الاثنين، يونيو ٢٨، ٢٠١٠

9 - أيام طويلة ...

.

صحوت ظهيرة اليوم التالي منزعجاً علي صوت عال للغاية لأحدي الممرضات وهي تخبر عم عبدالله بأنه قد تقرر خروجه من المستشفي. وأنهم فد خابروا "أهله" للحضور غداً "لاستلامه". كان الرجل ينظر إليها بدهشة وخوف شديدين ثم يعاود النظر إلي وكأنه يستنجد بي. كررت الممرضة ماقالت وهي ترفع صوتها أعلا كي يسمعها جيداً ويعي ماتقول. ولأول مرة وجدت عم عبدالله ينطق بكلمات قليلة " هل سيأتي أحد من أهلي لاستلامي"؟!!. كرر سؤاله ثم لاذ بالصمت وهو ينظر إلي وقد غمره خوف هائل ارتسم علي وجهه الضامر والحزين. استطعت تفهم خوفه الذي قارب حد الرعب فهو يخشى أن يقرر ذلك النظام المسئول عن علاجه ورعايته "رميه" للخارج، والأدهي ألا يكون هناك أحد من أولاده أو أقاربه حاضراً لاستلامه، مثلما يستلم المرء طرداً أو رزمة لا حياة فيها غير أنها بقادرة علي التأوه والشعور بالألم. وما يزيد الأمر حزناً أنه – وخلال المدة القصيرة التي رافقته الغرفة – لم يكن من زائر يجئ له. ولعله لهذا السبب كان يزداد حيوية كلما جاءت زوجتي وأخوتي لزيارتي وتحيته والسلام عليه. لم يكن يرد عليهم بكلمة مكتفيا بالابتسام والنظر إليهم بتأني ثم معاودة النظر إلي.
ياله من شعور قاتل ويبعث علي الحزن أن يتحول الإنسان إلي "كتلة لا حول لها ولا قوة" يركلها البعض ليستلمها أو يرفض استلامها البعض الآخر.
سألت الممرضة بصوت ضعيف " ولكن الرجل لايزال مريضاً. ليس من حقكم أن تجبروه علي الرحيل دون أن يكتمل علاجه". اقتربت من سريري وحدثتني بصوت أقرب للهمس " ليس له من علاج لدينا. حالته خطيرة، أنها مسألة وقت. فكبده قد تلف تماماً بحيث لم يعد يعمل. وهذا هو سر انتفاخ جسده الضخم ولن يجدي نفعاً أي نوع من العلاجات الدوائية، وبطبيعة الحال فلا يمكن الاقتراب من تلك الحالة جراحياً فبطنه صارت أشبه بالبطيخة الفاسدة، فهي عبارة عن مزيج من الأعضاء التالفة والتي أخذت طريقها للتحلل والفساد. كنت استمع بدهشة شديدة لما تقوله. وجدت نفسي أهمس لها أنا الآخر ودوار هائل يهاجمني معلناً سحبي لمنطقة النوم الآمنة. " يانهار اسود، يعني بطن الراجل صارت مثل "حلة الملوخية الحمضانة". ضحكت الممرضة قائلة "لا يمكننا عمل شئ". قلت بنوع من الإصرار: "ومع ذلك فليس من حقكم "طرده وإعلان هزيمتكم بهذا الشكل المخزي". لا أدري ماهو السر أن يتحول كلامي لنوع من الاهتمام والفهم . فقد وعدتني الممرضة بنقل وجهة نظري لمديرة القسم وربما استطاعت التوصل لقرار آخر. كنت استمع بصعوبة شديدة فيما راح النوم يتسلل إلي لأغفو لساعات.
عرفت فيما بعد أنني صرت طرفاً في مشكلة الإدارة مع عم عبدالله ، لكن وللحق لم تتغير طريقة تعاملهم معي. كل ماهنالك أنهم التزموا الصمت في إخباري بأي جديد ينتظره هذا المريض البائس.
واستيقظ مساءً علي الرائحة الكريهة وشعور برغبة عارمة في التقيؤ لأجد الغرفة مملوءة بعدة رجال يعاونون "أشرف" الذي كان ممسكاً شيئاً ضخما يسحبه من أسفل "عم عبدالله" وهو يسأله إن كان يود إخراج المزيد.!!
الحقيقة أنني في تلك اللحظة وجدت أنني لم أعد أتحمل أي مزيد وأعلنت هزيمتي أنا الآخر، وقررت أنه لا يمكنني الاستمرار بتلك الغرفة ورغبة شديدة تعتريني بتركها حالاً وبأي طريقة، حدثت نفسي – بجدية وانتباه - أنني سأطلب من إدارة القسم لنقلي لغرفة منفردة.
كنت – في نفس الوقت - أشعر بالخجل من نفسي فلم يتعد "الاختبار" الذي وضعت نفسي فيه يومان ولم أعد بقادر علي تقبل أو عدم تقبل أية أعذار لإعلان هزيمتي فكلها مقنعة، وتدفعني للهرب من صحبة ومعايشة مريض بجواري. كنت أتفلسف "علي نفسي" بحجج مقنعة للغاية، فأنا أقدس خصوصية المريض ولي طقوس – عند المرض - أمارسها أهمها أن أكون وحيداً، لممارسة تلك الطقوس لمعايشة المرض من خلال مساحة خاصة بي. ضمن تلك الطقوس ألا تفرض علي زيارات من المعارف والأصدقاء وأنا أبدو تعيساً ضعيفاً لا حول له ولا قوة. ولهذا السبب أحرص – كلما زارني أحد - علي حلاقة ذقني وأخذ حمام ثم ارتداء ملابس نظيفة ولعل كل ذلك - مع تبادل الابتسامات والكلمات الطيبة والمريحة بيني وبين من يزورني – يجعلني أبدو متعافياً قوياً ومتفائلاً .
تبدو الأمور مختلفة هذه المرة. فلست بقادر علي أي شئ سوي متابعة مايحدث لجاري المريض، ثم التسليم بهزيمتي الشخصية مع قبولي الدخول في خلاف مع الإدارة حول حقه في البقاء بالمستشفي والعلاج.
وبينما انشغلوا في تنظيف الغرفة وتهويتها رحت في نوم عميق لم أفق منه إلا علي تحيات هامسة من شقيقتي الصغيرة وزوجتي التي أخذت تهمس في أذني بأنها تسعي لنقلي لغرفة خاصة. لم أرد عليها وشعرت أن صمتي له وقع أفضل من الموافقة التي تعني إعلان هزيمتي. واعترف أنه نوع من الكذب علي النفس وعلي الغير أمارسه في كثير من المواقف التي أمر بها.
أصبت بالغثيان والدوار حين بدأت زوجتي الحديث عن رغبتها أن تسقيني كوباً من الينسون الساخن جاءوا به معهم. استدعت ذاكرتي رائحة الينسون وطعمه. رجوتها أن تصمت. وللمرة الثانية سمعت عم عبدالله يتكلم وهو ينظر تجاه زوجتي متسائلاً "هل معكم ينسون؟!!". قلت لها "جهزي كوباً لعم عبدالله". أخذت شقيقتي الكوب وتوجهت ناحيته وساعدته في رفع رأسه الصغير، ثم أخذت تجفف حبيبات العرق اللاصقة بجبهته الضامرة، ووضعت يدها تحت رأسه وأخذت تسقيه من الكوب بهدوء وتأني، وأنا أنظر اليهما متمتماً بداخلي "لك الجنة يا أم ضحي".
صحوت عصر اليوم التالي علي صوت عال لشاب واقف بجوار سرير "عم عبدالله"، يتحدث مع مديرة القسم عبر هاتفه المحمول. عرفت أنه ابنه وأنه جاء لحل مشكلة والده في الخروج من المستشفي. شكرني لموقفي وأخبرني أنه تم الاتفاق مع "المديرة" بنقل والده لأحد ألأقسام المتخصصة". وبدا مثل هذا الحل مريحاً للجميع، لعم عبدالله الذي ظل ينظر إلي مبتسماً ولابنه الذي نجح في مسعاه ولي أيضاً.
بعد قليل من الوقت ازدادت الجلبة بالغرفة خاصة مع بدء الزيارة وأخذ صوت ممرضة يتعالى لتجهيز عم عبدالله للنقل، ثم وجهت كلامها لي "وأنت أيضاً يأستاذ محمد سننقلك لغرفة خاصة تم تجهيزها بعد خروج الحالة التي كانت بها".
كانت زوجتي تسير خلف الممرضة كظلها، ثم سارت تجاهي مبتسمة قائلة "لا تنطق بكلمة، وجدنا لك غرفة ممتازة، والأمر يستدعي تركك لهذه الغرفة، علي الأقل خوفاً عليك وعلينا من العدوى". تمسكت بقناع صمتي الزائف وأخذت أنظر لسقف الغرفة مثلما يفعل جاري المريض.
كان نقل عم عبدالله يحتاج لبعض الوقت فـاخذوا يجرون سريري لغرفتي الجديدة الجاهزة. حين بدأت عجلات السرير بالحركة نظرت "لعم عبدالله مودعاً ومتمنياً له الشفاء". نظر إلي وعلامات الحزن تعاود وجهه الضامر. وللمرة الثالثة والأخيرة سمعته يقول: " كنت أتمني أن نكون بغرفة واحدة يأستاذ عادل".

.


الثلاثاء، مايو ٢٥، ٢٠١٠

الأداء والتطريب ..

..

أحرص كثيراً علي لمسة " التطريب" في أي عمل فني أقتنيه خاصة الغناء. ولعله لهذا السبب أفضل اقتناء تسجيلات أغاني الحفلات للمطربين الذين أفضل الاستماع إليهم. وأعد نفسي محظوظاً إذا حالفني التوفيق وعثرت علي أغنية يؤديها المطرب وهو في حالة "سلطنة" أو "انسجام" وتوحد تام بين عناصر الأغنية وأعني الموسيقي والكلمات إضافة للأداء بطبيعة الحال، والأهم الجمهور أو المتلقي أو المستمع.
من المطربين الذين برعوا في الانسجام والسلطنة وهم يغنون أم كلثوم وفريد وعبد الوهاب وعبد الحليم وطلب وورده وناظم الغزالي وغيرهم كثيرون.
أعتقد أنها "حالة"، ليس بإمكانية أي مطرب الوصول إليها، كما أنه ليس بإمكانية "نفس المطرب" أن يكرر تلك الحالة من السلطنة والانسجام وإلا فسيصبح الأمر كمن يقلد نفسه وستكون سمة التكلف هي السائدة.
هذا يعني أن هناك عبئاً مضافاً يقع علي عاتق مثل هذا المطرب. أولها أن يكون له حضوراً قوياً ويعرف كيف يترجم هذا الحضور المتمثل في "السلطنة والتطريب والانسجام" إلي مايشبه خيوط غير مرئية يشد أو يجذب بها "المتلقي أو المستمع" إلي دائرته وتحديداً إلي المركز أو القلب منها وأعني تجاه المطرب أو المؤدي ذاته. وهذا نوع آخر من أنواع التوحد والانسجام بين المؤدي والمتلقي ولعل هذا يفسر "رد الفعل" الجماعي للجمهور وتردديهم في نفس ووقت واحد كلمات الإطراء والإعجاب والتي قد تختصر في كلمة وحيدة تخرج من قلب كل مستمع لتتحد مع باقي القلوب في صيحة واحدة " الله" .
أود أن أنوه أن حالة التوحد والانسجام ليست قاصرة علي الغناء. نستطيع أن نلمس ذلك في الإنشاد الديني وفي تلاوة القراًن وفي قراءة الشعر وأيضا في المديح والأذكار وحتى قراءة القصة أو الحديث العادي. فبقدر ما يملك المؤدي من حضور، ومعرفته كيف يجد نوعاً من التوحد أو الجذب لمتلقيه بقدر ماتكون براعته في الأداء. ولعل هذا يفسر التفاف الناس حوا أشعار وحكايات الأبنودي وهو يؤديهما بصوته.
لكل هذا أستطيع القول أن تلك الحالة ليست سمة لعصر بعينه، أو موسيقي بعينها بقدر ماهي سمة "لمؤدي" في ساعة محددة للتأدية سواء كان غناءً أو عزفاً أو حديثاً وكما أسلفت. وبعكسه إذا ماسيطر أداء التطريب علي "فترة" بعينها بحيث شملت معظم المؤدين فسيصبح الأمر أشبه بأداء "الحشاشين في أحد جلساتهم" وما يعنيه ذلك من تكلف وتكرار لحد الملل وتقليد غير مستحب.
استمعت مؤخراً "لحالتان" من الأداء لأغنية واحدة. "زوروني كل سنه مره" لسيد درويش. والأغنية تعد أحد علامات الغناء والأداء في عالم الغناء الشرقي. واعتقد أنها تؤدي وفق مايمليه علي المؤدي "زمنه" من ثقافة سائدة وفهم لمعاني الحب ومفرداته.
الحالة الأولي بصوت "بلبل مصر" – كما كان يسمي – "حامد مرسي"، وهي حالة مليئة بالتطريب المبالغ فيه ولحد التكلف، وبالرغم من ذلك إلا أنني أحب الاستماع لتلك الأغنية كما أداها " بلبل مصر". والحالة الثانية لنفس الأغنية بصوت "فيروز"، وهي حالة تفتقد تماماً للتطريب والانسجام والتوحد مع المستمع، ومع ذلك فلها سحرها الخاص ومذاقها الجميل .
...

الأربعاء، مايو ١٩، ٢٠١٠

8 - أيام طويلة ..

..
نمت عدة ساعات، استيقظت بعدها وحالة من الإدراك والانتباه تأتي للحظات قليلة تكون كافية لأسأل وافهم. علمت أن التشخيص المبدئي لحالتي والذي حددته طبيبة الاستقبال الشابة هو "التهاب بالغشاء البلوري" . وقد وضعوني بقسم خاص للتأكد من صحة التشخيص أو غيره مع علاجي بالأدوية اللازمة.والحقيقة أنها طفرة كبيرة بهذا المستشفي الضخم أن يكون هناك قسماً "للأبحاث" للتأكد من تشخيص أطباء الاستقبال أو لتحديد التشخيص المضبوط للحالة ووصف العقاقير التي تناسب كل حالة ثم نقلها للقسم الذي يختص بعلاجها. فهمت أيضاً أن الأمر يستدعي بقائي عدة أيام ثم نقلي لقسم الصدر فنتائج الأشعات والتحاليل تفيد بصحة التشخيص وأن هناك التهاب كبير بالغشاء البلوري، وهناك أيضاً الالتهاب بالفص الأيمن للرئة، وأنهم يبذلون قصارى جهدهم في تشخيص مرضي بشكل موثوق به. سألت بطبيعة الحال عن أسماء المضادات الحيوية التي أعالج بها. علمت أنهما نوعان من المضادات القوية للغاية والتي تعطي في شكل محاليل، بالإضافة لمحلول آخر كمسكن قوي للألم، وكان علي ألا أستعجل الشفاء ، فمثل هذا المرض يأخذ وقتاً طويلاً للعلاج ، وهو يحتاج لصبر المريض وتحمله، لكن سيكون بالمقدور – في النهاية - القضاء علي الميكروب المسبب له. تلك كانت نصيحة هامة رغم أني أعد مريضاً نموذجياً في الصبر وطاعة الأطباء وعدم الاعتراض علي أي شي. كل ما طلبته منهم أن يلاحقوا هذا الألم، ويريحوني منه ، وأن يزيدوني فهماً وتنويراً عن هذا الميكروب. من أين جاء ولماذا اختار صدري تحديداً. وبالنتيجة فلن أغادر هذا القسم لقسم الصدر قبل ثلاثة أو أربعة أيام. وهذا يعني أنني سأقضي تلك الأيام في متابعة النوم وحين استيقظ أكون بصحبة عم عبدالله. لم أستطع – طيلة تلك المدة - تناول أي نوع من الطعام أو الشراب وأصبح مجرد الحديث عن كل ذلك يصيبني بنوع من "القرف" ، كما وأن رائحة أي طعام وأيضاً رائحة الشاي والقهوة والسجائر يسبب لي غثياناً ورغبة في التقيؤ، وما يجره من إجهاد نتيجة لأن معدتي كانت فارغة إلا من المياه، وهي السائل الوحيد الذي كنت أتذوقه واعتبرته بديلاً عن الغذاء. قلت ذلك لزوجتي التي حضرت لزيارتي هي وشقيقتي ومعهما "شوربة" دجاج وبها نصف دجاجة. وأعقبت كلامي بتهديد بليغ لهما بأن أي طعام سيأتيان به لن أقدر علي النظر إليه أو اليهما وسأفضل تركهما لأنام. وسأفعل كما كان "عم أنس" يعمل حين يأتيه زائر لا يرغب في لقاءه، كان ينظر إليه قائلاً وهو يتثاءب: حين أصاب بزائر "دمه ثقيل" مثلك فسأمدد جسدي فوق السرير وأسحب الغطاء فوقه، وسرعان ما أستسلم للنوم حتى أن شخيري يستطيع أن يسمعه كل عابر للشارع المقابل للدار. وكان ينفذ بالفعل كل كلمة يقولها حتى لا يتبقى شيء سوي شخيره وحرج الزائر في البقاء لعدم إزعاج عم أنس النائم. وغرقت أنا الاَخر بالفعل في النوم وأنا أتحدث اليهما، وكان ذلك دليلاً علي جدية تهديدي. ومع ذلك فقد أصرت زوجتي خلال الزيارتان التي تليا تلك الزيارة علي إحضار نفس "الشوربة" ونصف الدجاجة حتى أصابها اليأس فأصبحت تزوني بعد ذلك بدون أن تحضر معها أي طعام.
ومع زيادة ساعات نومي اختلط الليل بالنهار. كنت أشعر براحة حين أنام دون أدني مجهود، وحين أفيق للحظات قليلة لأخذ العلاج أو لأرفع زجاجة الماء لأشرب كنت أجد عم عبدالله مشغولاً بالأكل، وأسنانه القليلة ترتفع وتنخفض بسرعة وهو ينظر إلي شارداً. حاولت دفعه للحديث عدة مرات، وبصوت ضعيف كنت أسلم عليه وأسأله عن حاله. كان الرجل يحدق في باهتمام واضح ويستمع إلي صامتاً وهو يواصل المضغ دون أن يرد علي بكلمة واحدة.
..

الأربعاء، مايو ١٢، ٢٠١٠

7 - أيام طويلة ..

..
استيقظت علي رائحة كريهة للغاية تملأ الغرفة، شعرت بالغثيان ورغبة قوية أن أترك الغرفة وأفر بعيداً عن تلك الرائحة المقززة. حانت مني إلتفاتة لسرير جاري، تسمرت عيناى علي جسده العاري، كدت أصعق لرؤية هذا الجسد، فهو عبارة عن هيكل جلدي منتفخ للغاية لا يتناسب مع حجم الرأس الصغير، والعينان الجاحظتان في فزع. كان هناك ممرض شاب ينظفه بعدما "تغوط علي نفسه". كان الممرض يعمل بهمة وهو يلقي باللوم بصوت عال علي المريض المفزوع. "يا عم عبدالله قلنا لك ألف مره اضغط الجرس حين ترغب في التغوط، سنأتي لمساعدتك قبل أن تبهدل السرير وما عليه وترهقنا لتنظيفك". لم يرد عم عبدالله بكلمة واحدة واكتفي بالتحديق في وفي جدران وسقف الغرفة وعلامات الفزع والخوف ترتسمان علي وجهه الضامر. رائحة كريهة وممرض يصرخ من الشعور بالتقزز وهو ينظف جسداً منتفخاً لمريض عاجز عن الكلام ولا يملك سوي الخوف والفزع. وجدت نفسي أقاوم رغبتي الصبيانية بترك الغرفة وحدثت نفسي بأنني سأشارك عم عبدالله هذا المكان واعتبرت أن هذا القرار هو نوع من الامتحان لنفسي. سألت نفسي " هل سأنجح في هذا الامتحان.؟!! نظرت إلي الوجه الضامر والعينان الجاحظتان ورسمت علي وجهي ابتسامة تشجيع وتعاطف، وطلبت من الممرض أن يقترب من سريري لأحدثه. بعدما ينتهي من عمله، أخذ يرش الغرفة مستخدماً زجاجة معطر للتغلب علي الرائحة الكريهة التي لصقت بكل زوايا وأرجاء الغرفة. كوم ملابس عم عبدالله القذرة وغيرها بملابس أخري نظيفة وأخذ يلبسه إياها بهمة ونشاط ونحن نتبادل الحديث.
قلت له أنني معجب للغاية بنشاطه وطريقته في تمريض عم عبدالله، وقبلها معي – رغم أنني كنت نائماً – إلا أنني وجدته قد علق كيساً للتبول كما علق الأدوية والمحاليل حتى أنني شعرت براحة شديدة لتأثير المسكن القوي والأهم هو قدرتي علي التبول دون ذهاب للحمام. كنت أناديه باسمه الذي استطعت قراءته من "البادج" المعلق فوق صدره، "يا أشرف أنت تدمر هذا المجهود الرائع الذي تبذله وأنت تصرخ في تلك الجثة الممدة أمامك دون قدرة علي الحركة أو الرد". كان ينصت إلي باهتمام وأدب وعقب بكلمات قليلة لكنه اعترف بالتقصير في تلك الناحية. يبدو العمل شاقاً "علي النفس" خاصة في مثل تلك المواقف. وافقته وأعطيته الحق وقلت له لعل أحد الأسباب أنك لازلت شاباً ولم تر الكثير بعد من المرضي وحالة الضعف والهوان والاستسلام المهين للمرض. الموضوع يحتاج لكثير من التدريب والممارسة وقبل كل ذلك الفهم والشعور الطيب تجاه تلك الكائنات الضعيفة والتي كانت يوماً ما تتباهي بقوتها وتدعي أنها كانت رجالاً لايشق لهم غبار أو نساءً يمتلئن بالحيوية، أنظر لعم عبدالله كيف يبدو؟!! وانظر إلي، وضعفي الذي لايمكنني من النهوض من فوق السرير. أنتهي حديثي مع أشرف بكلمات ضاحكة منه لعم عبدالله، الذي ابتسم وهو ينظر تجاهي متخلياً عن علامات الخوف والفزع. اكتشفت أن "عم عبدالله" لا يستطيع الكلام ولكنه يجيد الاستماع والفهم.
كان هناك العديد من زجاجات المحاليل معلقة بأعلا سريري، تتدلي منهما أنابيب شفافة ورفيعة تصل "يكانيولا" مغروزة بزراعي وبها العديد من الفتحات. من الواضح أنهم في مستشفي " عين شمس التخصصي" يتمتعون بحرفية عالية في تأدية أعمالهم والمتمثلة في جودة التشخيص والتمريض والأهم هو وجود نظام محكم للتعامل مع المريض ومتابعة حالته دون أن تشعر من هو الطبيب الذي يشرف علي كل ذلك.
لا بد أن الفجر يوشك علي البزوغ، فخيوط الضوء تتسلل علي حياء من خلال "شيش بلكونة الغرفة"، ومع بزوغ ضوء فجر يوم جديد أزددت تفاؤلاً، وشعور بآمال جميلة تراودني في الشفاء وفي مزيد من الحب والفهم للناس، وعرق كثيف يغمر جسدي لأغرق في نوم هادئ وممتع بعد ساعات طويلة ومرة من العناء والضعف والألم
..

الاثنين، أبريل ٢٦، ٢٠١٠

6- أيام طويلة ...

..
مساء نفس اليوم ...
شعرت بأصابع تنغرز في ظهري وهم يحاولون مساعدتي للقيام والدخول لسيارة شقيقي لنقلي لمكان آخر. تأوهت من شدة الألم وطلبت بصوت ضعيف من أخي أن يستخدم كف يده وليس أصابعه. كان جسدي أشبه "بالدمل الكبير" الذي يحيط به الألم من كل الاتجاهات. فضلت الرقاد فوق الأريكة الخلفية للسيارة ووضعت ذراعي تحت رأسي وغرقت في نوم عميق. كنت أفيق للحظات قصيرة كلما اهتزت السيارة حين كانت تعبر مطباً أو حفرة بأسفلت الشارع. أتذكر أنني أفقت مرة أخري علي صوت مزعج لآلة تنبيه سيارة مجاورة. تصنعت القوة وحدثت شقيقي أن "يركن" بجوار تلك السيارة ويتركني أؤدب سائقها لقلة أدبه وعدم تحضره. "هاوريه بس سيبني عليه.!!". كنت أحاول تصنع القوة والمرح تخفيفاً عني وعن زوجتي وأخوتي. لم أنتظر أي تعليق، ومع سماعي لضحكات الجالس بجوار أخي بالمقعد الأمامي غرقت في النوم، ولم أفق إلا بعد فترة كانت كافية لوضعي فوق سرير الفحص بالمستشفي الجديد، ثم سحبي أو جري أو نقلي أو حملي لعمل أشعة للصدر والعودة ثانية لسرير الفحص الجلدي البارد. أخبرتني زوجتي بأننا في انتظار الأشعة والتي ستحدد إذا كنت سأخرج أم سأبقي للعلاج بالمستشفي. لم أتذكر أي شيء. ولم أسأل كيف وصلنا، وكيف فحصني الأطباء ، وكيف أخذوني لعمل تلك الأشعة. كان هناك مجموعة من الأطباء الشباب، بهم الكثير من الطبيبات. انشغلت زوجتي في الحديث مع إحداهن وعادت إلي لتخبرني قبل أن أعاود النوم. كنت أشعر ببرودة شديدة وأنا أكور جسدي طمعاً في الإحساس ببعض الدفء. لم أفهم من كلامها سوي القليل بينما كانت عيون الأطباء تلاحقني وهم يتحدثون فيما بينهم. رجوت زوجتي أن تغطي جسدي بالعباءة الشتوية - التي كانت بصحبتي - وأن يقرروا بعيداً عني مايرونه صالحاً. ومع شعوري بالدفء يتسلل لأطرافي غرقت ثانية في نوم عميق لم أفق منه إلا وأنا بغرفتي الجديدة بالمستشفي وحيداً إلا من نظرات حزينة ومركزة تلاحقني من رفيقي بالغرفة الممدد بجواري فوق سريره.

..



الأربعاء، مارس ٣١، ٢٠١٠

5 - أيام طويلة ...

.
لي قريب يكبرني في المقام والعمر، وهو نفس حالي علي المعاش ويختلف عني أنه كان يعمل بالحكومة وترك العمل بها بعد أن وصل لدرجة وكيل وزارة. أقول ذلك لأنه وكما عاشرته وعرفته فهو يستحق الأكثر من ذلك. مشكلته أنه لم يكن يحني رأسه لأحد. ويبدو أن تلك " الخصلة السيـئة هذه الأيام" كانت أحد سماته منذ صباه. فهو لا يمكنه أن يزيف الحقيقة، أو حتى يجملها. في الحفل الصغير الذي أقاموه له بمناسبة تركه للعمل وإحالته للمعاش تركوه يقول كلمة صغيرة. أخرج من جيبه ورقة أعد بها الكلمة مسبقاً وابتدأ يقول فامتعضت الوجوه، وبدأ الهمس واللغط وصدرت التعليمات بإسكاته. تقدم أحدهم منه ضاحكاً وهو يقول " لا يقال هذا الكلام في تلك المناسبة يأستاذ" وسحب والأحري خطف الورقة من يده. نظر إلي الحضور مبتسماً وقال "كنت أتوقع ذلك" ومد يده لجيب الجاكت وأخرج نسخة ثانية من خطابه وهو يقول "هناك العديد من النسخ الأخرى وأنتم تعرفون طبعي. سأقول ماعندي ثم أغادركم لأرتاح وترتاحون". ومن صفاته الجميلة أيضاً أنه محب لتقديم خدماته "بالمجان" لأفراد الأسرة وللغرباء أيضاً. وحين تحكي أمامه أو يشاهد مشكلة ما لأي شخص. يستمع باهتمام ولا يعلق أي تعليق بعرض المساعدة، غير أنك تفاجأ بعد عدة أيام قليلة بأنه بدأ بحل مشكلتك مالم يكن حلها بالفعل. الحكايات عنه - خاصة في هذا الجانب - كثيرة وقد أعود لأكتب ثانية عن هذا الرجل وحكاياته، والذي أعتقد أنه يستحق تسميتي له بآخر الرجال المحترمين.قالت لي زوجتي أحد الأيام أنه يعاني من نفس مشكلتك وقد عرض نفسه علي طبيب عظام، الذي وصف له عدة أدوية ونصحه بالراحة التامة. تحدثنا هاتفياً وكما هي عادته بدأ بالسؤال عني بصوت ضعيف للغاية، ومع ذلك فلم ينس أنه منحني لقب " البكوية" ، وبدوري فقد منحته لقباً أعلا "الباشاوية". تحدثنا عن الأدوية التي نستعملها وكانت متشابهة لحد كبير خاصة دواء ليركا" وهو هو عبارة عن كبسولات لفيتامين ب مركزة وقوية التأثير ويذهب تأثيرها مباشرة للأعصاب والنخاع الشوكى، وهي غالية الثمن لحد كبير. لا أدري لماذا يفضل معظم أطباء العظام وصفها لمثل الحالة التي أعاني منها أنا وقريبي.؟!! وخلافاً عني فهو من النوع الذي يتحمل الألم بعناد غريب ولا يمكنه أن يستخدم أي مسكن للألم عدا ماوصفه له طبيبه. وبطبيعة الحال تزايدت حدة الألم وبدأ صوته يضعف أكثر وقدراته تقل وزياراته للأطباء تتزايد إلا أن اقترح عليه أحدهم بعمل حقن للفقرات لدي طبيب متخصص في تلك العملية. وبالفعل فقد ذهب لمقابلة هذا الطبيب الذي نصحه بعمل أشعة " رنين مغناطيسي" للفقرات القطنية ثم قرر له إجراء عملية الحقن. خابرته بعد عدة أيام فذكر أن الألم لم يختف لكنه قل بنسبة ملحوظة، وأنه يستخدم الأدوية غالية الثمن طبقاً لتعليمات الطبيب الذي أجري له حقن الفقرات.
قلت لنفسي لعلها نافذة أمل قد فتحت أمامي. قررت الذهاب لنفس الطبيب ومقابلته وبالنسبة لي فلدي الأشعات المطلوبة والتحاليل وشعرت أن هناك اتفاق قريب سأعقده مع هذا الطبيب ليجري حقن لفقرات ظهري المتعبة" . بالفعل ذهبت ثاني يوم للمستشفي الذي يعمل به وهو مستشفي كبير والذي يطلق عليه مستشفي فندقي ولا يقل مستواه عن خمسة نجوم. غير أنه لم يساورني القلق بخصوص التكلفة فقد أخبرني قريبي أن مصروفات العملية شاملة الإقامة لليلة واحدة لن يزيد عن ألفين جنيه. وهو مبلغ لا يعد كبيراً لمواجهة مثل تلك المواقف "الاضطرارية" ويمكن تدبيره بشكل أو بآخر.
ورغم ذلك فقد تذكرت حواراً دار بيني وبين صديق لي يسكن بأحد القرى. وقتها كنا نتبادل الحديث عن "مأساة علاج الفقراء خاصة الفلاحين" الذين لا يتوفر لأي منهم أي مبلغ ولا يمكنهم دفع حتى خمسين جنيهاً للعلاج. قال صديقي بجدية تامة "العيب عليه وليس من حل أمام هذا الفقير المعدم سوي أن يقف أو ينام في سكة القطار "ليأكله ويفرمه" فيريح ويستريح". "ألا يوجد طريق آخر سوي طريق القطار؟!! وبنفس الجدية أجابني " هو كده ميت وكده ميت، الأشرف له أن ياكله القطر ويموت. وصدقني مش هايحس بحاجه. ياعم بلاش وجع دماغ دي بلد تقرف هيه واللي فيها". حمدت الله أن معي الألفين جنيه، وحمدته أكثر أن "سكة القطر أو القطار" تمر بعيداً عن موقع المستشفي الذي يتوسط أحد مناطق القاهرة المميزة.
قابلت الدكتور وبعد أن وضع نظارته الصغيرة المربعة الشكل وتركها تتدلي فوق أنفه، قام بفحصي ثم شاهد أشعة الرنين المغناطيسي. استدار وقال لي " أنت بحاجة لحقن أربع فقرات . لكن دعني أذكرك أن تلك العملية ليست علاجاً لحالتك، فهي تساعد فقط في تخفيف حدة الألم، وربما يحتاج الأمر أن تعاود عملية الحقن بعد ستة أشهر وربما أقل من ذلك وربما أكثر. ليس لدينا تقييم يجزم بجدوى الحقن، كل مالدينا هو الجانب الإحصائي الذي أجري لعينات كبيرة من المرضي في أمريكا وأوربا. فقد استفاد 80% منهم في تقليل الألم وليس زواله. والكثير منهم احتاج لإعادة الحقن بعد ستة أشهر ونسبة قليلة بعد سنة والنسبة الأقل لم يعودوا بحاجة لتلك العملية مرة أخري." ثم أضاف " يجري الحقن باستخدام عدة أدوية قد تصل لأربعة وبواسطة إبرة تخترق الفقرة وتحت توجيه دقيق لها بواسطة العديد من شاشات المراقبة حتى لا تلمس النخاع الشوكى". عرفت أيضاً أن تلك العملية – إن جاز تسميتها بعملية – تجري بغرفة قسطرة الشرايين المليئة بشاشات المراقبة التلفزيونية. فالمكان حساس للغاية وأي خدش يمكن أن يلحق بالنخاع الشوكى ستكون له عواقب وخيمة.كان من الواضح أن الطبيب "قدر" تخصصي المهني فاستعان بشرحه المفصل بعمل العديد من الرسومات التي توضح خطوات العملية وكتابة الأرقام الدالة علي الجانب الإحصائي لجدوى العملية، وأجاب علي كل أسئلتي الهندسية إجابات وافية ومقنعة. حدد أيضاً أتعابه وتكاليف الإقامة بالمستشفي لليلة واحدة علي أن تجري العملية الصباح الباكر لليوم التالي. ولم يختلف الرقم الذي ذكره كثيراً عن الرقم الذي أعرفه إلا بزيادة تكلفة إجراء تحليل "لسيولة الدم" طلبه مني وفضلت عمله بالمستشفي.
"توكلنا علي الله"، هكذا كانت إجابتي، كانت أجندة مواعيده توافق الليلة التي سأبيت فيها بالمستشفي لعمل التحليل وإجراء العملية صباح اليوم التالي. وكانت تلك الليلة والصباح الذي تلاها هو ما كتبت عنه ببداية الموضوع. فقد حدث فجأة ارتفاع كبير بدرجة الحرارة وفقدان كامل للوعي، وعدم الشعور أو المعرفة أو الإدراك لأي شخص، أو لما يدور حولي أو القدرة علي إجابة أي سؤال. مما جعل الطبيب يقول لزوجتي – حين حضر في الصباح – ليس هذا هو الرجل الذي قابلني وتحدثت معه. إنه رجل آخر والأفضل له ولكم أن تبحثوا عن طبيب أخصائي غيري فهو لم يعد بمريضي"..
بتخلي الطبيب عني، تخلت المستشفي عني أيضا،ً وأصبح الأمر يستلزم عقد اتفاق جديد مع طبيب آخر بالمستشفي لضمان حقوقهم المادية أولاً ، ثم علاجي من الحمي التي أصابتني ومعرفة سببها قبل كل شيء.
ماحدث - بعد ذلك - لهو أمر مخجل ومقزز، فقد ظللت ليوم كامل فاقداً للوعي رغم حضور أخصائي قلب وعمل رسم كهربائي وتحليل "لأنزيمات القلب"، ثم قراره بأن الحالة لا تخصه أيضاً. وعوضاً أن تعالج الحمي بأقصى سرعة فقد أرسل لي أحدهم أقراصاً مهدئة وكأنني كنت بحاجة لمزيد من النوم.!!
في التاسعة مساءً تم نقلي لمستشفي آخر بناء علي نصيحة طبيبي الخاص وبعد أن خابرته زوجتي وشرحت له ماحدث معي بالتفصيل. وقبل أن نغادر طلبت المستشفي دفع فاتورة الإقامة والتحاليل والأطباء وكانت تتجاوز الألف ومئتان جنيه نظير لاشيء تقريباً. وبين التخبط الذي وقعت فيه زوجتي وأخوتي – وهم معذورون – والتخبط المتعمد من أطباء المستشفي، كنت أعيش في عالمي الخاص ورحلاتي المكوكية بين الحمام للتبول وسريري لأغرق في النوم، وخيالاتي تتزايد بأن المؤتمر السياسي أو الثقافي قد بدأت فعالياته.
.
يتبع ...

الأحد، مارس ٢١، ٢٠١٠

4 - أيام طويلة ...

.
ذهبت مرة أخري لمقابلة جراح العظام. أخبرته بما حدث. كنت قد أخبرته سابقاً بأنني سأذهب لمقابلة جراح الأعصاب. والحقيقة أنني أسعي لأكبر قدر من الصدق والوضوح عند عرض حالتي لأي طبيب، فلا أخفي عليه "تشخيص" غيره لحالتي ولا نوع الأدوية التي أوصي بها، ولا قراره الذي توصل إليه. بطبيعة الحال أذكر كل ذلك للطبيب بعدما أترك له الفرصة الكافية لأن يفحص بطريقته ويدرس التحاليل والأشعات التي معي بالشكل الذي يريحه، وبعدما يقرر أيضاً ويصرح برأيه. ربما كان سبب ذلك هو أنني أؤمن بضرورة تبادل المعلومات وتوفيرها بشكل بسيط ودون تعقيدات. واعتقد أن استخدامي لتلك الطريقة – في معظم أموري – سهل لي كثيراً الوصول لحلول سليمة ومهما كانت نوع المشكلة. الأمر الآخر أنني لم أجد خلافاً كبيراً بينهما. فهو أيضاً وصف لي عدة أنواع من الأدوية. كان أهمها حقن "مركبات كالسيوم" وهي حقن مرتفعة السعر وتعمل كما ذكر لي كمسكن للألم. الفارق بينهما أنه ترك لي القرار في إجراء الجراحة وبالشكل الذي وضحته. بينما رفض الآخر مجرد مناقشة فكرة الجراحة.
قال لي بتواضع لا ألمسه كثيراً في معظم الأطباء "لقد ذهبت لواحد من الأطباء يعد أستاذاً لنا، وقراره يجب أن يكون موضع فهم وبحث". ثم أضاف " قلت لك. أننا نقسم المرضي في مثل حالتك لثلاثة مجموعات، وأجزم أنه أعتبرك ضمن المجموعة التي يمكن أن تتعايش مع الألم وتستجيب للعلاج". ثم أضاف "كل مايمكنني نصحك به الآن هو أن تستخدم ما وصفه لك من أدوية، وأيضاً تستخدم نفس الأدوية التي وصفتها لك. وهناك تشابه في الثلاثة أنواع فلا بأس أن تتناول تلك الثلاثة أنواع، ولا تنسي أن واحد منهم مجرد فيتامينات ب". كنت أستمع له بهدوء وتركيز شديدين وتركته يكمل "حاول مع الأدوية الموصوفة لك، علي أن تكررها مرة أخري. ثم لنري ماذا ستكون النتيجة".بالفعل واظبت علي استعمال الأدوية، وشعرت بعد أسبوع تقريباً أن هناك نوع من التحسن في "حدة الألم" وإن كان طفيفا للغاية.
انتابني شعور بالتفاؤل وقررت استمرار تناول الأدوية بانتظام ثم تكرارها لعشرة أيام أخري كما أوصي كل من جراح العظام وجراح الأعصاب.. ومع ذلك ظل الألم كما هو. صحيح أن حدته قلت بعض الشيء. وبنسبة قليلة للغاية. لكن الباقي منه كان كافياً أن يعكر مزاجي ويشعرني بنوع من عدم الاتزان ولا المقدرة علي التفكير ولا عمل أي شيء بما في ذلك حمل زجاجة ماء من المطبخ لغرفة نومي. وأسوأ ما في الأمر هو حالة الإكتئاب التي لصقت بي بحيث كان النوم هو العلاج والمسكن. لكن كيف أستطيع النوم دون استعمال ما يحذرني الأطباء منه "الأقراص المهدئة وحقن المورفين".
لا يستطيع أي فرد أن يتحدث - وهو يتألم - عما يشعر به من ألم بشكل دقيق، ولا أن يصفه بكلمات واضحة أو يصف تأثيره عليه. ربما أمكنه أن بتحدث عن كل ذلك وبشكل مقتضب بعدما يفيق من نوبات الألم التي تهاجمه. دعك من تأثير كل ذلك من وصف علي الزوار والأصدقاء. الكثير منهم لا يستطيع أن يشعر بما تكابده أو تتحمله. والأدهى أن ينصحك البعض – بجدية العارفين - بتناول قرص أسبرين وأخذ حمام ساخن ثم المشي قليلاً في الهواء الطلق. من أجل ذلك فلي مقولة بأنه لا يشعر بالألم إلا من يكابده.
هل ينقصنا - وبشكل جماعي - أن "نحس" "ونقدر" آلام الغير؟!. أعتقد ذلك. ولعل عكس ذلك كان أحد انطباعاتي في عدة حوادث كنت طرفاً فيها أو شاهداً عليها خلال زياراتي لأوربا. الفارق كبير للغاية بيننا وبينهم. كنت أشعر – هناك - أن مجرد أن يصرح إنساناً ما بأنه يتألم، وبغض النظر عن جنسيته وهل هو أحد مواطنين الدولة، أو مجرد زائر أو عابر أو مقيم أو تحت أي مسمي آخر، وبغض النظر – طبعاً – عن دينه أو مذهبه أو عرقه أو لون بشرته أو أي شيء آخر. مجرد التصريح - وليس التأوه والأنين والبكاء كما نفعل - يقلب الدنيا ولا يقعدها إلا بعد أن يريحون هذا الإنسان من نهش الألم لجسده ونفسه وروحه. وهم يستخدمون – وبكرم زائد – كل أنواع الرعاية الطبية وكل الوسائل المتاحة، ويسعون بجدية ومثابرة لعلاج وشفاء هذا الإنسان، فضلاً عن المعاملة الراقية والتحدث معه بأدب متناه إضافة لكثير من اللمسات الحانية ولعل هذا هو المهم.
أشعر أنني أثقلت عليكم وعلي أيضاً. أرجو المعذرة.
.
يتبع ...
.

الجمعة، مارس ١٩، ٢٠١٠

3 - أيام طويلة ...

.
ذهبت لزيارة جراح شهير للمخ والأعصاب. تقع عيادته بوسط البلد كما نقول بالقاهرة. بأول شارع فؤاد أو شارع 26 يوليو يمين مبني دار القضاء العالي الشهير والذي يظهر كثيراً بالأفلام وبجوار المقهى الشهير " الأمريكين". اتفقت مع زوجتي أن نتقابل بهذا المقهى قبل موعدي مع الطبيب بفترة كافية. في الحقيقة كانت فرصة طيبة أن أدعوها لتناول الشاي أو القهوة ونحن نتبادل الحديث.
"يعد وسط البلد" من الأماكن الجميلة التي كنت أحب المشي بشوارعها لمدة طويلة – أثناء دراستي بالجامعة وبعد تخرجي بسنوات قليلة – ثم الجلوس بأحد المقاهي الصغيرة لشرب فنجان قهوة أو كوب شاي. لم أكن أشعر بالملل خلال تسكعي الذي يستغرق عدة ساعات وأنا أشاهد الأزياء المعروضة بفاترينات المحلات الكثيرة، وقراءة أسماء الكتب والمجلات والجرائد وعناوين أحدث الإصدارات والمفروشة فوق الشارع بتناسق جميل أمام "أكشاك بيع الجرائد". ثم مواصلة المشي "لسور الأزبكية" العامر بأنواع كثيرة من الكتب والتي تباع بأسعار زهيدة، وعلي مرمي حجر منه يقع المسرح القومي. كننت حريصاً للتعرف علي أسماء الفنانين المشاركين في آخر مسرحية، ثم التفكير العميق في كيفية توفير ثمن تذكرة دخول لذلك المسرح الرائع، والذي أتحفنا علي مدار تاريخه بأعمال مسرحية رائعة من تأليف وإخراج أساتذة كبار في فن المسرح.
كنت أجد متعة أيضاً في الوقوف للحظات، لقراءة ومشاهدة " أفيشات الأفلام الحديثة " بدور السينما العديدة. وبطبيعة الحال كنت أحب الوقوف أمام فاترينات محلات بيع "الخمور والمشروبات الروحية" والتعرف علي الكثير من أصنافها. يعجبني طريقة عرض زجاجات الكونياك والزبيب والويسكي والشمبانيا.
هناك علي ناصية فؤاد وطلعت حرب مجموعة من الأكشاك الجميلة الخاصة ببيع السجائر ودخان البايب وشرائط الموسيقي والأغاني. كنت أحب التعرف علي الأصناف العديدة من "دخان البايب" وشراء كيس دخان لاستعماله. كنت استمتع - في هذا الوقت – بتدخين البايب والذي انقطعت عنه وعدت لتدخين السجائر لأسباب عملية. فهو يحتاج لحيز كبير له ولكيس الدخان إضافة "لمعدات" تنظيفه والتي كنت أحافظ عيها لحد الهوس. وبطبيعة الحال كنت أعشق مشاهدة " الناس خاصة النسوة الجميلات" واللاتي يتسكعن أو المشغولات بشراء حاجاتهن.
مع الوقت قلت زياراتي "لوسط البلد" لحد كبير ومخجل بحيث أصبح ذهابي يعد علي الأصابع خلال السنوات الأخيرة. ربما يعود ذلك لسكني بمنطقة بعيدة والأهم انشغالي بأمور كثيرة أخري. ومع ذلك فحنيني للتسكع بتلك الأماكن يظل مؤثراً بحيث أمارس بعضاً من طقوسي السابقة كلما سنحت لي الفرصة حتى لو كان موعداً مع جراح المخ والأعصاب.
ولأنني لا أستطيع السير لمسافات طويلة مثلما كان يحدث فقد فضلت التجول بين أكشاك بيع السجائر والدخان. ودون جدوى لم أستطع العثور علي دخان سجائر " لف" مستورد أو محلي، ولا حتى سجائر مستوردة. قال لي أحد أصحاب تلك الأكشاك أن القانون يحرم بيع تلك الأشياء، وأن مايتم بيعه – إن وجد – يعد مهرباً علماً بأنه يباع لأصحاب تلك الأكشاك بواسطة القادمين من الخارج أو رواد الأسواق الحرة، كما أن معظم السجائر المستوردة تصنع بمصر حالياً. هنا فطنت أنه ينظر إلي بريبة وتوجس وربما ساورته الشكوك بأنني موظف بالجمارك أو الضرائب. أجبته بأنه يبدو أن الحكومة تفضل أن ندخن "زبالة" مطبوع عليها أسماء ماركات أجنبية. ارتاح لإجابتي وارتاح لي شخصياً ووجدته يناولني علبة سجائر أمريكية لكن شكلها كان غريباً. كنت متلهفاً لتدخين سيجارة جيدة، ففتحت العلبة وسحبت واحدة وأشعلتها. قال البائع ستعجبك. يمكنك شراء العلبة الثانية فليس لدي سوي علبتان. المهم ما رأيك فيها.؟ أجبته "زبالة أيضاً، لكنها هذه المرة زبالة أمريكية".
أتت زوجتي في موعدها وفضلت تناول كوب من الشاي مع قطعة "جاتوه مغطاة بطبقة كثيفة من الشيكولاتا"، وفضلت طلب فنجان قهوة "زيادة". وحين سألني "الجرسون" "عاده أم دوبل" رددت عليه باَلية " دوبل من فضلك". فوجئت بسؤال آخر "غامق ولا فاتح" وبنفس الآلية أجبته "فاتح". والحقيقة أنه كان كوباً رائعاً من القهوة. ساهم في زيادة الإحساس بالألفة بالمكان وبالجالسين به. أماكن بسيطة وليست بالضرورة أن تكون فخمة تجعلك تحس بسحر اللحظة وجمالها والتمتع بالجلوس والحديث مع زوجتي لتمضية وقت لا يجده معظم المتزوجون مع زوجاتهم.
صعدنا لعيادة جراح المخ والأعصاب الشهير. وهو أستاذ جامعي وتربطني به علاقة معرفة سابقة. فهو أول جراح يجري لي منذ مايزيد علي الخمس عشرة سنة عملية إزالة لغضروف بالفقرة القطنية الرابعة والخامسة. كان وقتها شاباً ولفت انتباهي إليه أنه كان قليل الكلام، ومع ذلك فكلامه – إذا أحسنت الاستماع – يبوح بالحكمة والمعرفة العميقة. يعجبني هذا الطراز من الأطباء، ولعل هذا هو السبب كما أردد دائماً بأن تسمية الطبيب بالحكيم تسمية لها دلالتها ومعناها. لكنها لا تنطبق – التسمية – إلا علي نوعية قليلة من الأطباء. كان أول جراح يكتشف أنه لابد من عملية جراحية ليس بسبب الغضروف فقط بل بسبب الضيق في مجري "النخاع الشوكي وهو عيب خلقي تظهر أثاره المؤلمة مع تقدم العمر.
قلت له مبتسماً "كبرنا يادكتور، لكنك لا تزال وسيماً". أجابني مجاملاً "تظهر أقل في العمر مني رغم أننا مواليد نفس السنة، وتبدو أكثر وسامة". والحقيقة أنه من الأطباء الذين يحافظون علي وسامتهم بجانب مزاياه المهنية.
فحص بهدوء وصمت جميع الأشعات التي معي ثم طلب مني التمدد فوق سرير الفحص. أجري لي الفحص السريري المطلوب مع سؤالي عن أماكن الألم وشكله. ثم قال "رغم الألم فالحالة ليست بالخطيرة ويمكن التعامل معها بالأدوية لكن عليك أن تنقص من وزنك، مع بعض جلسات العلاج الطبيعي لكن بعد التأكد من زوال الالتهابات الموجودة".
قلت له أن الآلام مبرحة ولم أعد قادراً علي تحملها. ولو كان يري التدخل الجراحي علاجاً لحالتي فليس لدي مانع". قال "لا أري ضرورة لذلك ولا أنصح بأي نوع من الجراحات لحالتك" . قلت له "كنت أهرب منك في الجراحة الأولي". أجابني " وهذا دوري لأهرب منك في الثانية".
كنت علي يقين أنه لن يزيد في الشرح أو التفصيل وأنه قال كل ماعنده واتخذ قراره بالنسبة لحالتي. غادرت العيادة، ومعنوياتي مرتفعة بعض الشيء، رغم شعوري ببدء تسلل الألم لجسدي كله فور مغادرتي للمكان، كان بداخلي شعور بعدم تصديقه والميل لتصديق جراح العظام الذي يري أن الجراحة هي العلاج المؤكد بفتح ظهري لإزالة التليفات وتوسيع القنوات وتثبيت الفقرات ببضعة مسامير.
وخلال الأيام القليلة التالية ورغم مواظبتي علي تناول الأدوية الباسطة للعضلات والإبر المسكنة التي وصفها لي جراح الأعصاب وهناك دواء ثالث لم أعد بقادر علي تذكره، فقد أصابتني الحيرة الشديدة والإحباط والحزن. تزايد هجوم الألم بضراوة شديدة لدرجة أن المسكنات المألوفة لم تعد تجدي نفعاً أو تأثيراً في تخفيف تلك الآلام. وأخذت أبحث عن مسكنات أشد وأقوي وهي في الحقيقة مسكنات مخدرة "مورفينات" لاتصرف ولا تباع بسهولة في الصيدليات لكن صديق صيدلي تكفل بتوفيرها لي بعدما علم بحالتي.


يتبع ...
.

الخميس، مارس ١٨، ٢٠١٠

2 - أيام طويلة ...

.
أعاني منذ مدة طويلة – لعلها تزيد عن الثمانية أشهر - آلام مبرحة بظهري وكامل رجلي اليسرى وصولاً لقدمي وبدرجة أقل باليمني. لجأت إلي جراح عظام متخصص في جراحات العمود الفقري. طلب مني العديد من الأشعات العادية، وكلما عرضتها عليه كان يفحصها متمتماً " هايل، حاجه عظيمة " والحقيقة أنني لم أكن أدري ماهو الشيء العظيم أو الهائل في كل ذلك؟!!
علي كل كان بعد ترديده لتلك الكلمات يطلب مني عمل المزيد من الأشعات المتقدمة. أخرها أشعة مقطعية، أعقبتها أشعة "رنين مغناطيسي" لمنطقة الفقرات القطنية.
ومع ذلك، أفرح كثيراً حين أجد العلم يكرس تطبيقاته بشكل عملي لخدمة البشر متمثلاً في تلك الأجهزة الطبية المتقدمة والتي تساعد الأطباء في التشخيص السليم واتخاذ القرار المناسب. قلت لنفسي " لعل تلك الأجهزة هي الشئ الوحيد الهائل والعظيم ، وربما كان الطبيب يقصد ذلك".!!
شرح لي الجراح الموقف بالتفصيل. هناك غضروفان "صغيران" بالفقرة الثالثة والرابعة وآخر بالفقرة العجزية الأولي. والمشكلة الرئيسية تكمن في كثرة " التليفات" بالفقرات الثالثة والرابعة والرابعة والخامسة وأيضاً بأول فقرة عجزية. وأجمل رأيه بأن التدخل الجراحي - لمثل حالتي - يعود لمدي تحمل المريض والتعايش مع الألم. فهناك فئة من المرضي يستطيعون "التعايش مع الألم والتكيف معه" وبدون أي مساعدة. وهناك فئة أخري يستطيعون أيضاً التعايش والتكيف لكن بمساعدة الأدوية خاصة المسكنة للألم. وهناك فئة ثالثة لا تستطيع تحمل الألم ولا التعايش بمساعدة الأدوية خاصة لفترات طويلة. ويبدو أنني كنت ضمن الفئة الثالثة.
ربما كان موقفي واقتناعي الشخصي أن الإنسان يجب أن يعيش معافياً ودون أن يصاحب تلك "العيشة" أي نوع من الألم. وأشعر بالدهشة الشديدة من أي شخص يقاوم بإصرار وعناد مايشعر به من آلام نتيجة لأي سبب حتى لو كان صداعاً خفيفاً، ويكتفي بالقول أنه لا يحبذ استعمال أي نوع من الدواء حتى لو كان قرص أسبرين. كما أنني أتناول كمية كبيرة من الأدوية خلال اليوم لارتفاع ضغط الدم وأخري للقلب، ويقيني أنها تكفيني دون الحاجة لإضافة المزيد من الأدوية.
قلت له كل ذلك، وأضفت أنني أفضل الجراحة إذا كانت ستساعد في زوال أي ألم وأنها ستعفيني من استعمال كمية كبيرة مضافة لقائمة الأدوية الأخرى التي أستعملها.
ذكر لي أن العملية الجراحية لن تكون سهلة، فعليه أن يتعامل مع أربع فقرات لإزالة التليفات والغضاريف الظاهرة رغم صغرها، "فمادام قد فتح وظهر له كل شيء فعليه عمل اللازم تجاهها". ثم عليه أن يثبت ثلاث من تلك الفقرات بواسطة مسامير خاصة. كان يتحدث بحرفية كبيرة ذكرتني بميكانيكي السيارة الشاطر وحين قلت له أن الأمر أشبه بذلك قال ضاحكاً هو كذلك بالفعل. ثم أضاف بأن جراح العظام يتعامل مع العمود الفقري باعتباره جهاز حركي وعلي الجراح أن يراعي الكثير لضبط الحركة والتناسق للفقرات وقدرة العمود علي العمل والتحمل بشكل طبيعي أو قريب من الطبيعي. ويختلف هذا المفهوم في ذلك النوع من الجراحات عن مفهوم جراح المخ والأعصاب الذي يركز كل اهتمامه لسلامة الأعصاب والحبل الشوكي عند إزالة التليفات أو الغضاريف.
قيل أن أقدم علي أي جراحة، أذهب لكثير من أطباء الاختصاص، واستمع لرأي ثلاثة علي الأقل. ثم علي أن أقرر من سيجري لي منهم الجراحة المطلوبة. وبعد أن أدرس التكلفة اللازمة بما في ذلك إقامتي بالمستشفي، أتوكل علي الله وأتفق مع الطبيب علي تحديد اليوم الذي أذهب فيه للمستشفي.
قررت الذهاب لجراح " مخ وأعصاب" شهير لعرض حالتي عليه لأستمع للرأي الآخر في حالتي.


يتبع ...
.

الثلاثاء، مارس ١٦، ٢٠١٠

1 - أيام طويلة ...

.
القاهرة. العاشرة من صباح الأربعاء 24/2/2010
.
بدا الأمر لي وكأنني مدعو للمساهمة بمؤتمر ثقافي أو سياسي. كان علي أن أقضي الليلة السابقة بالغرفة المحجوزة لي منذ ليلة الأمس. غرفة واسعة وهادئة وجميلة والإضاءة بها خافتة، وهناك بأحد أركانها سرير صغير مرتب، يبعث ماعليه من فراش الإحساس بالدفء في ليلة باردة للغاية كالتي قدمت فيها. بنهاية الغرفة حمام صغير، ويفتح بابها علي ممر طويل يشكل امتداداً طبيعياً لمساحة الغرفة. الحضور كثيرون، رجالاً ونساءً. معظمهم واقف يتبادلون الحديث فيما بينهم، والبعض جلوس بالغرفة ينظرون إلي وهم يبتسمون. كان هناك شاباً له لحية طويلة للغاية. هو أقرب في الشبه "لطارق" ابن شقيقتي التي تصغرني وهو أيضاً يشبه لحد كبير واحد من نواب البرلمان الملتحيين. شعرت بالإرهاق والدوار وأنا أعتصر ذاكرتي من يكون علي وجه اليقين.
شعرت بالغضب الشديد من زوجتي وأبني. كيف أدعو لمثل هذا الحفل أو المؤتمر وأنا أرتدي ملابس المنزل، يفترض بهم أن يجعلوني أرتدي ملابس لائقة.
لم تكن لدي القدرة علي مشاركة الحضور أي نوع من الحوار وبذلت جهداً كبيراً – دون جدوى - في الاستماع لما يقولون. لم أكن بقادر علي الاستماع إليهم أيضاً. كانوا بالنسبة لي مجرد شفاه تتحرك وأجساد واقفة تتمايل. يبدو أنهم كانوا يتحدثون عن الشعب ومشاكله، وينظرون إلي بين وقت وآخر ولديهم الإصرار أن أشاركهم الحديث.
كنت أعاني من مشكلة في التبول. كان علي الدخول للحمام كل خمس دقائق تقريباً وأنا أستند علي كتفي أبني وابن شقيقتي كلما مشيت لدخول الحمام أو الخروج منه. بالكاد كنت أمشي في رحلة الذهاب والإياب لأصل إلي سريري الموضوع بنهاية الغرفة، لأعاود النظر لضيوف المؤتمر دون أية قدرة علي الرد عليهم أو الاستماع لما يقولون.
قلت لنفسي لأكن ممثلاً عن الشعب الذي يتحدثون عنه. الشعب مريض وبحاجة لنوع من الرعاية والفهم والعلاج. أغرق في نوم من نوع غريب، فلا أنا بالنائم ولا بالمستيقظ. التف حول سريري الكثير من الضيوف. كنت أقاوم ذاكرتي لأتذكرهم. لم أستطع تذكر أحدهم. زوجتي تلح علي أن أجيبها هل يستدعون لي طبيب قلب متخصص أم نغادر المكان لآخر. كنت متفائلاً بتكملة الليلة والمشاركة في الحوار عن الشعب ومشاكله، ربما استطاع الطبيب أن ينقذ مايمكن إنقاذه، ويجعلني استعيد حيويتي للوقوف ثانية والانتباه لما أقول ويقولون. أشرت لزوجتي بضعف شديد باستدعاء الطبيب.
كنت أعتقد أنني استيقظت من نومي - الليلة السابقة - وكل ماكان يحدث حولي حدث أثناء الليل. ولم أستوعب أنه صباح يوم جديد وأنه سيمر علي – هذا اليوم - طويلاً وصعباً ، لا يعترف بي ولا أعترف به كواحد من أيام عمري، حاله حال بضعة أيام سبقته وأخري ستأتي بلا شك. ومع تداعي أفكاري رحت في غيبوبة عميقة لم أفق منها إلا ليلاً.
.
يتبع ...
.
..