الجمعة، مارس ١٩، ٢٠١٠

3 - أيام طويلة ...

.
ذهبت لزيارة جراح شهير للمخ والأعصاب. تقع عيادته بوسط البلد كما نقول بالقاهرة. بأول شارع فؤاد أو شارع 26 يوليو يمين مبني دار القضاء العالي الشهير والذي يظهر كثيراً بالأفلام وبجوار المقهى الشهير " الأمريكين". اتفقت مع زوجتي أن نتقابل بهذا المقهى قبل موعدي مع الطبيب بفترة كافية. في الحقيقة كانت فرصة طيبة أن أدعوها لتناول الشاي أو القهوة ونحن نتبادل الحديث.
"يعد وسط البلد" من الأماكن الجميلة التي كنت أحب المشي بشوارعها لمدة طويلة – أثناء دراستي بالجامعة وبعد تخرجي بسنوات قليلة – ثم الجلوس بأحد المقاهي الصغيرة لشرب فنجان قهوة أو كوب شاي. لم أكن أشعر بالملل خلال تسكعي الذي يستغرق عدة ساعات وأنا أشاهد الأزياء المعروضة بفاترينات المحلات الكثيرة، وقراءة أسماء الكتب والمجلات والجرائد وعناوين أحدث الإصدارات والمفروشة فوق الشارع بتناسق جميل أمام "أكشاك بيع الجرائد". ثم مواصلة المشي "لسور الأزبكية" العامر بأنواع كثيرة من الكتب والتي تباع بأسعار زهيدة، وعلي مرمي حجر منه يقع المسرح القومي. كننت حريصاً للتعرف علي أسماء الفنانين المشاركين في آخر مسرحية، ثم التفكير العميق في كيفية توفير ثمن تذكرة دخول لذلك المسرح الرائع، والذي أتحفنا علي مدار تاريخه بأعمال مسرحية رائعة من تأليف وإخراج أساتذة كبار في فن المسرح.
كنت أجد متعة أيضاً في الوقوف للحظات، لقراءة ومشاهدة " أفيشات الأفلام الحديثة " بدور السينما العديدة. وبطبيعة الحال كنت أحب الوقوف أمام فاترينات محلات بيع "الخمور والمشروبات الروحية" والتعرف علي الكثير من أصنافها. يعجبني طريقة عرض زجاجات الكونياك والزبيب والويسكي والشمبانيا.
هناك علي ناصية فؤاد وطلعت حرب مجموعة من الأكشاك الجميلة الخاصة ببيع السجائر ودخان البايب وشرائط الموسيقي والأغاني. كنت أحب التعرف علي الأصناف العديدة من "دخان البايب" وشراء كيس دخان لاستعماله. كنت استمتع - في هذا الوقت – بتدخين البايب والذي انقطعت عنه وعدت لتدخين السجائر لأسباب عملية. فهو يحتاج لحيز كبير له ولكيس الدخان إضافة "لمعدات" تنظيفه والتي كنت أحافظ عيها لحد الهوس. وبطبيعة الحال كنت أعشق مشاهدة " الناس خاصة النسوة الجميلات" واللاتي يتسكعن أو المشغولات بشراء حاجاتهن.
مع الوقت قلت زياراتي "لوسط البلد" لحد كبير ومخجل بحيث أصبح ذهابي يعد علي الأصابع خلال السنوات الأخيرة. ربما يعود ذلك لسكني بمنطقة بعيدة والأهم انشغالي بأمور كثيرة أخري. ومع ذلك فحنيني للتسكع بتلك الأماكن يظل مؤثراً بحيث أمارس بعضاً من طقوسي السابقة كلما سنحت لي الفرصة حتى لو كان موعداً مع جراح المخ والأعصاب.
ولأنني لا أستطيع السير لمسافات طويلة مثلما كان يحدث فقد فضلت التجول بين أكشاك بيع السجائر والدخان. ودون جدوى لم أستطع العثور علي دخان سجائر " لف" مستورد أو محلي، ولا حتى سجائر مستوردة. قال لي أحد أصحاب تلك الأكشاك أن القانون يحرم بيع تلك الأشياء، وأن مايتم بيعه – إن وجد – يعد مهرباً علماً بأنه يباع لأصحاب تلك الأكشاك بواسطة القادمين من الخارج أو رواد الأسواق الحرة، كما أن معظم السجائر المستوردة تصنع بمصر حالياً. هنا فطنت أنه ينظر إلي بريبة وتوجس وربما ساورته الشكوك بأنني موظف بالجمارك أو الضرائب. أجبته بأنه يبدو أن الحكومة تفضل أن ندخن "زبالة" مطبوع عليها أسماء ماركات أجنبية. ارتاح لإجابتي وارتاح لي شخصياً ووجدته يناولني علبة سجائر أمريكية لكن شكلها كان غريباً. كنت متلهفاً لتدخين سيجارة جيدة، ففتحت العلبة وسحبت واحدة وأشعلتها. قال البائع ستعجبك. يمكنك شراء العلبة الثانية فليس لدي سوي علبتان. المهم ما رأيك فيها.؟ أجبته "زبالة أيضاً، لكنها هذه المرة زبالة أمريكية".
أتت زوجتي في موعدها وفضلت تناول كوب من الشاي مع قطعة "جاتوه مغطاة بطبقة كثيفة من الشيكولاتا"، وفضلت طلب فنجان قهوة "زيادة". وحين سألني "الجرسون" "عاده أم دوبل" رددت عليه باَلية " دوبل من فضلك". فوجئت بسؤال آخر "غامق ولا فاتح" وبنفس الآلية أجبته "فاتح". والحقيقة أنه كان كوباً رائعاً من القهوة. ساهم في زيادة الإحساس بالألفة بالمكان وبالجالسين به. أماكن بسيطة وليست بالضرورة أن تكون فخمة تجعلك تحس بسحر اللحظة وجمالها والتمتع بالجلوس والحديث مع زوجتي لتمضية وقت لا يجده معظم المتزوجون مع زوجاتهم.
صعدنا لعيادة جراح المخ والأعصاب الشهير. وهو أستاذ جامعي وتربطني به علاقة معرفة سابقة. فهو أول جراح يجري لي منذ مايزيد علي الخمس عشرة سنة عملية إزالة لغضروف بالفقرة القطنية الرابعة والخامسة. كان وقتها شاباً ولفت انتباهي إليه أنه كان قليل الكلام، ومع ذلك فكلامه – إذا أحسنت الاستماع – يبوح بالحكمة والمعرفة العميقة. يعجبني هذا الطراز من الأطباء، ولعل هذا هو السبب كما أردد دائماً بأن تسمية الطبيب بالحكيم تسمية لها دلالتها ومعناها. لكنها لا تنطبق – التسمية – إلا علي نوعية قليلة من الأطباء. كان أول جراح يكتشف أنه لابد من عملية جراحية ليس بسبب الغضروف فقط بل بسبب الضيق في مجري "النخاع الشوكي وهو عيب خلقي تظهر أثاره المؤلمة مع تقدم العمر.
قلت له مبتسماً "كبرنا يادكتور، لكنك لا تزال وسيماً". أجابني مجاملاً "تظهر أقل في العمر مني رغم أننا مواليد نفس السنة، وتبدو أكثر وسامة". والحقيقة أنه من الأطباء الذين يحافظون علي وسامتهم بجانب مزاياه المهنية.
فحص بهدوء وصمت جميع الأشعات التي معي ثم طلب مني التمدد فوق سرير الفحص. أجري لي الفحص السريري المطلوب مع سؤالي عن أماكن الألم وشكله. ثم قال "رغم الألم فالحالة ليست بالخطيرة ويمكن التعامل معها بالأدوية لكن عليك أن تنقص من وزنك، مع بعض جلسات العلاج الطبيعي لكن بعد التأكد من زوال الالتهابات الموجودة".
قلت له أن الآلام مبرحة ولم أعد قادراً علي تحملها. ولو كان يري التدخل الجراحي علاجاً لحالتي فليس لدي مانع". قال "لا أري ضرورة لذلك ولا أنصح بأي نوع من الجراحات لحالتك" . قلت له "كنت أهرب منك في الجراحة الأولي". أجابني " وهذا دوري لأهرب منك في الثانية".
كنت علي يقين أنه لن يزيد في الشرح أو التفصيل وأنه قال كل ماعنده واتخذ قراره بالنسبة لحالتي. غادرت العيادة، ومعنوياتي مرتفعة بعض الشيء، رغم شعوري ببدء تسلل الألم لجسدي كله فور مغادرتي للمكان، كان بداخلي شعور بعدم تصديقه والميل لتصديق جراح العظام الذي يري أن الجراحة هي العلاج المؤكد بفتح ظهري لإزالة التليفات وتوسيع القنوات وتثبيت الفقرات ببضعة مسامير.
وخلال الأيام القليلة التالية ورغم مواظبتي علي تناول الأدوية الباسطة للعضلات والإبر المسكنة التي وصفها لي جراح الأعصاب وهناك دواء ثالث لم أعد بقادر علي تذكره، فقد أصابتني الحيرة الشديدة والإحباط والحزن. تزايد هجوم الألم بضراوة شديدة لدرجة أن المسكنات المألوفة لم تعد تجدي نفعاً أو تأثيراً في تخفيف تلك الآلام. وأخذت أبحث عن مسكنات أشد وأقوي وهي في الحقيقة مسكنات مخدرة "مورفينات" لاتصرف ولا تباع بسهولة في الصيدليات لكن صديق صيدلي تكفل بتوفيرها لي بعدما علم بحالتي.


يتبع ...
.

ليست هناك تعليقات: