الاثنين، ديسمبر ٢٢، ٢٠٠٨

بعد أن خلق الله الرجل والمرأة ..

.
.
يخيل إلي أن الله حين خلق الرجل - ومن بعده خلق المرأة - أنه جاء بكتلة من الطين وقسمها قسمان أو بالأحري شطرها. وكان الجزء الأكبر للرجل، فهكذا اقتضت مشيئته. وانتصب الرجل واقفا مزهوا وهو يردد بأن الله لم يعدل في القسمة، وأنه – ويا لغبائه – وباعتباره المخلوق الأكبر كتلة وجسارة وقوة فقد نوي أن يقيم العدل ويحفظ مكانة الله، ويصحح ما أخطأ فيه، ولو استدعي الأمر إن يقاتل ويقتل ويدمر ويحرق وينهب.

أما الكتلة الأصغر، أو المرأة، فقد وقفت تراقب بخوف ووجل ما يحدث من الرجل. ابتسمت ثم أخرجت قنينة عطر صغيرة من صندوق خشبي مطرز بالرسوم والألوان الجميلة كان الله قد تركه بجوارها هدية لها. وأخذت تمسح بالعطر حول رقبتها وصدرها، ثم أخذت تلف في إيقاع راقص حول الرجل. تقترب منه وكأنها تبتعد، وحين كانت تبتعد كانت تقترب. حتى أن الرجل وقف مبهورا وراح يتمتم بكلمات غامضة، ولم يقو علي متابعة تهديداته فقد استغرق تماما في مشاهدة المرأة وهي تلف عقدا من الزهور البرية الجميلة حول رقبتها.

أما الله فيخيل إلي أنه كان ينظر اليهما وهو يضحك مستمتعا بما صنع. ثم قال لهما: اذهبا، رغم مابكما من تناقضات فأنتما لن تنسيان أبداً أنكما من ذات النفس وذات الروح ونفس الجسد، قد كتبت عليكما وقدرت لكما أن الحب والرغبة في الالتئام والوصال هو قدركما.
.

الأحد، ديسمبر ٢١، ٢٠٠٨

أول درس ...

.
هو درس بسيط للغاية، وبقدر بساطته بقدر ما كان عظيم التأثير في شخصيتي وربما في كل حياتي. كنت بالمرحلة الإعدادية ( المتوسطة ) بالصف الثاني. وجاء مدرس الرياضيات العجوز تسبقه حكايات مرعبة عنه زرعت الخوف والرعب داخل قلوبنا الخضراء آنذاك. وقلوبنا كانت بالفعل كذلك، وبالتأكيد فكل شيء قد تغير مع الوقت.
.
ضمن الحكايات التي سبقت مجئ هذا الأستاذ أنه يتعاطى الأفيون ولا يمكنه العمل دون أن يستحلب الأفيون طوال اليوم الدراسي. حتى أنهم أسموه (أبو افيونه)، وأنه قاس مع التلاميذ ولا يتورع عن ضربهم بعصا غليظة تصاحبه علي الدوام. ولكم أن تتخيلوا رعب الصف بأكمله ونحن نتنصت علي وقع أقدامه، أو أي صوت قد يصدر عنه قبل دخوله الصف. ويجئ الأستاذ وهو محمل بالعديد من الأدوات الهندسية الخشبية الضخمة. أهمها مثلث كبير للغاية وفرجار ضخم. لا ادري لماذا رحت أراقبه في كل صغيرة وكبيرة. كان أبيض اللون والأكيد أن جذوره تركية، وشعره غزير يكسوه الشيب. وكان يصر علي ارتداء بذلة وحيدة طوال العام دون أي اهتمام بأي نوع من الأناقة أو الترتيب. اكتشفت فيما بعد أنه أقرب في الشبه لاينشتاين في الشكل والملبس والتصرفات.
.
ولا أدري إن كان اينشتاين مثل أستاذنا الذي كان مشغولا دائما بشئ ما في فمه، كان يلوكه علي مهل وهو يتطلع إلينا مبتسما. لم يكن أفيونا كما زعموا فقد جاءت مناسبة ليحكي بنفسه عشقه لحبات القرنفل الجافة وأخذ يشرح لنا فوائد تلك البذور في تطهير الفم واللثة وأيضا فهي تضيف رائحة ذكية. وربما لغرابة شخصيته ابتدعوا له حكاية الأفيون. المهم ابتدأ الرجل معنا شرح أول درس، وكان واضحا غاية الوضوح في عمل اتفاق مسبق معنا بما يرضيه ولا يرضيه. أتذكر انه قال: دائما ما يأتي الألف قبل الباء. فلا يعقل أن أسمي مثلثا (ا . ج . ب) إنما الأصح أن أسميه (ا . ب . ج) . أرجوكم تذكروا هذا دائما. الباء تأتي دائما بعد الألف والاثنان بعد الواحد. عكس ذلك سأغضب وسأعاقب من لا يحترم النظام والمنطق.

كان الرجل يستخدم أدواته الهندسية الضخمة ببراعة وخفة ودقة وكأنه يرسم بها ولا يسطر خطوطا صماء. كان منظما ودقيقا وبسيطا في شرحه وتفسيره حتى لأعقد الأمور الرياضية علي عقولنا وفهمنا. بالتأكيد نسيت كلمات هذا المدرس العبقري، لكنه نجح معي أن أتعلم درسا رائعا. كيف أرتب أولوياتي بحيث لا تسبق الباء الألف. أتذكر وأنا بالجامعة - وقد نسيت تماما كلمات هذا المدرس - أنني أخذت قرارا بتأجيل الحب والتعرف علي الفتيات. لم يكن لا الوقت ولا ظروف الحياة تساعد علي مثل تلك الرفاهية لأمثالي، فاعتبرت أنها تأتي في المرتبة التالية من حيث الأهمية، وأن الأولوية أن أنتهي من دراستي وأتخرج وأعمل. واعترف انه لا يمكن للحياة أن تسمح لنا بتنفيذ مثل تلك القوانين بشكل دقيق وحسابي، ولكنني حاولت قدر استطاعتي. وحتى الآن حين أجد نفسي منشغلا في أمر ما قد لا أكون (أستحقه)، أجدني أستعيض عن هذا الانشغال بتأدية عمل آخر أنشغل فيه بكل دقة وإصرار وتركيز بحيث يعوضني عن انشغالي بالأمر الأول. وهذا ما حدث معي قيل يومين.

أستاذي العجوز ، لك كل تقديري واحترامي وتحياتي ، وليرحمك الله إن كنت حيا أو ميتا.
.

الخميس، ديسمبر ١٨، ٢٠٠٨

2 - قباقيب الجواري وحذاء الزيدي .. " تكملة "

اعتقد أن هناك الكثير أيضا من الجوانب والموروثات التي لا بد وأن نؤشر عليها عند اعتراضنا وعدم قبولنا للنضال بالأحذية والقباقيب. فلا يمكن أن نركز فقط علي الجانب الأخلاقي لمهنة الصحفي والتي تحكم تصرفاته وتجعل من قلمه – وليس من حذائه - الأداة الفاعلة للتعبير وممارسة دوره في الحوار وتبادل الآراء.
.
دعنا نتخيل صورة عبثية لشكل حوار داخل أحد البرلمانات، وذلك بالتراشق بالأحذية وصولا لضرب الأعضاء بعضهم البعض، وحتى نفاذ الذخيرة وأعني الأحذية. فيمكنهم حينئذ من استخدام أحزمة بنطلوناتهم في استكمال الحوار والوصول إلي قرارات تصب في خدمة الوطن والمواطن. وبالتأكيد ستجد لافتة رئيسية عند مدخل القاعة وبها البنود المنظمة "للحوار الديمقراطي". أولها يحرم استخدام أي نوع آخر من الأسلحة عدا الحذاء والحزام. وبالبند الثاني اشتراطات لنوع الحذاء ومقاسه، والتأكيد بعدم وضع أية زوائد حديدية أو حتى بلاستكية خاصة بمقدمة الحذاء. والبند الثالث يحرم ويجرم استخدام الجزء العلوي من الحزام لأسباب يعلمها الجميع. أما البند الرابع فيطلب من الأعضاء "الموقرين" وبأدب جم الخضوع للتفتيش للاطمئنان علي مراعاة العضو لكل ذلك.
.
الصورة عبثية بالفعل وقاتمة، لكنها الأقرب للفهم والتطبيق لواقع الحوار بيننا وكأحد الدروس المستفادة من واقعة حذاء الزيدي.فحين لا يتمكن الآخر من قبولي أو أتمكن من قبوله بالحوار وممارسة الديمقراطية الحقيقية، فالحذاء والحزام و.. وما يتبع ذلك من تبادل للشتائم والألفاظ المعبرة هو البديل الشرعي والمنطقي.
هناك إصرار عجيب وغريب من بعض الكتاب المؤيدين لرشقة الحذاء علي وضع فهمنا للمسألة في كفة، ووضع حذاء الزيدي في الكفة الأخرى. ثم أن لديهم الإصرار علي اليقين بأن كفة الحذاء هي الراجحة والغالبة وهي المعبرة في مقام الزهو والانتصار، وصولا لمقام إذلال "العدو" فهي الناجعة والموجعة عملا وفعلا وتأثيرا في مواجهة قوي الشر والظلام.!!
.
والملاحظ أن معظم الكتاب المؤيدين - للضرب بالحذاء أو لرشقة الحذاء أو للحوار عموما بالأحذية - يفترضون افتراضات هي في معظمها خاطئ، ومع ذلك فهم يبنون ما بقي من تفكيرهم علي تلك الافتراضات. وبديهي أن مايصلون إليه من نتائج هو في مجمله خاطئ أيضا – لفساد المقدمات – حتى لو كانت تلك النتائج تمثل اتهامات من وزن العيار الثقيل المصحوب بشتائم مثل "الخيانة وعدم الوطنية". وهي اتهامات لو صدقت لكان مكاننا الآن داخل قفص حديدي بأحد قاعات محاكم الجنايات بتهمة تدنيس الحذاء المقدس.
.
ومع أنني أكدت أنني لست مؤيدا للسياسة الأمريكية بالمنطقة برمتها، فهم يرون أننا - الرافضين للحوار بالأحذية والقباقيب – نستغل ذلك الموقف لتجميل الوجه القبيح وتلميع صورة بوش، فيما يري آخرون أنه موقف مغرض يهدف للدفاع عن التواجد الأمريكي بل والسياسة الأمريكية برمتها.
.
ويري الكثيرون أيضا أننا غفلنا عن ذكر الدافع الحقيقي لرشفة الحذاء. وهم يعنون الاحتلال الأمريكي للعراق وما خلفه من دمار وقتل للأبرياء، فيما يستغرب البعض اتهامنا لمثل هذا التصرف بعدم التحضر وعدم اللامبالاة وسوء الفهم وتقدير الأمور، وهي أمور جميعها تنطبق علي فعل غزو الأراضي العراقية واحتلالها.
وبتقديري أن مثل هذا الاتهام هو نوع من خلط الأوراق المتعمد. ولا يهدف حقيقة إلا لاستنفار الحناجر بالهتافات العالية واللعنات الساخنة لكل من يخالفهم الرأي والرؤية. فلا علاقة بالمرة بين الجهاد ضد الأمريكان أو غيرهم بالتراشق بالأحذية أو حتى "الردح" بصوت عال. كما وأن أبواب الجهاد الحقيقية مفتوحة ومعروفة للجميع، ولا أعتقد أن من بينها باب كتب عليه " لا يعبره إلا من يلبس حذائه بقدمه وينوي الجهاد به."
.
وفيما أعلم – وقد أكون مخطئا – أننا لسنا بحاجة لإذلال أيا من كان حتى لو كان عدوي. فالإذلال وفيما أعلم لا يندرج بقائمة وسائل مقاومة المحتل. بل أن أدبيات كثيرة للمقاومة تتيح لنا قدرا معقولا من الفهم بأننا كلما وضعنا عدونا في مكانه وحجمه السليم كلما استفدنا أكثر بمعرفة خباياه ونقاط ضعفه. الإذلال عمل غير إنساني وغير متحضر سواء كان من بوش وعساكره أو صدام وأشاوسه أو الزيدي وحذاءه إن كان يهدف لذلك حقيقة.!!
.

الأربعاء، ديسمبر ١٧، ٢٠٠٨

1 - قباقيب الجواري وحذاء الزيدي ..

أيمكنك مشاركتي مرارة وعبثية التفكير فيما يحدث. هل سيغير حذاء الزيدي من واقع الاحتلال الأمريكي للعراق.؟! وهل ما فعله الزيدي يمكن أن يندرج تحت مسمي العمل البطولي والوطني فضلا عن الأخلاقي.؟!!
أكتب في موضوع يشغل أفكار معظم العامة بالتأييد المطلق، وفي نفس الوقت انقسم الخاصة من المثقفين حول أنفسهم بين مباركة رشقة الحذاء في وجه بوش وبين الرافضين لهذا التصرف.

بداية أعود بالذاكرة لحادثة القبقاب الشهيرة. وهي حادثة نفذت بواسطة الضرب بالقبقاب وحتى الموت، والتي راحت ضحيتها حاكمة مصر"شجرة الدر" حيث قام بعض "الجواري" بضربها بالقباقيب حتى الموت داخل احد الحمامات. والقبقاب يصنع من خشب الشجر وهو أشبه "بالشبشب" ويستخدم بالحمامات الشعبية - بشكل خاص – ويصدر صوت "طرقعة" أثناء المشي، وهو بهذا الوصف ولحجمه وكتلته يعد أداة مثالية للقتل.

وعي كل فعمليات القتل والتصفية كانت أمرا شائعا بين المماليك، ويبدو أنه لم يكن ممكنا تغيير أي سلطان منهم إلا بواسطة قتله بطريقة أو بأخرى. ويستمر الحال علي ماهو عليه، حيث يأخذا الحاكم الجديد في عد ما مر من أيام حكمه منتظرا النهاية المحتومة. ولم يغير مقتل شجرة الدر أو غيرها من طبيعة حكم المماليك والتربص بعضهم ببعض. وذلك ما يعنيني فالضرب بالقبقاب حتى الموت أو الإعدام فوق الخازوق أو قذف المهزوم من فوق أسوار القلعة كل ذلك لم يغير من تلك الطباع الهمجية شيئا، فضلا عن عدم تغيير النظام والفكر السائدان في التعامل.

وهذا تحديدا ما أرمي إليه بعد حادثة قذف الزيدي الصحفي العراقي بحذائه تجاه الرئيس بوش. فمن الخطأ أن نقول ماذا قبل وماذا بعد واقعة الحذاء. فلن يتغير شئ بالمرة.!! وتتبقي الواقعة باعتبارها عملا لا يمثل، ولا يمكن أن يمثل الشعب العراقي بأكمله. وهو عمل غير متحضر وغير مهذب بالمرة ولا أستطيع قبوله بأكثر مما تحتمل تلك المعاني.
ما يحدث – الآن - بعد الواقعة هو نوع من العنتريات الفارغة التي لا تحمل أكثر من الصياح والتهليل حتى مطلع الفجر، ثم يعود كل شيء لطبيعته وكما كان يحدث قبل الواقعة، في انتظار رشقة حذاء آخر أو حتى الضرب بالقباقيب حتى الموت.
.
وما أشجعنا من شعوب وساسة وكتاب ومنافقين حين نتصدر بكل الهمة والعزم "للفارغ والتافه"، وننصت لصوت حذاء خاو، لنريح عقولنا التائهة والضائعة من الفهم، وترتفع ضحكاتنا عاليا أشبه بضحكات "الحشاشين" الذين خلقوا لأنفسهم عالما وهميا لا يجوز لأحد من العقلاء أو الأسوياء دخوله أو مناقشتهم فيه. وهو بديل مريح للغاية، حيث المقاومة بالأحذية والهتافات العالية والخطب النارية والأهازيج وطلقات الرصاص في الهواء.

لست مع بوش ولا أنا مؤيد للسياسة الأمريكية. لكنني لن أكون مؤيدا أيضا لرشقة حذاء الزيدي ولن أنساق وراء الجموع التي تريد أن تصنع من ذلك الحذاء رمزا للحرية والمقاومة وشيم الأبطال والأحرار والأشاوس وتجعل من الزيدي بطلا قوميا أجدي بالإتباع والمباركة والهتاف باسمه.
هذا رأيي أقوله ورزقي علي من لا يغفل ولا ينام.
- يتبع -

الأحد، ديسمبر ٠٧، ٢٠٠٨

تقمص الشخصية في المسلسلات التلفزيونية. "نور الشريف"

.
وإذا كان الفخراني باستطاعته الترجل من سيارته والذهاب فورا لموقع التصوير أو الأستوديو ليؤدى أحد أدواره، فالأمر يختلف تماما مع نور الشريف. نجح نور الشريف وباقتدار في تأدية العديد من ألأدوار المختلفة. وقد رأينا تلك المقدرة تصاحبه منذ شبابه وخطواته الأولي في السينما. أدي دور الحبيب في فيلم رومانسي جميل (حبيبي دائما)، كما أدي دوراً مميزاً في ( الأخوة الأعداء )، والعامل البسيط في (سواق الأتوبيس)، ولا ننسي دوره المميز في فيلم (كتيبة الإعدام) وأيضا في فيلم (العار).

القاسم المشترك لبراعة نور الشريف في تأدية أي دور يعرض عليه هو الماكياج. ولو تأملت وجهه في الأدوار المختلفة التي تحدثت عنها أو غيرها لوجدت أنه يهتم بتفاصيل دقيقة للغاية يرسمها الماكياج فوق وجهه ليقترب من الشخصية. فما أبعد المسافة بين وجه نور نفسه، ووجه (الممثل) " الحاج البرعي " في "لن أعيش في جلباب أبي"، أو وجه شاب رومانسي حالم، أو وجه سائق أتوبيس، أو وجه شخص خارج من السجن بتهمة لم يرتكبها ويتربص به الجميع للقضاء عليه.
.
كثير من ممثلين السينما يهتمون للغاية بالماكياج، حتى السينما العالمية، الممثل الأمريكي الكوميدي (ايدي ميرفي) له مقولة معبرة ومفسرة لهذا الاهتمام فهو يقول: بدون وجود الماكياج لا يمكنني تأدية الكثير من الحركات والانفعالات بشكل أكبر وأدق ومرضي. ويبدو أن الممثل - بدون الماكياج اللازم - يشعر بأن ثمة شئ هام ينقص ادائه للشخصية التي يؤديها. هل هذا يعني أن الماكياج يساعد الممثل في عملية التقمص.؟! يبدو الأمر كذلك.

في المسلسل التلفزيوني الناجح جماهيريا (لن أعيش في جلباب أبي)، والذي كان يبدأ بتتر يصاحب سير نور الشريف في أحد الشوارع المزدحمة، مرتديا جلبابا فقيرا به الكثير من التمزقات ، ويضع غطاء رثا فوق رأسه، ودون أن يفقد وجهه قسماته الأصلية فقد تغير تماما لوجه أحد الفقراء المطحونين وهو يمسك " رغيف خبز" لاصقا إياه فوق صدره. وتلك الشخصية متواجدة باستمرار وتستطيع العين أن تلتقط العديد من المعدمين وبنفس الهيئة التي أحال الماكياج و"والملابس" الممثل إليها. المشهد كان طبيعيا للغاية وليس هناك أي هرج أو مرج من جمهور الشارع المزدحم والذي عادة ما يصاحب تصوير المسلسلات أو الأفلام، وما يعني ذلك من تواجد النجوم بالشارع ووسط الناس. حتى أنني – ولا زلت – علي اقتناع تام بأن كل ما فعله المخرج هو تخبئة الكاميرا عن الأعين. فلن يلتفت أو يهتم ولن يعرف أي فرد من جمهور الشارع الحقيقي بأن الماشي وسطهم هو الممثل نور الشريف بعدما نجح وباقتدار - وبمساعدة الماكياج - في تقمص تلك الشخصية المعدمة والمحبطة واليائسة والتي لا تملك من قوت يومها أكثر من رغيف خبز.

حتى لو لم يهدف الماكياج لتغيير معالم وجه الممثل، ليوظفه ويقربه للشخصية المطلوبة تأديتها، فهو يؤدي وظيفة أخري غاية في الأهمية، وهي جعل الوجه مقبولا للكاميرا. فمن المعروف أن هناك وجهاً لا تقبله الكاميرا بحيث يظهر علي شاشة السينما أو التلفزيون ليس به حيوية، ومختلفا تماما عن وجه صاحبه. أعتقد أن ذلك موجود أيضا في التصوير الفوتوغرافي. فكثيرا ما نسمع تعليقا يقول عن صورة أحد الأشخاص: لقد ظلمته الكاميرا.

والقاعدة أنه ما من ممثل - حتى لو كان وجهه مقبولا من الكاميرا - يصور دوره أحد الأفلام أو المسلسلات دون أن يضع علي الأقل القليل من المساحيق بمعرفة أخصائي الماكياج كي تتصالح الكاميرا مع هذا الوجه ولا تظهره وكأن لا حياة فيه، خاصة للقطات القريبة والتي تظهر تفاصيل دقيقة وخافية.

الماكياج - خاصة مع استعمال الإكسسوارات الحديثة لأجزاء الوجه - يساعد الممثل في تقمص الشخصية. وإذا أضفنا إلي ذلك تأثير الملابس فلا يبقي سوي فهم الممثل نفسه للشخصية، وقربه منها للحد الذي أشرت إليه بأنها قد تسوقه أو يسوقها، أو كما يقولون يركب الشخصية أو تركبه.
أتحدث بطبيعة الحال عن ممثلين كبار بحجم نور الشريف . فهو فنان قدير وحرفيته في الأداء عالية ، ومما يساعده علي ذلك نجاح الماكياج لرسم تفاصيل وجه الشخصية بدقة كما حدث في " مسلسل أديب " حيث قام بلعب الشخصية الرئيسية لشخص وجهه ملئ بآثار مرض الجدري .

والملاحظ أن نور فطن عن وعي أنه "كبر في السن"، فابتدأ يستعمل الملابس التي تناسب عمره. وأغلبها – علي الأقل – في المسلسلات التي شاهدتها له أخيرا – البذلات الواسعة بشكل ظاهر كما في مسلسل (حضرة المتهم أبي).

شاهدت أخيراً لنور الشريف مسلسل (الدالي) الذي جسد فيه شخصية رجل أعمال قوي وذو نفوذ وهو أيضا كبير عائلة (الدالي) الثرية والمهددة بزوال اسمها. لعب نور الشخصية بذكاء وحس إنساني راق، وطوال المسلسل كان مشغولا للغاية بين أعماله المتشعبة ومحاولاته حل معظم مشاكل تلك العائلة. اكتفي نور في هذا المسلسل بتقصير شعره، وخلافا لما هو معتاد كان يمشطه للأمام، إضافة للبذلات الواسعة كما نوهت.

نور الريف ممثل رائع بكل المقاييس، وهو حرفي أو صنايعي كما نقول، فهو ينشغل بكل كبيرة وصغيرة لإحكام المسك بالشخصية التي يؤديها، مستغلا " الماكياج" والملابس لزيادة قبضه علي تلك الشخصية حتى لا تفلت منه في أقل تصرفاتها. أضف لذلك أنه نجم جاد ومنضبط للغاية، فهو يحترم مواعيد عمله ويعد نفسه مسئولا عن العمل ككل.

ليس غريبا لفنان بكل تلك القدرات مثل نور الشريف أن يتقمص الشخصية من الخارج، بحيث يضيع أي تأثير لها علي حياته الخاصة، وشكل تعاملاته مع الآخرين فور خروجه من الأستوديو أو موقع التصوير. وإن كنت أشعر أنه يكون بحاجة للقليل من الوقت للتصالح وللإمساك ثانية بشخصيته الحقيقية.
...
ورأي جميل من الكاتبة " مني الشماخ " تقول فيه بعنوان: أصل وصورة:

لاشك أن العمل الدرامي كل متكامل لابد من توفر النجاح لكل عناصره حتى يمكن تعميم الحكم بالنجاح عليه. ويبقى العامل الأساسي والنهائي وهو الممثل الذي تتجمع من خلاله عناصر العمل الفني وللماكياج دور هام في اقناع المتلقي بالشخصية ورسم ملامحها في ذهنه ،ويتعاظم هذا الدور عندما يجسد العمل الفني سيرة ذاتية لشخصية حقيقية ،عاشت أو لازالت تعيش في ذاكرة الجمهور،وسأضرب مثالا وان كان يمثل تجسيد الشخصية في السينما الا أنه يعبر عما أقصده بوضوح: الفنان الراحل أحمد زكي وتجسيده لشخصيات الزعماء:جمال عبد الناصر، أنور السادات ، وأخيرا الفنان عبد الحليم حافظ.
فعلى الرغم من التباين الشديد في مظهر كل شخصية من الشخصيات السابقة، فضلا عن اختلافهم مع ملامح الفنان المؤدي إلا أن هذه الاختلافات تلاشت أمام براعة الماكياج الذي نجح (مع قدرة الفنان على التجسيد) في إقناع المشاهد أنه يرى أصل الشخصية لا صورتها..

نعم كلامك سليم ورأيك صحيح. ويجب في نفس الوقت ألا ننسي أن الراحل أحمد زكي كان ممثلاً بارعاً، أو " صنايعي " بدرجة امتياز في تقمص الشخصية من الداخل. بمعني أنه وبعد فهمه لحدود الشخصية التي كان عليه أن يلعب دورها كان يندمج معها للدرجة التي كانت تلك الشخصية تقوده في أبسط تصرفاتها. ولدرجة أنه كان يعاني الأمرين - من بعض الشخصيات التي لعب أدوارها وترك لها حرية اقتياده حيث تشاء وليس حيث هو يشاء - حتى ينتهي تأثيرها عليه، أو حتي يتمكن من التخلص منها ومن تأثيراتها عليه في حياته الفعلية. من تلك الشخصيات شخصية ضابط " المباحث " في فيلم " زوجة رجل مهم ". الذي يحاول الحفاظ علي الأمن والنظام بطريقته الخاصة والمحبط للغاية حين تغيرت كل مفاهيم التعامل مع المقبوض عليهم " سياسياً " إلي النقيض من طريقته في العمل تماماً.

كان الحل الدرامي - في الفيلم - لذلك المأزق بأن جعله كاتب الرواية والسيناريست يستمر في " تقمص " شخصية ضابط المباحث القوي حتى بعد فصله من الخدمة، ورغم معرفة من حوله بذلك. وفي الحياة العامة وبعد انتهاء التصوير غطت تلك الشخصية علي تصرفاته " الحقيقية " حتى أصابه نوع من الإكتئاب الشديد. لاحظ المفارقة في كل ذلك، ففي العمل أمام الكاميرا "لبست" شخصية ضابط المباحث وقبل طرده من الخدمة الممثل (أحمد زكي)، وكان عليه أن يؤدي بنفس الكيفية حتى بعد طرده من الخدمة. فظل تاركاً تلك الشخصية مسيطرة عليه وتقوده لصنع الأحداث رغم علم الجميع بأنه لم يعد ضابطاً أو قوياً كما كان.
ثم نأتي للمرحلة الأصعب، وأعني المرحلة التي تلي العمل والتصوير في الفيلم حيث ظلت تلك الشخصية تقود الإنسان والفنان أحمد زكي في حياته العادية وفي تعاملاته مع الناس. وكما ترين كان علي الفنان أحمد زكي أن يتقمص تلك الشخصية أو بالأحري تتقمصه تلك الشخصية ثلاث مرات وليس مرة واحدة. وبطبيعة الحال يصبح ذلك أمراً مزعجاً باستمرار تأثير تلك الشخصيات عليه لفترات قد تطول أو تقصر بعد انتهاء التصوير. خاصة مع تكرار مثل تلك الشخصيات " المركبة " في أفلامه والتي كان عليه أن يؤدي أدوارهم أو يعيش كل شخصية في أدق خلجاتها كما كان يفعل.

تلك هي سمة من سمات الممثلين العظام. طبعاً هناك الكثير يمكن قوله عن أعمال هذا الفنان الكبير تأييداً لكل ذلك. في هذا الفيلم تحديداً كثيراً ما أتوقف أمام الطريقة التي كان يتحدث بها أحمد زكي أو ضابط المباحث. ففي أحد الحوارات بينه وبين زوجته " ميرفت أمين " أستخدم طبقة صوتية بارعة لتعبر عن مدي الإحباط والحزن والهزيمة للشخصية، رغم أن التغيير في طبقة الصوت لم يتعد الثوان القليلة لكنه كان مقنعاً ومؤثراً.

وبالمقابل أجدني أقف موقفاً مخالفا للشخصيات التاريخية التي قام بتأدية أدوارها. جمال عبد الناصر والسادات وعبد الحليم. وبإيجاز شديد أري أنه نجح للغاية في تقمص شخصية الزعيم السادات رغم أنه قبض علي شخصيته من الخارج وليس من الداخل بالخلاف لطريقته المتبعة في تقمص الشخصية. الكتابة عن هذا الفنان تشكل موضوعا جميلاً قد أعود إليه .. الله يرحمه
..
القاهرة. 24/03/2009

...



السبت، ديسمبر ٠٦، ٢٠٠٨

تقمص الشخصية في المسلسلات التلفزيونية .. يحيي الفخراني

.
استسلمت – أخيرا - لقدري ولما هو مكتوب لي أو علي، واكتفيت بالرقاد أمام شاشة التلفاز أتابع العديد من المسلسلات الدرامية. والتي كانت لكثرتها وتكرار الكثير من الممثلين للعمل بمعظمها رد فعل سيئ عندي، لدرجة أنني كنت اكتفي بمشاهدة حلقة من مسلسل ما دون أن أجد رغبة أو متعة في مواصلة المشاهدة لحلقة أخري لمسلسل آخر. وكنت كثيرا أحدث زوجتي – رفيقتي – في المشاهدة والتعليق بأن الممثلين يقفزون بخفة ومهارة من مسلسل لآخر، لدرجة أن الأمر اختلط علي ولم أعد بقادر علي معرفة من يكون أبو من ومن هي الأم وما هو سر المشكلة إذا كانت هناك مشكلة أصلا. وكانت زوجتي تعالج الأمور وتوضحها لي بصبر ومهارة، وتقنعني بأنني أتحدث عن مسلسل آخر غير الذي نشاهده، بالرغم من وجود نفس الممثلين في كلاهما. علي كل لا أعتقد أن حالتي الصحية أو مزاجي قادران علي مساعدتي بالكتابة عن أفكار تلك المسلسلات، أو المقارنة بينهم أو اختيار مسلسل كأفضل ماتم عرضه. فالحقيقة أن مثل المقارنات هي للاستهلاك والإثارة، ولا بأس بها مادام هناك من يغذيها ومن يرحب بالتطوع بالإجابة، فعالم الفضائيات رحب وواسع وليس سهلاً أن تحجر علي أفكار أو طرق عمل تلك الفضائيات، حتى لتلك التي تبدو أكثر تخلفا وجهلا وسماجة في عرض موادها للمتفرج المسكين.
.
كان من ضمن المكاسب التي اعتقد أنني جنيتها من الرقاد أمام التلفاز ومشاهدة العديد من تلك المسلسلات والأفلام هو زيادة فهمي لموضوع تقمص الممثل للشخصية التي يلعب دورها. سأستعرض هنا بعض أسماء الممثلين الكبار وأتحدث عن طريقة فهمهم وتقمصهم. بطبيعة الحال القائمة طويلة إلا أنني سأكتفي بالحديث عن: يحيي الفخراني ونور الشريف وعادل إمام. وربما تذكرت غيرهم لأكتب عنهم في وقت لاحق.
.
يحيي الفخراني ممثل قدير ومحبوب من جماهير المشاهدين، ولديه قبول قوي وحضور رائع لدرجة أن جزء كبير من نجاح أي عمل يكون مشاركا فيه ينسب له. وهو كممثل يستطيع بإجادة وبساطة أن يلعب أي دور يسند إليه. وما يهمني في الحديث عن يحيي هو قدرته الفائقة والرائعة علي تجنيد وتسخير حجمه الضخم وكتلته الكبيرة التي تبدو غير متسقة، وغير جميلة بالمرة. فهي كتلة مملوءة بالشحوم وليس هناك أي تناسق في خطوط جسده، للحد الذي أتخيل أن صاحب مثل هذا الجسد المترهل يجد صعوبة بالغة في الحياة في التأثير والإقناع وكسب الود من الباقين، فما بالك ويحيي يجني كل ذلك من المتلقي وهو يؤدي ببساطة وتلقائية، ودون أدني حرج منه في إخفاء تضاريس جسده المترهل. بل العكس فإحساسي أنه يتعمد أظهار ذلك وتسخيره (الحجم والكتلة) وهو يتقمص الشخصية التي يمثلها.

شاهدت للفخراني مؤخرا عدد من المسلسلات الجميلة منها: الليل واَخره، ويتربى في عزه، ونصف ربيع الآخر. في الليل واَخره يلعب الفخراني دور الصعيدي التاجر الثري والشقيق الأكبر للعديد من الأشقاء الذين أكملوا تعليمهم وحازوا المناصب الرفيعة ليصبحوا نجوما في المجتمع. والمسلسل يتحدث عن الخلافات التي تنشأ بين هذا النموذج وأخوته. وربما كان التعميم مفيدا ولعل ذلك أحد حسنات هذا المسلسل فمثل هذا النموذج يعيش وسطنا، وهم كثرة وقد لا نشعر بهم إلا في حالة حدوث مشاكل جسيمة وخلافات في الرؤي معهم. وفيما كان أخوته يغيرون ملابسهم - خلال مشاهد المسلسل - ببذلات أنيقة لم يفارق جسد الفخراني الجلباب الصعيدي والكوفية. وهو زي علي بساطته يشكل الزى الشعبي الصعيدي. والحق أنه كان متمشيا مع جسده الضخم بحيث أن هذا الجسد أضاف الكثير من المهابة والأناقة والإقناع وهو يرتدي ذلك الزى البسيط. بطبيعة الحال أجاد الفخراني في الحديث باللهجة الصعيدية وأتقنها، كما أتقن في البوح بمشاعره الداخلية التي كان يفجرها بين الحين والآخر وهو يستجير طالبا العدل والرحمة وأن تتفهم عائلته مشاعره واحتياجاته.

لا يمكن أن يعد الفخراني ممثلا جميلا، فإضافة للحجم الكبير وكتل اللحم، والشحوم الهائلة التي تغطي جسده، فوجهه ليس جميلا بالمرة بمقاييس جمال الرجال بطبيعة الحال. فهو يملك أنفا ضخما للغاية لا أعتقد أن له مثيلا بكل مصر، كما أنه لا يهتم علي الإطلاق بتسريحة شعره أو محاولة عمل "نيو لوك" لهذا الوجه الضخم. لكن المؤكد أنه أيضا يملك وجها ليس دميما، بل هو وجه معبر وصافي القسمات، ويستطيع أن يعبر بهذا الوجه خاصة صفاء العينان ونغمة صوته المميزة للكثير من الانفعالات الإنسانية بدرجاتها وأنواعها المتباينة.

وربما هي سمة للفخراني بأنه لا يعتمد علي الماكياج في تغيير الخطوط العامة لشكله أو مظهره الخارجي. وأنه ولذكائه الشديد ولحسه الفني الراقي وفهمه لطبيعة الشخصية التي يتقمصها كسب كل تلك "الفوضى" الجسدية وحتى شكل وجهه ذو الأنف الضخم، كسبه أيضا في مد جسر من القبول والحب والإقناع بينه أو بين الشخصية التي يلعبها وبين المتلقي.

في مسلسل " يتربي في عزه " لعب الفخراني دور الابن الأكبر الثري والمدلل للغاية كإبن وحيد " لماما نونه " والتي قامت بتأدية دورها الممثلة القديرة كريمة مختار. في هذا المسلسل نجح الفخراني أن ينقل إلي المتفرج سخافة دلع الابن الأكبر، فما بالك وإذا كان هذا الابن تجاوز الستين وله عدة تجارب فاشلة في الزواج، والعديد من الأولاد أكبرهم ضابط شرطه صارم الطباع وأصغرهم شاب التحق حديثا بركب الإرهاب. تركيبة صعبة ومزعجة رغم أن خيوط الأحداث في المسلسل كانت تنساب بهدوء وعقلانية وبشكل إنساني جميل. .
لا يحاول الفخراني المبالغة في تأدية أدواره، ففي ذلك المسلسل اكتفي باظهار الشخصية من الخارج في تعاملاتها مع الآخرين، وبملابس تناسب تلك الشخصية "تي شيرتات واسعة وبنطلونات جينز"، والتحرك بخفة ومهارة شاب في العشرين. ورغم كل المعوقات الجسدية التي تحدثت عنها، فالفهم السليم للشخصية مكنه من قيادتها ببراعة ويسر، وأيضا أن يخرج لنا أيضا بعضا من أسرارها الدفينة الداخلية، كموقفه عند موت أمه في ذلك المسلسل. وهو بهذا ينجح في التقمص حتى لو كان من الخارج في أن يقود الشخصية بإيجابية وبراعة ومهارة وحرفية عالية. وبالرغم من سلبية الشخصية فقد تعاطف معها الجمهور. لسبب وحيد أن الفخراني هو الذي أدي تلك الشخصية، بحيث لم يفقد حب وتعاطف المتلقي – كالعادة - وكما يحدث مع أي شخصية أخري يؤديها.
.
الفخراني أستاذ محترف في التقمص " من الخارج " ووسائله كثيرة تبدأ بفهمه لطبيعة الشخصية ثم تكييف إمكانياته الجسدية لإظهار ملامح تلك الشخصية ثم الاستعانة بحرفيته العالية في "الحوار والحركة والنطق". وأخيرا الاهتمام الكبير بنوع الملابس والتي غالبا لا تزيد عن ملابس بسيطة للغاية، لكنها تؤدي دورها في قبولنا لحركة تلك الكتلة الكبيرة من العاطفة المتدفقة والوهج الخلاق .
.

الأربعاء، ديسمبر ٠٣، ٢٠٠٨

تقمص الشخصية في المسرح ...

.
تقابلت خلال إجازتي الأخيرة مع اثنان من ممثلين المسرح النمساوي. فيرنر بريكس، وجوركيوري سبيرج. الأول يعمل ممثلا http://www.sobieszek.at/sites/A_KuenstlerC_Videos.php محترفا ويقدم عروضه في مسارح اتفق علي تسميتها بمسارح الكباريه وهي مسارح منتشرة بمعظم المدن الأوربية وليس لها علاقة بالكباريه الليلي وكما نفهمه. فهي مسارح صغيرة عدد كراسي المتفرجين محدود وربما لا يزيد عن المائة. وهي مسارح تعني بتقديم الجديد من اجتهادات الممثلين والفرق الصغيرة، والتي يري القائمون عليها أنها تتمشي مع اهتمام المشاهد ومتعته.
الجميل في الأمر هو اهتمام المشاهد بمتابعة برامج تلك المسارح، وما يعني ذلك من أن تلك المسارح تكسب الكثير من وراء بيع بطاقات الدخول للمشاهدين. وهذا يفسر انشغال الممثل الدائم بالترحال لكثير من المدن الأوربية لتقديم أعماله.
برع فيرنر في تقديم أعماله الكوميدية علي شكل منولوج داخلي، وقد اختار لنفسه شخصية الإنسان الأوربي العصري المهموم دائما بضغوط العصر وتعقيداته النفسية والتكنولوجية ايضاً. في أحد مونولوجاته أو معاناته قدم شخصية رجل يحاول وضع رسالة إجابة اتوماتيكيه لهاتف مكتبه، وعليه أن يبدأ الرسالة فور استماعه لصفارة التنبيه، وعليه أن ينهيها بعد عدة ثواني محددة وقبل صفارة التنبيه التالية، المشكلة تبدو بسيطة للغاية وكلنا تقريبا مررنا بها لكنها بالتأكيد لن تكون كذلك مع إنسان عصبي ومتوتر ولا يستطيع أن يتوافق مع أجهزة التكنولوجيا وصفارات البدء والنهاية. في أحد شخصياته الأخرى يقدم شخصية مريض نفسي بعيادة أحد الأطباء النفسيين ومشكلة هذا المريض انه لا يستطيع الاسترخاء والتوقف عن الحديث، فهو لا يستطيع أن يتوقف عن الكلام والنظر في ساعته وإظهار توتره الدائم. ولا يستطيع الاستجابة لطلب طبيبه المعالج بالاسترخاء والتوقف عن الكلام لدقائق معدودة.

الممثل الآخر جوركيوري سبيرج ممثل محترف أيضا لنوعية أخري من الأعمال . فهوما يمكن أن نطلق عليه ممثل تراجيدي وأعماله تقدم من خلال فرقة مسرحية مشهورة وفوق احد المسارح الهامة التي تأتي في المقام بعد المسرح القومي بفينا. وقد لعب جوركيوري العديد من الأدوار الهامة مثل أحدب نوتردام وهاملت، وهذا يشير لنوعية المسرحيات التي تقدمها الفرقة التي يعمل بها.
.
سألت الاثنان. ما هو تأثير الشخصيات التي يؤدونها علي حياتهم الخاصة؟ بمعني هل ينسحب تأثير تلك الشخصيات لما بعد إسدال ستارة النهاية للمسرحيات أو الأعمال التي يؤدونها.؟!! فكما هو معلوم هناك مدرستان، الأولي وهي تهتم بالتقمص الكامل للشخصية أو ما يسمي بالتمثيل من الداخل، والمدرسة الأخرى تهتم بالجانب الحرفي لأداء الممثل وفهمه للشخصية، بحيث يكون الممثل نفسه حياديا معها وقت تأديته لتلك الشخصية، وهو ما يطلق عليه التمثيل من الخارج . الأمر الهام انه لا علاقة بكل ذلك بإجادة الممثل إذا ما تقمص ولعب الشخصية من داخله أو لم يتقمص وأدي دوره وفق فهمه ولعب الشخصية من خارجه. أريد أن أقول أن الإجادة ينبغي أن تكون واحدة، إذا ما تحدثنا عن ممثلين محترفين يفهمون ويقدرون الشخصية التي يؤدونها.

الفنان الكبير عمر الشريف من أنصار المدرسة الثانية. التمثيل من الخارج، وهو يري أن التمثيل عمل مثل أي عمل يلزمه الكثير من التدريب والفهم والقراءة والحفظ، ثم يأتي الدور لتمثيل الشخصية. وبعد الانتهاء من ذلك لا ينبغي للشخصيةأن تظل ( راكبة ) الممثل، فقد انتهي العمل وعلي الممثل أن يغادر المسرح أو الأستوديو لمنزله وللمحيطين به بشخصه الحقيقي.

ولعل المسألة تكون أسهل مع ممثلي السينما. فالشخصيات التي يؤدونها لا تتكرر كل ليلة بنفس تكرارها اليومي والرتيب في المسرح، كما وأن تنفيذ اللقطات في السينما يتيح قدرا معقولا من الراحة للمثل وعدم السماح للشخصية بالتغلغل داخله. ومع ذلك فهناك الكثير من ممثلين السينما ( تركبهم ) الشخصية التي يؤدونها للدرجة التي يعانون منها. من المعروف أن احمد ذكي كان ضمن أولئك الفنانين الذين تتعايش الشخصية معهم حتى بعد انتهاء التصوير. وضمن الحكايات التي تقال عن أحمد ذكي معاناته من شخصية ضابط المباحث المحبط في أحد أفلامه ( زوجة رجل مهم ) والذي يصر علي تقمص شخصيته ( ضابط المباحث ) حتى بعد فصله من العمل - ذلك في أحداث الفيلم - ويبدو أن الشخصية ظلت لاصقة به بعد الفيلم أيضا.

المدهش أن الفنان الكبير عمر الشريف يحكي عن يوسف وهبي عكس ما كنا نعرفه. فقد كنت أظن أنه أحد أساتذة التقمص من ( الداخل ) خاصة في المسرح. فيأتي عمر الشريف ليوضح أن هذا الفنان الكبير كان عكس ذلك تماما. فقد كان واعيا لحدود الشخصية التي يمثلها، كما أنه كان من الذكاء والخبرة بحيث كان يقودها بالشكل الذي كان يكسب معه دائماً حب وتقدير المشاهد.

ومما يقال أيضا عن أصحاب مدرسة التقمص من الداخل، أن الفنان جورج ابيض وهو أحد رواد المسرح في مصر كان أستاذا في تقمص الشخصية التي يؤديها، وكانت له طقوس لمعايشة تلك الشخصية قبل دخوله لخشبة المسرح حتى تسيطر عليه بالكامل. كان يصرخ: سخنوني سخنوني .، ثم يهرول داخلا لخشبة المسرح. وفي احد المرات اندفع بل وعي طالبا التسخين أو المعايشة أو الدعم أو المدد، وإذا به يصطدم بالديكور فيقلبه رأسا علي عقب، ويسدل الستار لإعادة ترتيب الديكور، وتسخين الممثل من جديد. ومن يتذكر فيلم الحرب والسلام بنسختيه الروسية والأمريكية سيجد مثالا لذلك خاصة لشخصية الضابط النبيل في كل من الفيلمين.

أعود لرأي فيرنر وجوريجوري. كما أسلفت بأن فيرنر يؤدي في الغالب شخصية الإنسان العصري المتوتر والمهموم دائما بالسرعة والوقت والأجهزة والعلاقات المعقدة. ويبدو أن تلك الشخصية قد أثرت عليه وعلي شكل تعاملاته اليومية مع المحيطين به، مما استدعي ذهابه بالفعل لأحد الأطباء النفسيين، الذي نصحه بالراحة التامة والبعد عن العمل لفترة، والإدراك العقلي بأن ما يقوم به من عمل هو لساعات محدودة وتتم فوق خشبة المسرح، وما عدا ذلك فيجب أن يكون طبيعيا.

الممثل الآخر جريكوري ينتمي للمدرسة الثانية ( التقمص من الخارج ) مما يعني انه يدرس جوانب الشخصية جيدا بحيث ينتهي تأثيرها فور مغادرته خشبة المسرح. وبالرغم من ذلك فهو يعترف بأن هناك شخصيات يظل تأثيرها عالقا أو راكبا.!! لمدة من الوقت، فهو لا ينسي تأثير شخصية أحدب نوتردام، وكانت تتطلب منه وضع ماكياج خاص لتلك الشخصية. وكأنه بالأحري يرتدي جسدا من الكاوتش والبلاستيك فوق جسده ليقارب في الوصف الشخصية الحقيقية لأحدب نوتردام القبيح الهيئة والأصم وصاحب العيون الجاحظة، فضلا عن حدبة الظهر والتشوه الكبير في شكل جسده. ومع كل تلك المعاناة فقد كانت المعاناة الأكبر من طريقة النطق للشخصية حيث أستوجب الأداء أن يشهق أثناء الكلام كلازمة للأحدب في طريقته في الكلام. ومن شاهد النسخة القديمة للفيلم يدرك ما أعنيه. علي كل يبدو أن تلك الشهقة الطويلة أثناء الحديث ظلت ملازمة لجوريكوري لفترة حتى بعد أن أنتهي من أداء هذا الدور المعقد والمركب.
.