الثلاثاء، مايو ٢٥، ٢٠١٠

الأداء والتطريب ..

..

أحرص كثيراً علي لمسة " التطريب" في أي عمل فني أقتنيه خاصة الغناء. ولعله لهذا السبب أفضل اقتناء تسجيلات أغاني الحفلات للمطربين الذين أفضل الاستماع إليهم. وأعد نفسي محظوظاً إذا حالفني التوفيق وعثرت علي أغنية يؤديها المطرب وهو في حالة "سلطنة" أو "انسجام" وتوحد تام بين عناصر الأغنية وأعني الموسيقي والكلمات إضافة للأداء بطبيعة الحال، والأهم الجمهور أو المتلقي أو المستمع.
من المطربين الذين برعوا في الانسجام والسلطنة وهم يغنون أم كلثوم وفريد وعبد الوهاب وعبد الحليم وطلب وورده وناظم الغزالي وغيرهم كثيرون.
أعتقد أنها "حالة"، ليس بإمكانية أي مطرب الوصول إليها، كما أنه ليس بإمكانية "نفس المطرب" أن يكرر تلك الحالة من السلطنة والانسجام وإلا فسيصبح الأمر كمن يقلد نفسه وستكون سمة التكلف هي السائدة.
هذا يعني أن هناك عبئاً مضافاً يقع علي عاتق مثل هذا المطرب. أولها أن يكون له حضوراً قوياً ويعرف كيف يترجم هذا الحضور المتمثل في "السلطنة والتطريب والانسجام" إلي مايشبه خيوط غير مرئية يشد أو يجذب بها "المتلقي أو المستمع" إلي دائرته وتحديداً إلي المركز أو القلب منها وأعني تجاه المطرب أو المؤدي ذاته. وهذا نوع آخر من أنواع التوحد والانسجام بين المؤدي والمتلقي ولعل هذا يفسر "رد الفعل" الجماعي للجمهور وتردديهم في نفس ووقت واحد كلمات الإطراء والإعجاب والتي قد تختصر في كلمة وحيدة تخرج من قلب كل مستمع لتتحد مع باقي القلوب في صيحة واحدة " الله" .
أود أن أنوه أن حالة التوحد والانسجام ليست قاصرة علي الغناء. نستطيع أن نلمس ذلك في الإنشاد الديني وفي تلاوة القراًن وفي قراءة الشعر وأيضا في المديح والأذكار وحتى قراءة القصة أو الحديث العادي. فبقدر ما يملك المؤدي من حضور، ومعرفته كيف يجد نوعاً من التوحد أو الجذب لمتلقيه بقدر ماتكون براعته في الأداء. ولعل هذا يفسر التفاف الناس حوا أشعار وحكايات الأبنودي وهو يؤديهما بصوته.
لكل هذا أستطيع القول أن تلك الحالة ليست سمة لعصر بعينه، أو موسيقي بعينها بقدر ماهي سمة "لمؤدي" في ساعة محددة للتأدية سواء كان غناءً أو عزفاً أو حديثاً وكما أسلفت. وبعكسه إذا ماسيطر أداء التطريب علي "فترة" بعينها بحيث شملت معظم المؤدين فسيصبح الأمر أشبه بأداء "الحشاشين في أحد جلساتهم" وما يعنيه ذلك من تكلف وتكرار لحد الملل وتقليد غير مستحب.
استمعت مؤخراً "لحالتان" من الأداء لأغنية واحدة. "زوروني كل سنه مره" لسيد درويش. والأغنية تعد أحد علامات الغناء والأداء في عالم الغناء الشرقي. واعتقد أنها تؤدي وفق مايمليه علي المؤدي "زمنه" من ثقافة سائدة وفهم لمعاني الحب ومفرداته.
الحالة الأولي بصوت "بلبل مصر" – كما كان يسمي – "حامد مرسي"، وهي حالة مليئة بالتطريب المبالغ فيه ولحد التكلف، وبالرغم من ذلك إلا أنني أحب الاستماع لتلك الأغنية كما أداها " بلبل مصر". والحالة الثانية لنفس الأغنية بصوت "فيروز"، وهي حالة تفتقد تماماً للتطريب والانسجام والتوحد مع المستمع، ومع ذلك فلها سحرها الخاص ومذاقها الجميل .
...

الأربعاء، مايو ١٩، ٢٠١٠

8 - أيام طويلة ..

..
نمت عدة ساعات، استيقظت بعدها وحالة من الإدراك والانتباه تأتي للحظات قليلة تكون كافية لأسأل وافهم. علمت أن التشخيص المبدئي لحالتي والذي حددته طبيبة الاستقبال الشابة هو "التهاب بالغشاء البلوري" . وقد وضعوني بقسم خاص للتأكد من صحة التشخيص أو غيره مع علاجي بالأدوية اللازمة.والحقيقة أنها طفرة كبيرة بهذا المستشفي الضخم أن يكون هناك قسماً "للأبحاث" للتأكد من تشخيص أطباء الاستقبال أو لتحديد التشخيص المضبوط للحالة ووصف العقاقير التي تناسب كل حالة ثم نقلها للقسم الذي يختص بعلاجها. فهمت أيضاً أن الأمر يستدعي بقائي عدة أيام ثم نقلي لقسم الصدر فنتائج الأشعات والتحاليل تفيد بصحة التشخيص وأن هناك التهاب كبير بالغشاء البلوري، وهناك أيضاً الالتهاب بالفص الأيمن للرئة، وأنهم يبذلون قصارى جهدهم في تشخيص مرضي بشكل موثوق به. سألت بطبيعة الحال عن أسماء المضادات الحيوية التي أعالج بها. علمت أنهما نوعان من المضادات القوية للغاية والتي تعطي في شكل محاليل، بالإضافة لمحلول آخر كمسكن قوي للألم، وكان علي ألا أستعجل الشفاء ، فمثل هذا المرض يأخذ وقتاً طويلاً للعلاج ، وهو يحتاج لصبر المريض وتحمله، لكن سيكون بالمقدور – في النهاية - القضاء علي الميكروب المسبب له. تلك كانت نصيحة هامة رغم أني أعد مريضاً نموذجياً في الصبر وطاعة الأطباء وعدم الاعتراض علي أي شي. كل ما طلبته منهم أن يلاحقوا هذا الألم، ويريحوني منه ، وأن يزيدوني فهماً وتنويراً عن هذا الميكروب. من أين جاء ولماذا اختار صدري تحديداً. وبالنتيجة فلن أغادر هذا القسم لقسم الصدر قبل ثلاثة أو أربعة أيام. وهذا يعني أنني سأقضي تلك الأيام في متابعة النوم وحين استيقظ أكون بصحبة عم عبدالله. لم أستطع – طيلة تلك المدة - تناول أي نوع من الطعام أو الشراب وأصبح مجرد الحديث عن كل ذلك يصيبني بنوع من "القرف" ، كما وأن رائحة أي طعام وأيضاً رائحة الشاي والقهوة والسجائر يسبب لي غثياناً ورغبة في التقيؤ، وما يجره من إجهاد نتيجة لأن معدتي كانت فارغة إلا من المياه، وهي السائل الوحيد الذي كنت أتذوقه واعتبرته بديلاً عن الغذاء. قلت ذلك لزوجتي التي حضرت لزيارتي هي وشقيقتي ومعهما "شوربة" دجاج وبها نصف دجاجة. وأعقبت كلامي بتهديد بليغ لهما بأن أي طعام سيأتيان به لن أقدر علي النظر إليه أو اليهما وسأفضل تركهما لأنام. وسأفعل كما كان "عم أنس" يعمل حين يأتيه زائر لا يرغب في لقاءه، كان ينظر إليه قائلاً وهو يتثاءب: حين أصاب بزائر "دمه ثقيل" مثلك فسأمدد جسدي فوق السرير وأسحب الغطاء فوقه، وسرعان ما أستسلم للنوم حتى أن شخيري يستطيع أن يسمعه كل عابر للشارع المقابل للدار. وكان ينفذ بالفعل كل كلمة يقولها حتى لا يتبقى شيء سوي شخيره وحرج الزائر في البقاء لعدم إزعاج عم أنس النائم. وغرقت أنا الاَخر بالفعل في النوم وأنا أتحدث اليهما، وكان ذلك دليلاً علي جدية تهديدي. ومع ذلك فقد أصرت زوجتي خلال الزيارتان التي تليا تلك الزيارة علي إحضار نفس "الشوربة" ونصف الدجاجة حتى أصابها اليأس فأصبحت تزوني بعد ذلك بدون أن تحضر معها أي طعام.
ومع زيادة ساعات نومي اختلط الليل بالنهار. كنت أشعر براحة حين أنام دون أدني مجهود، وحين أفيق للحظات قليلة لأخذ العلاج أو لأرفع زجاجة الماء لأشرب كنت أجد عم عبدالله مشغولاً بالأكل، وأسنانه القليلة ترتفع وتنخفض بسرعة وهو ينظر إلي شارداً. حاولت دفعه للحديث عدة مرات، وبصوت ضعيف كنت أسلم عليه وأسأله عن حاله. كان الرجل يحدق في باهتمام واضح ويستمع إلي صامتاً وهو يواصل المضغ دون أن يرد علي بكلمة واحدة.
..

الأربعاء، مايو ١٢، ٢٠١٠

7 - أيام طويلة ..

..
استيقظت علي رائحة كريهة للغاية تملأ الغرفة، شعرت بالغثيان ورغبة قوية أن أترك الغرفة وأفر بعيداً عن تلك الرائحة المقززة. حانت مني إلتفاتة لسرير جاري، تسمرت عيناى علي جسده العاري، كدت أصعق لرؤية هذا الجسد، فهو عبارة عن هيكل جلدي منتفخ للغاية لا يتناسب مع حجم الرأس الصغير، والعينان الجاحظتان في فزع. كان هناك ممرض شاب ينظفه بعدما "تغوط علي نفسه". كان الممرض يعمل بهمة وهو يلقي باللوم بصوت عال علي المريض المفزوع. "يا عم عبدالله قلنا لك ألف مره اضغط الجرس حين ترغب في التغوط، سنأتي لمساعدتك قبل أن تبهدل السرير وما عليه وترهقنا لتنظيفك". لم يرد عم عبدالله بكلمة واحدة واكتفي بالتحديق في وفي جدران وسقف الغرفة وعلامات الفزع والخوف ترتسمان علي وجهه الضامر. رائحة كريهة وممرض يصرخ من الشعور بالتقزز وهو ينظف جسداً منتفخاً لمريض عاجز عن الكلام ولا يملك سوي الخوف والفزع. وجدت نفسي أقاوم رغبتي الصبيانية بترك الغرفة وحدثت نفسي بأنني سأشارك عم عبدالله هذا المكان واعتبرت أن هذا القرار هو نوع من الامتحان لنفسي. سألت نفسي " هل سأنجح في هذا الامتحان.؟!! نظرت إلي الوجه الضامر والعينان الجاحظتان ورسمت علي وجهي ابتسامة تشجيع وتعاطف، وطلبت من الممرض أن يقترب من سريري لأحدثه. بعدما ينتهي من عمله، أخذ يرش الغرفة مستخدماً زجاجة معطر للتغلب علي الرائحة الكريهة التي لصقت بكل زوايا وأرجاء الغرفة. كوم ملابس عم عبدالله القذرة وغيرها بملابس أخري نظيفة وأخذ يلبسه إياها بهمة ونشاط ونحن نتبادل الحديث.
قلت له أنني معجب للغاية بنشاطه وطريقته في تمريض عم عبدالله، وقبلها معي – رغم أنني كنت نائماً – إلا أنني وجدته قد علق كيساً للتبول كما علق الأدوية والمحاليل حتى أنني شعرت براحة شديدة لتأثير المسكن القوي والأهم هو قدرتي علي التبول دون ذهاب للحمام. كنت أناديه باسمه الذي استطعت قراءته من "البادج" المعلق فوق صدره، "يا أشرف أنت تدمر هذا المجهود الرائع الذي تبذله وأنت تصرخ في تلك الجثة الممدة أمامك دون قدرة علي الحركة أو الرد". كان ينصت إلي باهتمام وأدب وعقب بكلمات قليلة لكنه اعترف بالتقصير في تلك الناحية. يبدو العمل شاقاً "علي النفس" خاصة في مثل تلك المواقف. وافقته وأعطيته الحق وقلت له لعل أحد الأسباب أنك لازلت شاباً ولم تر الكثير بعد من المرضي وحالة الضعف والهوان والاستسلام المهين للمرض. الموضوع يحتاج لكثير من التدريب والممارسة وقبل كل ذلك الفهم والشعور الطيب تجاه تلك الكائنات الضعيفة والتي كانت يوماً ما تتباهي بقوتها وتدعي أنها كانت رجالاً لايشق لهم غبار أو نساءً يمتلئن بالحيوية، أنظر لعم عبدالله كيف يبدو؟!! وانظر إلي، وضعفي الذي لايمكنني من النهوض من فوق السرير. أنتهي حديثي مع أشرف بكلمات ضاحكة منه لعم عبدالله، الذي ابتسم وهو ينظر تجاهي متخلياً عن علامات الخوف والفزع. اكتشفت أن "عم عبدالله" لا يستطيع الكلام ولكنه يجيد الاستماع والفهم.
كان هناك العديد من زجاجات المحاليل معلقة بأعلا سريري، تتدلي منهما أنابيب شفافة ورفيعة تصل "يكانيولا" مغروزة بزراعي وبها العديد من الفتحات. من الواضح أنهم في مستشفي " عين شمس التخصصي" يتمتعون بحرفية عالية في تأدية أعمالهم والمتمثلة في جودة التشخيص والتمريض والأهم هو وجود نظام محكم للتعامل مع المريض ومتابعة حالته دون أن تشعر من هو الطبيب الذي يشرف علي كل ذلك.
لا بد أن الفجر يوشك علي البزوغ، فخيوط الضوء تتسلل علي حياء من خلال "شيش بلكونة الغرفة"، ومع بزوغ ضوء فجر يوم جديد أزددت تفاؤلاً، وشعور بآمال جميلة تراودني في الشفاء وفي مزيد من الحب والفهم للناس، وعرق كثيف يغمر جسدي لأغرق في نوم هادئ وممتع بعد ساعات طويلة ومرة من العناء والضعف والألم
..