الأربعاء، ديسمبر ٠٣، ٢٠٠٨

تقمص الشخصية في المسرح ...

.
تقابلت خلال إجازتي الأخيرة مع اثنان من ممثلين المسرح النمساوي. فيرنر بريكس، وجوركيوري سبيرج. الأول يعمل ممثلا http://www.sobieszek.at/sites/A_KuenstlerC_Videos.php محترفا ويقدم عروضه في مسارح اتفق علي تسميتها بمسارح الكباريه وهي مسارح منتشرة بمعظم المدن الأوربية وليس لها علاقة بالكباريه الليلي وكما نفهمه. فهي مسارح صغيرة عدد كراسي المتفرجين محدود وربما لا يزيد عن المائة. وهي مسارح تعني بتقديم الجديد من اجتهادات الممثلين والفرق الصغيرة، والتي يري القائمون عليها أنها تتمشي مع اهتمام المشاهد ومتعته.
الجميل في الأمر هو اهتمام المشاهد بمتابعة برامج تلك المسارح، وما يعني ذلك من أن تلك المسارح تكسب الكثير من وراء بيع بطاقات الدخول للمشاهدين. وهذا يفسر انشغال الممثل الدائم بالترحال لكثير من المدن الأوربية لتقديم أعماله.
برع فيرنر في تقديم أعماله الكوميدية علي شكل منولوج داخلي، وقد اختار لنفسه شخصية الإنسان الأوربي العصري المهموم دائما بضغوط العصر وتعقيداته النفسية والتكنولوجية ايضاً. في أحد مونولوجاته أو معاناته قدم شخصية رجل يحاول وضع رسالة إجابة اتوماتيكيه لهاتف مكتبه، وعليه أن يبدأ الرسالة فور استماعه لصفارة التنبيه، وعليه أن ينهيها بعد عدة ثواني محددة وقبل صفارة التنبيه التالية، المشكلة تبدو بسيطة للغاية وكلنا تقريبا مررنا بها لكنها بالتأكيد لن تكون كذلك مع إنسان عصبي ومتوتر ولا يستطيع أن يتوافق مع أجهزة التكنولوجيا وصفارات البدء والنهاية. في أحد شخصياته الأخرى يقدم شخصية مريض نفسي بعيادة أحد الأطباء النفسيين ومشكلة هذا المريض انه لا يستطيع الاسترخاء والتوقف عن الحديث، فهو لا يستطيع أن يتوقف عن الكلام والنظر في ساعته وإظهار توتره الدائم. ولا يستطيع الاستجابة لطلب طبيبه المعالج بالاسترخاء والتوقف عن الكلام لدقائق معدودة.

الممثل الآخر جوركيوري سبيرج ممثل محترف أيضا لنوعية أخري من الأعمال . فهوما يمكن أن نطلق عليه ممثل تراجيدي وأعماله تقدم من خلال فرقة مسرحية مشهورة وفوق احد المسارح الهامة التي تأتي في المقام بعد المسرح القومي بفينا. وقد لعب جوركيوري العديد من الأدوار الهامة مثل أحدب نوتردام وهاملت، وهذا يشير لنوعية المسرحيات التي تقدمها الفرقة التي يعمل بها.
.
سألت الاثنان. ما هو تأثير الشخصيات التي يؤدونها علي حياتهم الخاصة؟ بمعني هل ينسحب تأثير تلك الشخصيات لما بعد إسدال ستارة النهاية للمسرحيات أو الأعمال التي يؤدونها.؟!! فكما هو معلوم هناك مدرستان، الأولي وهي تهتم بالتقمص الكامل للشخصية أو ما يسمي بالتمثيل من الداخل، والمدرسة الأخرى تهتم بالجانب الحرفي لأداء الممثل وفهمه للشخصية، بحيث يكون الممثل نفسه حياديا معها وقت تأديته لتلك الشخصية، وهو ما يطلق عليه التمثيل من الخارج . الأمر الهام انه لا علاقة بكل ذلك بإجادة الممثل إذا ما تقمص ولعب الشخصية من داخله أو لم يتقمص وأدي دوره وفق فهمه ولعب الشخصية من خارجه. أريد أن أقول أن الإجادة ينبغي أن تكون واحدة، إذا ما تحدثنا عن ممثلين محترفين يفهمون ويقدرون الشخصية التي يؤدونها.

الفنان الكبير عمر الشريف من أنصار المدرسة الثانية. التمثيل من الخارج، وهو يري أن التمثيل عمل مثل أي عمل يلزمه الكثير من التدريب والفهم والقراءة والحفظ، ثم يأتي الدور لتمثيل الشخصية. وبعد الانتهاء من ذلك لا ينبغي للشخصيةأن تظل ( راكبة ) الممثل، فقد انتهي العمل وعلي الممثل أن يغادر المسرح أو الأستوديو لمنزله وللمحيطين به بشخصه الحقيقي.

ولعل المسألة تكون أسهل مع ممثلي السينما. فالشخصيات التي يؤدونها لا تتكرر كل ليلة بنفس تكرارها اليومي والرتيب في المسرح، كما وأن تنفيذ اللقطات في السينما يتيح قدرا معقولا من الراحة للمثل وعدم السماح للشخصية بالتغلغل داخله. ومع ذلك فهناك الكثير من ممثلين السينما ( تركبهم ) الشخصية التي يؤدونها للدرجة التي يعانون منها. من المعروف أن احمد ذكي كان ضمن أولئك الفنانين الذين تتعايش الشخصية معهم حتى بعد انتهاء التصوير. وضمن الحكايات التي تقال عن أحمد ذكي معاناته من شخصية ضابط المباحث المحبط في أحد أفلامه ( زوجة رجل مهم ) والذي يصر علي تقمص شخصيته ( ضابط المباحث ) حتى بعد فصله من العمل - ذلك في أحداث الفيلم - ويبدو أن الشخصية ظلت لاصقة به بعد الفيلم أيضا.

المدهش أن الفنان الكبير عمر الشريف يحكي عن يوسف وهبي عكس ما كنا نعرفه. فقد كنت أظن أنه أحد أساتذة التقمص من ( الداخل ) خاصة في المسرح. فيأتي عمر الشريف ليوضح أن هذا الفنان الكبير كان عكس ذلك تماما. فقد كان واعيا لحدود الشخصية التي يمثلها، كما أنه كان من الذكاء والخبرة بحيث كان يقودها بالشكل الذي كان يكسب معه دائماً حب وتقدير المشاهد.

ومما يقال أيضا عن أصحاب مدرسة التقمص من الداخل، أن الفنان جورج ابيض وهو أحد رواد المسرح في مصر كان أستاذا في تقمص الشخصية التي يؤديها، وكانت له طقوس لمعايشة تلك الشخصية قبل دخوله لخشبة المسرح حتى تسيطر عليه بالكامل. كان يصرخ: سخنوني سخنوني .، ثم يهرول داخلا لخشبة المسرح. وفي احد المرات اندفع بل وعي طالبا التسخين أو المعايشة أو الدعم أو المدد، وإذا به يصطدم بالديكور فيقلبه رأسا علي عقب، ويسدل الستار لإعادة ترتيب الديكور، وتسخين الممثل من جديد. ومن يتذكر فيلم الحرب والسلام بنسختيه الروسية والأمريكية سيجد مثالا لذلك خاصة لشخصية الضابط النبيل في كل من الفيلمين.

أعود لرأي فيرنر وجوريجوري. كما أسلفت بأن فيرنر يؤدي في الغالب شخصية الإنسان العصري المتوتر والمهموم دائما بالسرعة والوقت والأجهزة والعلاقات المعقدة. ويبدو أن تلك الشخصية قد أثرت عليه وعلي شكل تعاملاته اليومية مع المحيطين به، مما استدعي ذهابه بالفعل لأحد الأطباء النفسيين، الذي نصحه بالراحة التامة والبعد عن العمل لفترة، والإدراك العقلي بأن ما يقوم به من عمل هو لساعات محدودة وتتم فوق خشبة المسرح، وما عدا ذلك فيجب أن يكون طبيعيا.

الممثل الآخر جريكوري ينتمي للمدرسة الثانية ( التقمص من الخارج ) مما يعني انه يدرس جوانب الشخصية جيدا بحيث ينتهي تأثيرها فور مغادرته خشبة المسرح. وبالرغم من ذلك فهو يعترف بأن هناك شخصيات يظل تأثيرها عالقا أو راكبا.!! لمدة من الوقت، فهو لا ينسي تأثير شخصية أحدب نوتردام، وكانت تتطلب منه وضع ماكياج خاص لتلك الشخصية. وكأنه بالأحري يرتدي جسدا من الكاوتش والبلاستيك فوق جسده ليقارب في الوصف الشخصية الحقيقية لأحدب نوتردام القبيح الهيئة والأصم وصاحب العيون الجاحظة، فضلا عن حدبة الظهر والتشوه الكبير في شكل جسده. ومع كل تلك المعاناة فقد كانت المعاناة الأكبر من طريقة النطق للشخصية حيث أستوجب الأداء أن يشهق أثناء الكلام كلازمة للأحدب في طريقته في الكلام. ومن شاهد النسخة القديمة للفيلم يدرك ما أعنيه. علي كل يبدو أن تلك الشهقة الطويلة أثناء الحديث ظلت ملازمة لجوريكوري لفترة حتى بعد أن أنتهي من أداء هذا الدور المعقد والمركب.
.

ليست هناك تعليقات: