناك. إضافة لعشقهم للموسيقي والطرب المصري كبير للغاية، وكنت متعتهم في الحديث عن تحليل كلمات أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد.
ومع ذلك فقد كانت معلوماتهم - هذا الوقت - عن المصريين ليست صحيحة بالمرة، ويبدو أن الأفلام المصرية كانت مصدرهم الوحيد لفهم الإنسان في مصر. كان المتخيل أن الحياة في مصر رقص وغناء وعربدة .
- ألا تفعل النساء في مصر ذلك .
- وماذا يفعلن النساء في مصر .
- يرقصن للرجال بالمنازل .
- في حدود معلوماتي فكل نساء مصر تقريباً مشغولات مع رجالهن في البحث وإعداد الطعام لأولادهم. المشكلة أنك تعمم ماتراه في الأفلام علي الجميع.
ويبدوا أن مثل هذا الرأي أصابهم بخيبة أمل كبيرة، إذ تظل مصر في مخيلتهم مكانا كبيرا يتيح لهم ممارسة الجنس والشعور بالانطلاق كما يحلو لهم.
- لكن في مصر تستطيع الحصول علي النساء وقضاء الليل معهن.
- ذلك أمر وارد في كل مكان فبقدر ماتسعي بقدر ما تحصل. بمعني إنك إذا رغبت في ذلك الأمر في مصر وسعيت له فمن المؤكد أنك ستجده، كما هو الحال هنا مثلاً . أليس بالإمكان أن أترك مجلسي معكم وأنهض للبحث عن امرأة - بمساعدة عراقي ما - من المؤكد أنني سأجد من تقبل نقودي رغم صغر بلدتكم تلك .
ويبدو أن تلك الردود أصابتهم بنوع من الوجوم والصمت. حتى أن أحدهم راح يتمتم :
- صدق ، صدق .

لازلت أري أن مثل تلك الأحاديث تكشف عن الوجه الجاهل للشخصية العربية ، إذ لايعنينا من تقييم أي بلد سوى إمكانية ممارسة اللهو والجنس فيه. ومع ذلك فقد كان هناك تساؤلات أخري أكثر جدية كانت مدار مناقشة ومحاولات للفهم :
- لماذا أوقفتم الحرب مع إسرائيل .
كانت الإجابة علي مثل هذا السؤال - ذلك الوقت - بحاجة إلي قدر كبير من الوعي والإقناع ، ذلك أنه كان الفهم السائد وقتها أن مصر أجهضت الموقف العربي بقبولها وقف إطلاق النار والدخول في مباحثات فض الاشتباك مع إسرائيل .
- لأكن واضحاً وصادقا معكم. من السهل عليكم أن تتحدثوا عن استمرار الحرب في مصر وأنتم هنا تحتسون العرقي، وجميعكم علي يقين أنه عندما سيعود إلي منزله سيجد الصمون ( رغيف العيش ) الأبيض متوفراً لأسرته مع أصناف الطعام الأخرى. في مصر كان شاغلنا جميعاً بجانب الحرب هو مجرد توفير رغيف العيش ولا يهم لونه وإن كان في الغالب لونه أسمر ومختلطاً بالحصى وخيوط الأجولة وحتي الحشرات في بعض الأحيان. لم يكن مهماً كل ذلك، فلا صوت يجب أن يعلو فوق صوت المعركة، وليس علينا سوي تحمل المزيد من أجل كرامة مصر والعرب. وأصبح الأمر الملح هو توفير ذلك الخبز الردئ بأي شكل وبأي طريقة المهم أن نجده اليوم، وغداً تتكرر المحاولة ثانية. لقد كانت تجربة صعبة ومريرة، ومع ذلك فقد أديناها بشرف ورجولة، وقمنا بما يجب علينا عمله. وكان من الواجب علي العرب بدلاً من طرح مثل تلك الأسئلة الوفاء بالتزاماتهم تجاه مصر ومساندتها بشكل فعال.
- لقد ساعد العرب جميعهم مصر.
- ليس بالإمكان نكران تلك الحقيقة، ولكنها كانت مساعدة غير كافية علي الإطلاق. أفهم أننا بمصر قبلنا محاربة إسرائيل نيابة عن العرب، فليس بأقل أن نعيش جميعاً نفس الظروف. ليس مطلوباً أن يشعر العربي في بلده بالحرمان والبؤس الذي كنا نعيشه. لكنه كان بالإمكان أن نقتسم معكم رغيف العيش. وهذا لم يحدث لسبب بسيط أن العرب لايريدون ذلك، ولا يمكنهم تحمل ذلك.
الحرب ليست شعارات ودق طبول. وأي حرب لابد وأن تنتهي - وتبعاً للظروف السائدة - عند مائدة المفاوضات والمباحثات من أجل بدء عصر جديد يلغي ماقبله من مفاهيم وأفكار. ومع ذلك فكل مايمكننى قوله أن الحرب أيضاً ليست بلعبة نمارسها كلما شعرنا بالحنين إلي مفاهيم البطولة والعطاء والتضحية، الحرب ماَسي ودمار ورعب ودماء ونيران تأكل الأخضر واليابس. كل ما أرجوه لكم ولبلدكم أن يقيكم الله شر الحروب وأهوالها.

هل كنت أقرأ المستقبل في تلك اللحظة التي كنت أتحاور وقتها مع مجموعة من الأصدقاء العراقيين حول منضدة عامرة بأصناف الطعام وزجاجات الشراب. ربما، فبعد القليل من السنين إذ بالحرب العراقية الإيرانية تشتعل. وكأنها ذلك المارد الذي ظل حبيساً داخل القمقم دون أن يجرؤ أحد علي إقناعه بالدخول ثانية فيه، والكف عن التدمير والقتل.
وتثبت تلك الحرب صدق ماكنا نؤمن به. ولم يكن من الغريب أن نسمع بعد فترة من بداية تلك الحرب ومع صوت صفارات الإنذار - الذي ينذر بقصف طائرة إيرانية أو صاروخ إيراني سقط فوق أحد البنايات ببغداد - كلمات معبرة من الإنسان العراقي البسيط وهو يردد: " الله يرحمك ياسادات عرفت كيف تحارب وعرفت متي تتوقف".
.
كان المشهد لاينسي ، كان هناك موكباً من الرجال والنساء والأطفال يرتدون زياً غريباً، ويمشون في شوارع البلدة في كرنفال من الألوان. كان أهم مايميز زى الرجال هو البنطلون الواسع الذي يشبه إلي حد كبير بنطلون البمبوطية بمصر، غير أن باقي زيهم ملوناً، وعلي وسط كل رجل شد حزام من نفس قماش غطاء الرأس الملفوف حولها بإحكام. كان لون بشرتهم أقرب للبياض وأجسادهم ضخمة، يمشون بهدوء وإصرار، وفي صمت بالغ وكأنهم يمشون بجنازة. لن أنسي تلك النظرات التي كانت تشع من أعينهم، نظرات حزينة وغاضبة في آن واحد .كانت هذه بداية معرفتي بالأكراد .
- مالذي يحدث ولماذا جاء الأكراد إلي الجنوب؟! .
- تعلم ياسيدي أن أرض العراق واحدة، وأن الأكراد هم في النهاية عراقيون، وليس هناك مايمنع أن يذهبون إلي أي مكان بالعراق والعيش فيه .
- هل هو نوع من الهجرة الجماعي.؟!
- تسطيع أن تقول ذلك .
- أين يعيشون أصلاً.؟!
- شمال العراق .
- وكيف تبدو بلادهم.؟!
- بلادهم جميلة وتشتهر بالجبال العالية الخضراء .
- يبدو أن الطقس هناك معتدلاً .
- الطقس هناك معتدل صيفاً وفي الشتاء تتساقط الثلوج حتى أنها تكسو قمم الحبال .
- هل يتحدثون العربية.؟!
- لا
- هل تمت الهجرة برغبتهم .؟!
- لا
- برغبة من إذن.؟!
- رأي السيد النائب أن ذلك قد يؤدي إلي نوع من الضغط عليهم لتخفيف حدة القتال الدائر معهم بالشمال. نحن – العراقيون - نعاني من تلك الحرب منذ أمد بعيد، وهناك شهيد في كل بيت بالعراق جراء تلك الحرب التي لاتريد الانتهاء .
- تبدو الأمور إذن غير ماذكر. فليست المسألة في حقهم في العيش في أي مكان بالعراق .
- مالذي تعنيه .
- ربما كانت وجهة النظر الحقيقية هي تفريغ الأرض من سكانها الحقيقيين واستبدالهم بآخرين موالين للسلطة .
- وماذا في ذلك، فالسلطة العراقية هي نموذج للسلطة الوطنية .
- هل تعتقد أنهم راغبون بملأ إرادتهم في تبديل جبالهم بسهول العماره مهما كانت المغريات؟!
- فلتأخذ التجربة وقتها ثم نحكم. لماذا أنت متشائم .
- دعني أسألك ، هل تقبل نفس القرار إذا ماصدر لك.؟!
- سأنفذه، مادامت القيادة تري ذلك. وهناك كثيرون ذهبوا للعيش بالشمال .
- هل داخلك يقبل مثل تلك القرارات.؟!
- حين تأمر القيادة فليس هناك اعتبارات للقبول أو التذمر .
- أية قيادة تلك.؟!
- قيادة الحزب والثورة .

لا أستطيع القول بأن هذا الحديث قد دار بيني وبين شخص بعينه، كل مايمكنني قوله أنه حصيلة أحاديث كثيرة وتساؤلات عديدة مع بعض الأصدقاء العراقيين من مختلف التيارات السياسية آنذاك. كما انه يشكل بهذا الترتيب محاولة مني لتسجيل ماحدث ومبرراته السائدة، وهو بهذ1السياق أشبه بحوار بين معارض لما يحدث ومؤيد له .فقد كان هناك بالفعل كثير من التيارات السياسية تموج بها مدينة العمارة، فخلافاً لأتباع الحزب الحاكم ( حزب البعث ) كان هناك الشيوعيون والقوميون إضافة للتيارات الدينية الكامنة. ولم يكن هناك من مؤيد لتلك الأمور سوي أنصار الحزب الحاكم.

ولم يكن من مفر أن ينتهي الحديث - مع أي شخص - دون الوصول إلي أي إجابة مقنعة أو شافية تريحني وتريحه، إضافة لأن الكثيرين صرحوا لي بأن الكثير من تلك التساؤلات لاينبغي للمرء البوح والحديث بها بصوت عال .
كان من الواضح أن الحزب يلف حباله بالتدريج حول رقاب الناس، بحيث لم يعد المرء آمنا علي أي كلمة يفوه بها وسط أصدقائه، أو حتى داخل منزله وبين أولاده. وأصبح أمراً مألوفاً أن يتحاشي الفرد الحديث أو إبداء الرأي علي مسمع من أفراد أسرته خشية الوشاية به أو استدراج أطفاله للبوح بما قال. وبدا أن صدام كان مهتماً للغاية بتنظيم الصبية والمراهقين من مختلف الأعمار، وغسل أدمغتهم علي مهل وبفعالية. ويكفيه عشر سنين حتى يجد خلفه جيشاً كبيراً من خير أبناء العراق علي استعداد تام للتضحية بالروح والدم من أجل الزعيم، ذلك بخلاف كلاب الحراسة الخاصة من أطفال عشيرته والذي برع في تربيتهم - لحد السعار - وتلقينهم استخدام أقصي درجات العنف مع الناس من أجل حمايته هو وأسرته.

ولعلي هنا أود الإشارة إلي أولي خطايا أي نظام للحكم مستبد، فهو ولأنه يحكم قبضته علي مقدرات الناس وأعني وسيلة الرزق ووسائل التعبير، فهو يري أول مايري أن الناس بمثابة قطع شطرنج يستطيع أن يحركها كيفما شاء. وقد ينجح في ذلك إلي حين لكن من المؤكد أنه لن يستطع كسب حبهم أو تأييدهم أو ودهم .

علي كل كما جاء الأكراد دون علم أحد، ودون معرفة من أين جاءوا ولماذا، فقد رحلوا دون علم أحد أيضاً. الله وحده يعلم إلي أين رحلوا بالضبط، إلي قراهم البعيدة وجبالهم العالية أم إلي مدينة عراقية أخري .

أستطيع القول أنني قضيت عاماً كاملاً بالعمارة، ورغم قلة مرتبي وصعوبة العمل، فقد كانت معظم أوقاتي ممتعة ومليئة بمحاولات رائعة للقرب والتفاهم مع الآخرين. وخلافاً لكل ماسمعته عن الناس والمدينة، فقد رأيتهم بشكل آخر. كانوا رائعين، يغلب عليهم البساطة بالفعل، لكنهم علي استعداد لفتح قلوبهم بكل كرم وبالحب والصداقة ومحاولة الفهم لما يدور حولهم .

الجمعة، أغسطس ٢٢، ٢٠٠٨

8 - حكايات مسافر .. " العمارة أول محاولة للفهم "

أخذت قراري بالسفر للعمارة رغم صيحات التحذير الكثيرة من العراقيين والمصريين وكان علي أن أرتب أموري بسرعة للذهاب فقد تعطلت عدة أيام في مناقشة تلك المسألة ولم يعد هناك مبررا لبقائي ببغداد . كل ما كان يشغلني هو أين ذهب ممدوح ولماذا تصرف علي هذا النحو ، وبينما كنت أجهز حقيبتي إذ بوجه ممدوح يطل من فتحة الباب وهو يتحدث بسرعة فتختلط الكلمات بعضها ببعض .
- اسمع عاوز أرجع .
- ترجع فين .
- مصر طبعاً . عاوزين يحدفونى للعمارة .
- وفيها إيه العماره .
- أنا لما عرفت إنك التاني رايح هناك. جيت أشوفك .
- المهم إنت كنت فين الكام يوم اللي فاتوا .
- كنت بادور علي شغل .
- ماحنا جايين علي شغل .
- أنا لاهاشتغل مدرس ولا هاروح العماره واللي يحصل يحصل .
كان علي أن أقنع ممدوح بخطأ تفكيره، وأن عليه التريث حتى يجد عملاً أفضل ، ولم أستغرق وقتاً طويلاً في ذلك فقد أقتنع بحديثي وكان من الواضح أنه فشل في إيجاد عمل آخر وهذا ما سهل من مهمتي. راح ينظف نظارته بهدوء وهو يتمتم " المهم نكون مع بعض.

توجهنا إلي كراج النهضة وركبنا أحد السيارات المتوجهة إلي العمارة، المسافة طويلة والحر يجعل كل الأملاح المختزنة بالجسم تخرج مع العرق الذي سرعان مايجف تاركاً دوائر بيضاء من الملح الآدمي يعلق بالملابس. بينما أسند ممدوح رأسه فوق مسند مقعده وراح في نوم عميق. علي جانبي الطريق كانت هناك مساحات شاسعة من الأراضي مغطاة هي الأخرى بطبقة كثيفة من الملح، وبالرغم من هذا غزو الملح الشرس إلا أنك تستطيع أن تتبين أنها أرض طيبة وجيدة إذا ما تم العناية بها، كنت مستغرقاً تماماً في النظر والتأمل لتلك المساحات الهائلة التي يزحف عليها البوار بإصرار وهدوء. ويبدو أن جاري لاحظ انشغالي فراح يتحدث معي عن تلك المشكلة:
- عفواً إذا قاطعت صمتك .
- لاهي بالصحراء ولا هي بالأرض الزراعية، الملح يكاد يأكلها .
- نعم . وتلك أحد التحديات التي علينا مقابلتها. المشكلة قديمة وعلي مدار السنين لم يجرؤ عهد من العهود البائدة علي فعل شئ .
- في رأيي أن المشكلة فنية بالدرجة الأولي وقد يكون لها وجهها الاقتصادي. فتلك الأراضي بحاجة لشبكة كبيرة للري والصرف.
- لا تنسي الوجه السياسي أيضاً، فحين لاتملك مقدراتك لاتسطيع فعل شئ .
- هذا كلام طيب ، ولكنكم بالفعل تملكون مقدراتكم .
- نعم ، هذا صحيح ، فمنذ تأميم النفط العراقي وكل مشاكل التنمية تستحوذ علي تفكير السيد النائب .
- تقصد صدام حسين .
- صدام حسين . يبدو أنك وافد جديد للعراق .
- عفواً فنحن في مصر نكتفي بذكر الرئيس باسمه المجرد وأيضاً الوزراء نذكرهم بأسمائهم ودون أي ألقاب ، ولا نعتقد - في مصر - أننا بذلك نستخف بهم أو نهينهم. أتعتقد أننا قاربنا الوصول.؟!
- نحن علي مقربة لم يتبق الكثير.
كان واضحاً من سؤالي عدم رغبتي في مواصلة الحديث، كنت علي يقين أن محاولتي للفهم ستجعلني أطرح العديد من الأسئلة المحظورة، مثل من هو صدام ومن أين جاء، وكيف يفكر، وماهي صيغة الحكم في العراق، وماهو الجديد الذي يمكن للسيد النائب أن يفعله. خلال المدة القليلة التي قضيتها ببغداد، أدركت أن نجم صدام حسين في صعود مستمر، وأنه ورغم وجود المرحوم أحمد حسن البكر كرئيس لمجلس لقيادة الثورة وللجمهورية، إلا أن الضوء كان يحوط بصدام بشكل ملحوظ ودعائي وبشكل أقرب للتنظيم المتعمد. وبدا واضحاً أن أسم صدام لابد أن يذكر بشئ من التبجيل وذلك باستخدام مفردات مثل السيد. وقد حدث - بمرور الوقت - نوع من التمادي في ذلك حتى أنه أصبح لزاماً للمواطن العادي وهو يتحدث عن صدام أن يسبق اسمه بلقب السيد، ويعقبه بدعاء له، وكان من الشائع والعادي لأي مواطن عند الحديث عنه أن يبدأ بالسيد النائب حفظه الله.
.
أخيراً وصلنا للعمارة وكما توقعت كانت مدينة صغيرة تبدو النظافة واضحة بشوارعها وقد أغلق الجميع أبوابهم ساعة القيلولة هرباً من حرارة الجو العالية. وجدنا أحد الفنادق البسيطة ، استرعي انتباهي اسمه ( فندق الكويت لصاحبه حنون).تخيرنا غرفة تطل علي الشارع الرئيسي وشاطئ دجلة. كان سعر الغرفة ملائماً. فوجئت بأن صاحب الفندق ورغم حرارة الجو الخانقة يصر علي ارتداء بذلة كاملة، بصعوبة تتبين لونها البني، وربطة عنق فوق قميص أزرق. أخذ يعدد لي مزايا الفندق ويؤكد أن السعر يشمل أيضاً سريرين آخرين للنوم بسطح الفندق، وحين أخبرته بأننا لا نود النوم ليلاً علي السطح ابتسم قائلاً :
- يعني ماتريدوا السراير .
- حلال ياعم عليك .
- أعتقد إنه صعب عليكما المبيت بالغرفه . وقت ماتريدوا السراير خبروني ، بصراحه هأجرها لغيركم ، لكن سمعة الفندق فوق كل اعتبار، حاولوا تناموا بالغرف وألله يساعدكم .
هل جرب أحدكم النوم بأحد الفنادق الصغيرة في أحد مدن الجنوب العراقي وفي شهر يوليو ( تموز ) بغرفة مغلقة ليس بها سوي مروحة سقفية. انه الجحيم بعينه.

كان حنون محقاً فلم نستطع المبيت داخل الغرفة سوي لعدة ليالي قليلة للغاية . كانت ليالي لاتنسي. في الليلة الثالثة أو الرابعة وفور رقودي فوق السرير الساخن رحت أنظر بإمعان إلي المروحة السقفية وهي تئن وتدور دون جدوى . كنت أحدث نفسي بأننا أشبه بتلك المروحة القديمة المتهالكة، ما الجدوى من رحيلي ووضعي في تلك الغرفة الضيقة الساخنة. وبينما أستعد للإجابة علي هذا السؤال محاولاً إقناع نفسي بأن هناك ثمة فائدة من قدومي، وأن هناك فارق كبير بيني وبين تلك المروحة. وقبل أن أصل لنوع من الرضي لوصولي لتلك النتيجة، إذ بي ألمح ( برص ) ضخم للغاية يمشي متلصصاً بجوار اللمبة النيون الملتصقة بالجدار ناظراً تجاهي مقترباً ببطء يثير الهلع من سريري. كان برصاً ضخماَ وشكله مقزز وجلده شفاف ويكشف عن كرش ضخم، للحد الذي تستطيع أن تري بوضوح أحشاءه الداخلية الممتلئة. بالكاد استطعت أن أقول وبصوت عال " ياليلة سودا " ثم نهضت من فوق السرير فزعاً صارخاً طالباً النجدة، لايستر جسدي سوي سروال داخلي قصير، وخلفي كان ممدوح يجري عاريا هو الآخر، ممسكاً بنظارته وآثار النوم بادية عليه .
ويبدو أن حنون وأولاده لم يفهموا الأمر بالشكل السليم. نزع حنون جاكيت البذلة ورمي بالكرافتة خلف ظهره وشمر أكمام القميص الأزرق ونظر تجاهنا مرعوباً :
- حنش بالغرفة .
- ياحنون مش حنش. برص كبير .
- شينو، لؤي روح معاه ياوليدي .
مشي لؤي تجاه الغرفة بتكاسل وهدوء قاتل ثم دخل ونظر حيث كان البرص لا يزال واقفاً مكانه مستمتعاً بالتهام بعض الحشرات . وخرج لؤي ضاحكاً وبنفس مشيته المتكاسلة الهادئة كنا نسير في إثره .
- يابا دا أبو بريص .
وعلت ضحكات حنون ومن حوله من زبائن الفندق الذين كانوا يتابعون الموقف باهتمام بالغ . اقترب مني حنون وراح يفهمني - وهو يكتم ضحكاته - أنه لاضير من أبو بريص، وإنه غير مؤذ، ولايقترب من الآدميين .ربما لخشيته منهم أو لأنه "يقرف". وفي كل الأحوال فهو غير مؤذ علي الإطلاق.
- يعني إيه ياحنون .
- يعني لاتخاف .
رسمت علامات الشجاعة وعدم الخوف فوق وجهي وأجبته:
- مش خايف ياحنون. أنا ما خافش غير من ربنا. بس مش ممكن أنام مع برص .
أكد ممدوح علي كلامي وراح يتأتأ هو الاَخر:
- احنا مانخافش غير من ربنا.
- لؤي خد ياوليدي البخاخه رشه .
أخذ لؤي بخاخة مملؤة بمبيد حشرات وراح يدفع بحماس المكبس عدة مرات في وجوه من حوله من الزبائن وحين وجدهم يفرون من أمامه اطمئن لعملها. دخل الغرفة ونحن خلفه. أطلق عدة رشات من المبيد تجاه البرص الذي فهم علي الفور أنه غير مرغوب فيه فتحرك ببطء وكسل فوق الجدار، وظل ينظر إلينا، وكأنه يسخر مني ويتوعدني بالمجيء ثانيةً إلي أن خرج خارج الغرفة .
بعد ذلك جاء حنون ليطمئن أن كل شئ علي مايرام .
- تدرى ، هذا فندق محترم. وقد اعتقدنا أنه حنش . ماذا يقولون .
- مين .
- الناس بالخارج . لا شئ يمكن كتمانه في هذا البلد .
ولم يكن بالإمكان إقناع حنون بأن أبو بريص أيضاً يمكن أن يسئ لسمعة الفندق .

كانت جدران الغرفة تنفث بلا هوادة مخزونها الهائل من السعير، والمروحة السقفية لاتفعل أي شئ سوي تقليب الهواء الساخن وإعادته لجسدي المنهك من الحر وعدم النوم. كان يفصلنا عن سطح الفندق جدار يعلوه حاجز سلكي. تركت - دون جدوى - باب الغرفة مفتوحاً علي أمل أن تأتي بعض النسمات الليلية الباردة، ، كل ما هنالك أن نزيلا ً بسطح الفندق اكتشف أن الغرفة بها حمام خاص فاقتحمها دون استئذان.
اضطررنا لإغلاق الباب ثانية، فأصبحت الغرفة أشبه تماماً بأحد أفران الخبز. مع قرب الفجر ارتديت ملابسي وخرجت للشارع ورحت أتمشي. كانت هناك بعض النسمات الرقيقة تأتي علي استحياء لكنها كافية لأن أشعر بكم هو الفارق. أخذت قراري بأن أبيت منذ ليلتي التالية بالسطح وعدت مسرعاً لمقابلة حنون الذي ظل يضحك وهو يردد بضعة كلمات واصفاً حر الجنوب.
- وماذا عن ممدوح .
- لا يرغب بالنوم علي السطح .
- يعني سرير واحد . آخر كلام .
.
من الغريب أن ممدوح رفض تماماً فكرة النوم بسطح الفندق وراح يتأتأ بعدة جمل، فهمت منها أنه ومهما كانت حدة الحر فلن يغادر الغرفة، بل وأحكم إغلاق بابها حتى لايتكرر ماحدث ثانية.اكتشفت بعد ذلك كم كنت أحمقاً حين رفضت النوم بالسطح، فحين يأتي الليل وتبدأ نسماته الباردة في القدوم لاتشعر إلأ بنوع لذيذ من الاسترخاء والهدوء وفوقك السماء صافية وجميلة ومملوءة بكل أنواع النجوم الناصعة. كنت كل مساء أصادق إحداهن ولازلت حتى الآن وكلما نظرت للسماء الواسعة أجدهن بانتظاري، فأبعث إليهن بسلامي وأتمتم في صمت بأماني التي لم تجد حتى الآن مرفأ الأمان. وزادت المتعة بصحبتي لراديو صغير كان باستطاعته أن يسمعني إذاعات مصر وغيرها، كما راحت أغاني عبد الحليم وفريد وعبد الوهاب والست تغوص في أعماقي محركة الشجون والأسى. كان صوت عبد الحليم ينساب قوياً دافئاً ونبرة حزن خفيفة تغلفه فتمس القلب ، وأردد معه بكل الشوق لمصر:

لولا النهار في جبينك .
لولا الورود في خدودك .
لولا الأمان في وجودك .
ماكنت هويت ولا حبيت .
ولا حسيت بطعم الحب ،
ياعمري .

نعم " لولا الأمان " تلك القيمة الغالية والنادرة التي يفتقدها المصري خارج بلاده. كنت أسأل نفسي دوماً مالجديد في تلك الكلمات وتلك الموسيقي، فكل ذلك كثيراً ما سمعته بالقاهرة دون أن أهتم أو تصيبني تلك الانفعالات. يبدو أنه الحنين للوطن والأهل والحنين للصديق والحنين للحبيبة.

كانت عربات الشرطة تتجول بشوارع المدينة ببطء يثير الدهشة، وقد نصب رشاش آلي علي قاعدته في صندوق العربة وخلفه كان أحد الجنود يقف منتصباً في توتر جاهزاً لتنفيذ الأوامر.

ومع ذلك كانت المدينة تموج بالحركة والحياة. كان السوق الشعبي بشكله العراقي التقليدي يتوسط المدينة وقد غطي سقفه بقماش أسود كثيف لحجب الحرارة العالية بينما تدلت بعض المرواح السقفية بطول السقف، الدكاكين عامرة بالسلع التموينية والأقمشة الشعبية الملونة. وخارج الدكاكين كان باعة الخبز، والجبن والسمك يقفون أمام بضائعهم يسامون بلا ملل المشترين ومعظمهم من النسوة الذين يغطون رؤوسهن وأجسادهن بالعباءة السوداء.
يملك نساء العمارة أجمل العيون، ورغم حاجز العباءة فهن يسمحن لها بالتطاير لتكشف عن جمالهن وروعة أجسادهن الفائقة الأنوثة .يقولون أن أجسادهن " فائرة " و " تنضج مبكراً " بفعل الحر الذي يكسب التمر حلاوته ويزيد من العسل المخزن بداخله.