الأربعاء، مارس ٣١، ٢٠١٠

5 - أيام طويلة ...

.
لي قريب يكبرني في المقام والعمر، وهو نفس حالي علي المعاش ويختلف عني أنه كان يعمل بالحكومة وترك العمل بها بعد أن وصل لدرجة وكيل وزارة. أقول ذلك لأنه وكما عاشرته وعرفته فهو يستحق الأكثر من ذلك. مشكلته أنه لم يكن يحني رأسه لأحد. ويبدو أن تلك " الخصلة السيـئة هذه الأيام" كانت أحد سماته منذ صباه. فهو لا يمكنه أن يزيف الحقيقة، أو حتى يجملها. في الحفل الصغير الذي أقاموه له بمناسبة تركه للعمل وإحالته للمعاش تركوه يقول كلمة صغيرة. أخرج من جيبه ورقة أعد بها الكلمة مسبقاً وابتدأ يقول فامتعضت الوجوه، وبدأ الهمس واللغط وصدرت التعليمات بإسكاته. تقدم أحدهم منه ضاحكاً وهو يقول " لا يقال هذا الكلام في تلك المناسبة يأستاذ" وسحب والأحري خطف الورقة من يده. نظر إلي الحضور مبتسماً وقال "كنت أتوقع ذلك" ومد يده لجيب الجاكت وأخرج نسخة ثانية من خطابه وهو يقول "هناك العديد من النسخ الأخرى وأنتم تعرفون طبعي. سأقول ماعندي ثم أغادركم لأرتاح وترتاحون". ومن صفاته الجميلة أيضاً أنه محب لتقديم خدماته "بالمجان" لأفراد الأسرة وللغرباء أيضاً. وحين تحكي أمامه أو يشاهد مشكلة ما لأي شخص. يستمع باهتمام ولا يعلق أي تعليق بعرض المساعدة، غير أنك تفاجأ بعد عدة أيام قليلة بأنه بدأ بحل مشكلتك مالم يكن حلها بالفعل. الحكايات عنه - خاصة في هذا الجانب - كثيرة وقد أعود لأكتب ثانية عن هذا الرجل وحكاياته، والذي أعتقد أنه يستحق تسميتي له بآخر الرجال المحترمين.قالت لي زوجتي أحد الأيام أنه يعاني من نفس مشكلتك وقد عرض نفسه علي طبيب عظام، الذي وصف له عدة أدوية ونصحه بالراحة التامة. تحدثنا هاتفياً وكما هي عادته بدأ بالسؤال عني بصوت ضعيف للغاية، ومع ذلك فلم ينس أنه منحني لقب " البكوية" ، وبدوري فقد منحته لقباً أعلا "الباشاوية". تحدثنا عن الأدوية التي نستعملها وكانت متشابهة لحد كبير خاصة دواء ليركا" وهو هو عبارة عن كبسولات لفيتامين ب مركزة وقوية التأثير ويذهب تأثيرها مباشرة للأعصاب والنخاع الشوكى، وهي غالية الثمن لحد كبير. لا أدري لماذا يفضل معظم أطباء العظام وصفها لمثل الحالة التي أعاني منها أنا وقريبي.؟!! وخلافاً عني فهو من النوع الذي يتحمل الألم بعناد غريب ولا يمكنه أن يستخدم أي مسكن للألم عدا ماوصفه له طبيبه. وبطبيعة الحال تزايدت حدة الألم وبدأ صوته يضعف أكثر وقدراته تقل وزياراته للأطباء تتزايد إلا أن اقترح عليه أحدهم بعمل حقن للفقرات لدي طبيب متخصص في تلك العملية. وبالفعل فقد ذهب لمقابلة هذا الطبيب الذي نصحه بعمل أشعة " رنين مغناطيسي" للفقرات القطنية ثم قرر له إجراء عملية الحقن. خابرته بعد عدة أيام فذكر أن الألم لم يختف لكنه قل بنسبة ملحوظة، وأنه يستخدم الأدوية غالية الثمن طبقاً لتعليمات الطبيب الذي أجري له حقن الفقرات.
قلت لنفسي لعلها نافذة أمل قد فتحت أمامي. قررت الذهاب لنفس الطبيب ومقابلته وبالنسبة لي فلدي الأشعات المطلوبة والتحاليل وشعرت أن هناك اتفاق قريب سأعقده مع هذا الطبيب ليجري حقن لفقرات ظهري المتعبة" . بالفعل ذهبت ثاني يوم للمستشفي الذي يعمل به وهو مستشفي كبير والذي يطلق عليه مستشفي فندقي ولا يقل مستواه عن خمسة نجوم. غير أنه لم يساورني القلق بخصوص التكلفة فقد أخبرني قريبي أن مصروفات العملية شاملة الإقامة لليلة واحدة لن يزيد عن ألفين جنيه. وهو مبلغ لا يعد كبيراً لمواجهة مثل تلك المواقف "الاضطرارية" ويمكن تدبيره بشكل أو بآخر.
ورغم ذلك فقد تذكرت حواراً دار بيني وبين صديق لي يسكن بأحد القرى. وقتها كنا نتبادل الحديث عن "مأساة علاج الفقراء خاصة الفلاحين" الذين لا يتوفر لأي منهم أي مبلغ ولا يمكنهم دفع حتى خمسين جنيهاً للعلاج. قال صديقي بجدية تامة "العيب عليه وليس من حل أمام هذا الفقير المعدم سوي أن يقف أو ينام في سكة القطار "ليأكله ويفرمه" فيريح ويستريح". "ألا يوجد طريق آخر سوي طريق القطار؟!! وبنفس الجدية أجابني " هو كده ميت وكده ميت، الأشرف له أن ياكله القطر ويموت. وصدقني مش هايحس بحاجه. ياعم بلاش وجع دماغ دي بلد تقرف هيه واللي فيها". حمدت الله أن معي الألفين جنيه، وحمدته أكثر أن "سكة القطر أو القطار" تمر بعيداً عن موقع المستشفي الذي يتوسط أحد مناطق القاهرة المميزة.
قابلت الدكتور وبعد أن وضع نظارته الصغيرة المربعة الشكل وتركها تتدلي فوق أنفه، قام بفحصي ثم شاهد أشعة الرنين المغناطيسي. استدار وقال لي " أنت بحاجة لحقن أربع فقرات . لكن دعني أذكرك أن تلك العملية ليست علاجاً لحالتك، فهي تساعد فقط في تخفيف حدة الألم، وربما يحتاج الأمر أن تعاود عملية الحقن بعد ستة أشهر وربما أقل من ذلك وربما أكثر. ليس لدينا تقييم يجزم بجدوى الحقن، كل مالدينا هو الجانب الإحصائي الذي أجري لعينات كبيرة من المرضي في أمريكا وأوربا. فقد استفاد 80% منهم في تقليل الألم وليس زواله. والكثير منهم احتاج لإعادة الحقن بعد ستة أشهر ونسبة قليلة بعد سنة والنسبة الأقل لم يعودوا بحاجة لتلك العملية مرة أخري." ثم أضاف " يجري الحقن باستخدام عدة أدوية قد تصل لأربعة وبواسطة إبرة تخترق الفقرة وتحت توجيه دقيق لها بواسطة العديد من شاشات المراقبة حتى لا تلمس النخاع الشوكى". عرفت أيضاً أن تلك العملية – إن جاز تسميتها بعملية – تجري بغرفة قسطرة الشرايين المليئة بشاشات المراقبة التلفزيونية. فالمكان حساس للغاية وأي خدش يمكن أن يلحق بالنخاع الشوكى ستكون له عواقب وخيمة.كان من الواضح أن الطبيب "قدر" تخصصي المهني فاستعان بشرحه المفصل بعمل العديد من الرسومات التي توضح خطوات العملية وكتابة الأرقام الدالة علي الجانب الإحصائي لجدوى العملية، وأجاب علي كل أسئلتي الهندسية إجابات وافية ومقنعة. حدد أيضاً أتعابه وتكاليف الإقامة بالمستشفي لليلة واحدة علي أن تجري العملية الصباح الباكر لليوم التالي. ولم يختلف الرقم الذي ذكره كثيراً عن الرقم الذي أعرفه إلا بزيادة تكلفة إجراء تحليل "لسيولة الدم" طلبه مني وفضلت عمله بالمستشفي.
"توكلنا علي الله"، هكذا كانت إجابتي، كانت أجندة مواعيده توافق الليلة التي سأبيت فيها بالمستشفي لعمل التحليل وإجراء العملية صباح اليوم التالي. وكانت تلك الليلة والصباح الذي تلاها هو ما كتبت عنه ببداية الموضوع. فقد حدث فجأة ارتفاع كبير بدرجة الحرارة وفقدان كامل للوعي، وعدم الشعور أو المعرفة أو الإدراك لأي شخص، أو لما يدور حولي أو القدرة علي إجابة أي سؤال. مما جعل الطبيب يقول لزوجتي – حين حضر في الصباح – ليس هذا هو الرجل الذي قابلني وتحدثت معه. إنه رجل آخر والأفضل له ولكم أن تبحثوا عن طبيب أخصائي غيري فهو لم يعد بمريضي"..
بتخلي الطبيب عني، تخلت المستشفي عني أيضا،ً وأصبح الأمر يستلزم عقد اتفاق جديد مع طبيب آخر بالمستشفي لضمان حقوقهم المادية أولاً ، ثم علاجي من الحمي التي أصابتني ومعرفة سببها قبل كل شيء.
ماحدث - بعد ذلك - لهو أمر مخجل ومقزز، فقد ظللت ليوم كامل فاقداً للوعي رغم حضور أخصائي قلب وعمل رسم كهربائي وتحليل "لأنزيمات القلب"، ثم قراره بأن الحالة لا تخصه أيضاً. وعوضاً أن تعالج الحمي بأقصى سرعة فقد أرسل لي أحدهم أقراصاً مهدئة وكأنني كنت بحاجة لمزيد من النوم.!!
في التاسعة مساءً تم نقلي لمستشفي آخر بناء علي نصيحة طبيبي الخاص وبعد أن خابرته زوجتي وشرحت له ماحدث معي بالتفصيل. وقبل أن نغادر طلبت المستشفي دفع فاتورة الإقامة والتحاليل والأطباء وكانت تتجاوز الألف ومئتان جنيه نظير لاشيء تقريباً. وبين التخبط الذي وقعت فيه زوجتي وأخوتي – وهم معذورون – والتخبط المتعمد من أطباء المستشفي، كنت أعيش في عالمي الخاص ورحلاتي المكوكية بين الحمام للتبول وسريري لأغرق في النوم، وخيالاتي تتزايد بأن المؤتمر السياسي أو الثقافي قد بدأت فعالياته.
.
يتبع ...

ليست هناك تعليقات: