الاثنين، مارس ٣٠، ٢٠٠٩

فهم متخلف وتقديرات خاطئة ...

.
هذا نوع من التعليقات التي ذكرت أنها تضمر نوايا مسبقة وأحكاماً مبيتة. ليسمح لي القارئ أن أضيف تعليق الأستاذ "عبد العظيم المسلم" لموضوعي الحرية والمرأة .. وجدت في هذا التعليق ما يفسر المقال بشكل يدعو للدهشة ودون حاجة لتدخلي. ومع ذلك فليسمح لي القارئ والأستاذ عبد العظيم أن أعقب وأعلق عليه. وقد فضلت عدم تعديل أية كلمة من تعليقه وفضلت أن ألصقه كما هو بالضبط". كتب الأستاذ عبد العظيم:
"وماتقول يأخي فيمل يحدث لتصوير وجوه البنات الغافلات بالمحمول ويقوم أولاد الحرام بإلتقاط صور لوجوه البنات المسدلات الشعر بالمحمول ثم يركبونها بالفوتوشوب على أجسام عارية ويعودون في اليوم التالي يتناقلونها بالبلوتث ويسخرون ويتندرون وتفسخ خطوبة مخطوبات وتطلق متزوجات ووالله العظيم بقرية وليس في مدينة بسب مثل هذه الأفعال زهقت أرواح فما تقول في نعم في أيدي الأنعام ألا يعجب الحجاب مثل هذه المصائب حرية المرآة في سترها وعفتها لا أن تكون مشاعا للكلاب تحمل إختلاف الرأي وأجبتي يرحمك الله إنها مشكلة تربوية تواجهنا كمربين.
وأدعوك لعضوية اتحاد الكتاب العرب على النت فهذا حق لك علينا ولوإختلافنا في وجهات النظر فتجمعنا الكتابة بالعربية والذي خلقنا مختلفين هو الله.أكرر شكري وأرجو قبول الدعوة" .

.
ثمة تناقض واضح في مضمون التعليق، وإن جاهد كاتبه في إخفائه غير أن الكلمات والجمل تبوح به دون تذويق أو إخفاء. فبدلاً من إلقاء اللوم علي "الأنعام وأولاد الحرام والتعبير مأخوذ من كاتب التعليق" فهو يلقي باللوم علي من تترك شعرها مسدلا فوق كتفيها. !!! وهو هنا ليس بأفضل حالاً من فهم الأفغان من الطالبان الذين يرشون وجه أي سيدة اغتصبت تحت التهديد وبقوة السلاح بالحامض المركز لتشويهه.!!! وماذا عن البنات غير المسلمات واللاتي لا يحرم تطبيقات دياناتهم حجب وجه المرأة. ألا يشكل ذلك للكاتب هماً مضافاً كان عليه أن يفكر به.
دعك من أن هذا المرض الذي يمارسه " أولاد الحرام من الأنعام" له أسبابه السياسية والتربوية (بما في ذلك التعليم) والثقافية والاجتماعية وأيضاً الاقتصادية. والتي لا يري كاتب التعليق في أياً منها ما يغريه بالكتابة أو النقاش أكثر من القفز لحل سريع ومباشر بالدعوة لحجب وجه المرأة فذلك هو غاية المراد من رب العباد لتحقيق الحرية المنشودة للمرأة. "فحرية المرأة في سترها وعفتها لا أن تكون مشاعا للكلاب." والتعبير لكاتب التعليق أيضاً.!!!
.
والأمر لا يزيد عن كونه أشبه بالفزاعات التي يخوفون بها الناس أو خيال الماَته الذي ينصبونه وسط الحقول لتخويف الطيور كي تطير بعيدا عن المزروعات." وهو نوع من دفن الرؤوس بالرمال فذلك يضمن الحل الأسهل والأسرع من مواجهة المشكلة بشكلها الحقيقي. والغريب أن تلك الفزاعات تحدث وسط مجتمع تسوده الثقافة الدينية المحافظة لدرجة الجمود خاصة بالقرى كما أشار كاتب التعليق مما يلقي بظلال كثيفة من عدم تصديق الرواية بأكملها.
.
ومع التسليم بأن هناك بالفعل الكثير من التجاوزات التي تحدث مع استخدام التليفون المحمول - والتي لا يمكن تبريرها أو قبولها تحت أية ذريعة – والتسليم أيضاً بتسارع إمكانياته التكنولوجية خاصة في مجال التصوير والعرض. فلابد لي من أن أذكر أن هناك حوادث مماثلة فد حدثت بالفعل خاصة لبعض الفنانات من مختلف الجنسيات. لكن الأمانة تقتضي القول أن كل ذلك لا يشكل قاعدة عامة في استخدام التليفون المحمول ولم تقفز المشكلة لتغطي قري بأكملها وليس مدنا كما يشير كاتب التعليق.
.
والشكر واجب لكاتب المقال أنه بفطنته التي لاتخفي، لم يقترح إلغاء التليفون المحمول بأكمله، وتحريم تداوله بالبيع أو الشراء، مع تحريم حمله أو اجتنابه علي أحسن التقديرات. باعتباره رجزاً من عمل الشيطان. والعودة إلي التواصل والاتصال بين العباد بواسطة الطرق القديمة والتي قد أتحدث عنها فيما بعد. .
والأمر يذكرني بما يتردد حول كيف دخل التليفون العادي (الأرضي) لمملكة الحجاز الإسلامية المحافظة ، بعد أن ظل الملك رافضاً ذلك الأمر. بالرغم أن " المكالمة الأولي " كانت له شخصياً فقد خابره أحدهم من علي بعد مئات الأميال مرددا الدعاء بالصحة والعافية له. غير أنه شعر بالخوف الشديد وظل علي تخوفه وتطيره من هذا الاختراع الشيطاني الذي سيستخدم لا محالة – من وجهة نظره – في معصية الله.!! حتى تفتق ذهن أحدهم أن يسمع الملك الآذان عبر خط التليفون. هنا فقط بدأت عريكة الملك تلين ووافق علي إتمام المشروع.
.
وبطبيعة الحال فقد تغير - مع تقدم الوقت - نمط التفكير خاصة في قيمة أو كمّ استهلاكنا المفرط للتكنولوجيات العصرية، والتي تصل لحد الإفراط في استيراد تلك التكنولوجيا. ويقابل ذلك مع الأسف عدم القدرة علي إنتاجها والذي يصل لحد العجز المرضي والتكاسل المهين. وربما كان ذلك أحد الأفكار التي يجب أن تشغل بال "المفكرين والمثقفين والكتاب في الدول النامية". .
لم يقع كاتب المقال في خطأ الملك بل كنب مقالاً يشيد فيه "بالتليفونات المحمولة" وذكرياته معها، بعد أن نقي المقال من كلمات مثل " الكلاب وأولاد الحرام ". واعتقد أنه يتوجب علي الانتظار طويلاً حتى يراجع كاتب التعليق الكثير من الأمور ويكتب لنا عن أوجه المشكلة الحقيقية سياسية كانت أو ثقافية أو اقتصادية أو تربوية أو هو كل ذلك مجتمعاً. دعك عن مشكلة إمكانية نقل الحضارة أو التكنولوجيا المتقدمة بالشراء كما يتوهم البعض.
.
وعلي كل وبفرض صحة الرواية التي جاءت بالتعليق، فذلك يؤكد ما نسعى إليه من أن السائد للأسف يعد ثقافة متخلفة لا تفكر في المرأة إلا باعتبارها وعاءً لممارسة إن لم يكن الجنس الشرعي فهو أيضاً وعاء لممارسة الرزيلة حتى وإن كانت واقفة أمام منزلها أو كانت تعبر الشارع. فالزوجة – مثلاً - ووفق الكثير من الاجتهادات ليس لها سوي موافقة الزوج في أي وقت يدعوها لممارسة الجنس. دعك من تجاهل الناحية البيولوجية للمرأة باعتبار ممارسة الجنس حاجة لها أيضاً مثل ماهي حاجة للرجل، وعدم الأخذ في الاعتبار بحق المرأة " الإنساني والأخلاقي " في قبول أو رفض تلك الدعوة لأسباب تعود إليها سواء كانت تلك الأسباب نفسية أو عضوية أو حتى لمجرد عدم الرغبة أو عدم القبول ذاته ساعة دعوة الرجل لها. وكل ذلك معروف – الآن – ويشكل أو يجب أن يشكل جزءً ولو ضئيلاً من ملامح ثقافتنا وسلوكنا مع المرأة. وللمزيد حول نفس الموضوع يمكن للقارئ - إذا رغب - قراءة المقال: المرأة والرجل والبترودولار ...
.
ولعل الكاتب وطالما تطير لحد الهلع من تلك المشكلة التي يحدثنا عنها يكون أكثر حكمة وثقافة " في اتجاهها الذي يفضله" - خاصة أنه لا يري أن للمشكلة أوجهها العديدة- وبدلاً من أن يقفز ببراعة، ليأتينا بحله السهل أن يكتب لنا عوضاً عما اقترحته عليه، في أو حول أدبيات التمتع " جنسياً " بالوليدة أو بالبنت صغيرة السن". وهو موضوع شغل الكثيرون من السلف الصالح بالبحث فيه والفتوى له.!!! ولا يزال يجد حتى الآن من يروج له بعد أن أعطته تلك الفتاوى مبرره الشرعي. .
والكاتب لا ينسي أن يتلاعب - بالمرة - بما أؤمن به فيدعوني " لتحمل اختلاف الرأي" ولن أعقب بأكثر أنني أتحمله وسأنشره كإضافة للمقال مع إعطاء الحق لنفسي في الرد. وهو يري إنها مشكلة تربوية تواجهنا كمربين. وبالتأكيد فصيغة الجمع في مقولته تعنيه هو وغيره ممن يجدون في مثل تلك التفسيرات الملاذ الآمن. وكل ما يمكنني قوله أنك –كمربي– وبهذا الفهم الذي طرحته ستزيد من المشكلة سوءً وستخلق متعمداً حالة من الظلمة وسوء التقدير. وانك وبهذا التوصيف لا تصلح أن تكون بأكثر من داعية لمذهب متخلف لا يصلح ولا يفيد لا الوطن ولا العباد. ربما لو كنا في بدايات القرن الثامن عشر لكان من الممكن أن تكون داعيا ناجحا ومربيا ذو شأن.
وأخيراً ...
دعوة لي من الكاتب وإن كانت ليست بالدعوة الكريمة:
وأدعوك لعضوية اتحاد الكتاب العرب على النت فهذا حق لك علينا ولوإختلافنا في وجهات النظر فتجمعنا الكتابة بالعربية والذي خلقنا مختلفين هو الله . أكرر شكري وأرجو قبول الدعوة.
أترك القارئ لتدبر المعني، وكيف صيغت كلمات الدعوة. وأي عناء كان الكاتب واقعاً تحت تأثيره وهو يدعوني، ويا للعجب لممارسة حق لي. وأترك الأمر لفطنة الكاتب والقارئ بماذا سيكون ردي علي دعوته.
أشكر الأستاذ عبد العظيم المسلم.
تحياتي للجميع
.

آخر الكلام:
يحضرني مقطعاً صغيراً من قصيدة جميلة لشاعرة عراقية صغيرة السن تقول فيه:

.
أصابعك :
حين تقطف زهرة
حين تمسح جبين طفل
حين تقتل انسانا
خمسة أصابع

.



عادل محمود
القاهرة 30/3/2009
.

السبت، مارس ٢٨، ٢٠٠٩

2- الحرية والمرأة ...

أهتم للغاية برأي القارئ وتعليقه علي ما أكتب. وعدا بعض التعليقات التي ضمرت نوايا مسبقة فقد جاء العديد من القراء بمشاركات رائعة أضافت لي الكثير من فهم الموضوع. واعتقد أنه قد يكون في هذا التذييل بعض الفائدة للرد بشكل موسع علي كافة المداخلات التي تفضل أصحابها بكتابتها لموضوعي الحرية والمرأة. عدا تلك التعليقات التي أشرت اليها بانها تضمر نوايا مبيتة وأحكاما مسبقة فسأقوم بالرد عليهم بشكل منفصل.

بالفعل، في موضوعي عن حرية المرأة، يمكن رصد عدم اهتمام الثقافة المتخلفة السائدة الآن بأكثر من الشكل الخارجي لجسد المرأة. فهو الذي يجلب الفسق والعصيان من وجهة نظرهم. حتى أن الكثير منهم يقفزون لما هو أبعد من ذلك بدعوتهم بلا كلل لما هو أزيد من الحجاب. فهم يدعون للنقاب ودون سند أو مبرر شرعي. وكيف أن النقاب يحمي (الرجال) من الغواية، قبل أن يحمي النساء بطبيعة الحال.
فالمرأة عندهم وبكل أجزاء جسدها الذي كرمها به الله، مصدرا لغواية الرجل وإلهائه عن أمور دينه وإبعاده عن العبادة.!!! وكأن حق العبادة خاص بالرجل فقط. وكأنه - أي الرجل - لا يشكل عامل إغواء وإثارة للمرأة أيضا، ذلك إذا سلموا بأن حق العبادة مكفول للمرأة أيضاً. هل هذا يستدعي أن تطالب المرأة بأن يكون الرجل محجباً أو منقباً درءً للمعصية، وتحسباً من الوقوع في الرزيلة.
.
والغريب أنك تجد منهم من يقول أن الحجاب والنقاب هو لحماية المرأة قبل الرجل.!! حمايتها من ماذا؟ يقولون من الاعتداء عليها جنسياًً. في السعودية يحرم علي الرجل العمل كسائق خاص لسيارة أية امرأة ولا يجدون حرجاً أن يكون هذا السائق أجيراً أجنبياً. والتناقض هنا واضح فكأن هذا الأجير ليس برجل، له أيضاً شهواته، وكأن الأنثي التي تجلس خلفه تراه شيئا مخالفا لجنس الرجال.!! وقد يكون حل تلك المشكلة في غاية البساطة إذا أعطوا المرأة الحق في قيادة سيارتها بنفسها. وحتى الآن فذلك غير جائز شرعاً.!!
..
ويبدو أن هذا التفكير له جذوره القديمة والمتأصلة بفعل المعيشة في الصحراء. وما يعني ذلك من جدب الحياة وفقرها، والقتال من أجل حق الرعي، وما يتبع ذلك من سبي للنساء، وما يعنيه من عار مضاف للهزيمة يلحق بالعشيرة أو القبيلة المهزومة. ومع تغير الحال، ودخول الإسلام بتعاليمه السمحة. لم يستطع أولئك البدو تجاوز أو نسيان الجذور القديمة وكل ما ترسب بداخلهم من تربية صحراوية شرسة. وبدلاً من أن يهذب الإسلام نفوسهم ومشاعرهم، ويدفع - خاصة - الرجال منهم لاحترام جنس المرأة وليس التفكير بهذا الشكل المريض كلما صادف الفرد منهم أنثي تعبر الطريق.!! هل هذا منطقي وعادل.؟!!
.
ومع سجن جنس الأنثي بأكمله ووفق تلك المخاوف السقيمة، والتي شكلت مع الأسف ثقافة سائدة أوجز وصفها المرحوم الشيخ الغزالي حين قال عنها: أنها ثقافة المرحاض.!
كأنهم يعلمون حكمة الخلق أكثر من الله نفسه، فلسان حالهم يقول: حسناً، لقد خلقت لنا يارب هذا المخلوق الجميل.!! لتدفعنا تلك الأنثي بما أعطيتها من جمال ورقة لممارسة الرزيلة. وتجعلنا نبعد عن طريق عبادتك وطاعتك وحبك. فالحكمة تقتضي أن نسجن هذا المخلوق اتقاء لشره الذي يمكن أن يحدث لو تركناه ( حراً ) يسير ويعمل ويشارك ويعمر كما اقتضت مشيئتك.
.
لا أعتقد أن الله أعطاهم هذا الحق ولا الشرع يمكن أن يعطيهم هذا الحق، ولا التفكير السوي. لذا فهم يكرهون لحد التطير أية دعوة للتجديد أو الإصلاح، أو مجرد التفكير بطريقة تخالف مقاصدهم ونواياهم. كما يكرهون ويمقتون أية دعوة لحرية الوطن والعباد كافة.
.
وأنا هنا أتحدث عن حرية لا تفرق بين الرجل والمرأة، ولا بين الأسود والأبيض، وهي أيضاً لا تفرق بين الناس لدياناتهم ومعتقداتهم. الكل سواسية ومتساوون ومأمورون بالعمل والسعي والكد لتعمير الأرض والارتقاء بالأرواح والمشاعر، وهي أيضا حرية المواطنة وقبول الآخر.
وفي نفس الوقت فهم يفصلون حرية خاصة بهم، تناسب تفكيرهم السقيم. فيصادرون حرية وكيان وأنوثة المرأة. ويجاهدون في غباء للحجر علي الآخرين وعدم قبولهم والنفور منهم وضمر العداء لهم. لكنها وفي نفس الوقت هي حرية للحى وكم يتوجب أن يكون طولها، وحرية للسراويل وتكحيل أعين الرجال (وليس النساء)، وحرية أن يسود الحجاب والنقاب، وحرية تكفير من يخالفهم. وحرية الجهاد بالقتل وبالانتحار وترويع الآمنين. وجر البلاد والعباد لمنظومة متكاملة من التخلف والجهل والاقتتال بين مختلف الطوائف.
وهي حرية قتل كل حلم بالتقدم والتنوير والتطوير والتحديث. فكل ذلك في عرفهم هرطقات. فالأهم عندهم من كل ذلك هو إرضاء الله بتطويل اللحية، وكيف تربط عمامة المجاهد، وكيف يتوجب عليه النطق بالشهادة قبل أية عملية انتحارية. أو شكر الله إذا نجح في تفجير بعض القنابل عن بعد لقتل فقراء المسلمين. وهي أيضاً حرية الجهاد الأحمق ضد كل من لا ينتمي لهم بالعقيدة والفكر والفهم والأسلوب.
.
ثم !!!
لا شئ أكثر من تنظير ودفاع باطل لا يمس سوي المظهر أو الشكل الخارجي، ويسجنه ويزيفه لدرجة التشويه، والتبعية الذليلة لأفكارهم الحمقاء. هل من الممكن أن نتوهم أن هذا المسخ الذي يشوهونه كل يوم للرجل وليس للمرأة فقط هو خليفة الله في الأرض، الذي خلقه وكرمه وأسند إليهما مهاما لا تليق إلا بالإنسان.
كل الود والتقدير للجميع.
..
يمكن للقارئ الرجوع لأصل المقال المعنون: الحرية والمرأة (اضغط)
.....
عادل محمود
القاهرة. 8/3/2009
...

تكفير الشعر والشعراء ...

كان هذا تعقيب لي في نقاش دار بين مجموعة من المثقفين. وأجد أن الضرورة تقتضي نشره كما هو مع بعض التصرف خاصة بعد التعليقات التي وصلتني مكتوبة في موضوع لي منشور بعنوان قراءة لقصيدة مطر.

هذا نقاش طيب، ويمكن أن يكون مثمرا ويضيف عدة سطور تزيدنا فهما، وقد تزيدنا تحرراً أو انغلاقاً وحسب مجريات الحوار وأسانيده. ومن خلال حواركم الممتع استأذنكم بداية علي تثبيت مفهوم قد يزيد من التسرع بفتاوى لا يجب أن تصدر عنا بتكفير شاعر أو كاتب. وحسنا فعلتم بالبعد عن مناقشة ذلك، أو ربطها بشخص أي شاعر بالرغم من محاولات البعض جرنا لذلك الأمر. وسواء كان الشاعر ميتا أو لايزال حيا، فقضية إيمانه أو كفره هي مسألة تعود إليه بالدرجة الأولي. وهي مسألة لا يستطيع أحد أن يجزم بها لأنها تشكل علاقة الرجل بربه. وهي علاقة أِشبه بحبل غير مرئي يتناوب فيه الرجل الشد تارة والجذب تارة وإرخاء الحبل تارة أخري. ما أود قوله أن أي حديث عن الإيمان أو الكفر لا ينبغي أن يطول شخصية الإنسان، أو الرجل، أو المواطن، ولا ينبغي أن ننبش في تاريخه وأقواله خاصة الأدبية للتدليل علي واحد من الأمرين. لنقصر الحديث إذن علي الشعر فقط والناحية الفنية فيه.
.
ومعلوم للجميع أن الشاعر له أدواته الخاصة التي يستعملها. وبقدر مهارة استخدامه لتلك الأدوات بقدر ما يصبح شعره راقيا. وفي المقابل فرجل الدين أو الداعية له أدواته هو الآخر والتي تيسر له عمله في تبسيط المفاهيم الدينية وتقريبها من قلوب وعقول الناس. والمؤكد أنه ليس من بين تلك الأدوات تكفير الشعر أو الشعراء. ولا ينبغي أن يكون من بينها أيضاً التدخل في عمل الشاعر، وما يقدمه تحت أية ذريعة دينية كانت أو أخلاقية. مع التسليم بحقه في التعليق والنقد ذلك إذا كان يملك ناصيته بطبيعة الحال وإلا أصبح حديثه مجرد هراء لا فائدة تجني منه، والأغلب أنه لا يهدف منه إلا تضييع الوقت وذر الرمال في العيون للبعد عن أصل الموضوع. - وهذا مايحدث - فالداعية مرورا بمن يدعي الغيرة علي مكارم الأخلاق والسلام الأسري، وتجنب العار الذي يمكن أن يلحقه فيما إذا قرأت امرأته أو أخته بعض الشعر!! يخلط بين فهم قاصر ومتخلف لوظيفته "كمتلقي" وبين وظيفة الشاعر أو الفنان عموماً.
يسهل فهم مثل هذا الرأي ونحن نعود بالذاكرة لطالبان مثلاً وهم " ينسفون بالديناميت" بضعة تماثيل حجرية كانت تدلل علي حقبة تاريخية مرت بها بلادهم. هو إذن نوع من الخلط الأحمق لوظيفتهم المفترضة والتي منحوها لأنفسهم "كحماة للفضيلة وحماة للدين" و"وظيفة" الفن عموماً ممثلا في تلك التماثيل الحجرية التي لا يدعوا أحداً لعبادتها.
.
الخطأ الذي يقع فيه رجل الدين أو الداعية هو أنه يخلط بين أدوات الشاعر، وأدواته هو المحددة وفق "فهمه للشريعة والدين". وفي حالتنا فأدوات رجل الدين محددة بما جاء في القراَن. واعتقد أنه تحديد محكم وعلي قدر كبير من الحس والوعي. ذلك إذا لم يبدأ رجل الدين أو الداعية أو المؤسسة الدينية التي ترعي كل منهما بوضع تصورهم وفهمهم لكل ذلك. ومن هنا تبدأ أول خطوة في فتاوى التكفير والتحريم.
.
وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء : 224]. القراّن إذن لم يكفر شاعراً. وأقسى ما جاء بالقراَن في حديثه عن الشعراء هو أنهم أي الشعراء "يتبعهم الغاوون". وهو قول لايرقي لاتهام الشعراء بأي تهمة من أي نوع. واعتقد أنه نوع من لطف الله بالشعراء واعتراف منه بقيم الجمال التي ينشروها. أليس الله جميلا يحب الجمال؟! وكثير من سور القراّن ينساب فيه الشعر بالنثر في بساطة ويسر وإبهار وإحكام*. "معجزة القراّن. الشيخ الشعراوي صفحة 38"
لاحظ كلمة وتوصيف "الغاوون" في مقابل أية أخري تتحدث بكلمات واضحة لا غموض فيها ولا لبس في المعني عن الفرق بين الشعر والقراّن: "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ" [يس : 69].
الغواية في الآية الأولي، وما يمكن أن نسهب في الحديث عن تلك الكلمة هي الإشارة الوحيدة - والتي كما أسلفت لا ترقي لاتهام محدد- للشعراء في القراّن. لماذا ؟! لأن القراّن بنص الآية الثانية ماهو إلا "ذكر وكلام مبين". الفارق واضح بين غايات الشعراء وغايات القراّن دون تحامل من القراّن أو اتهام الشعر أو الشعراء بما ليس فيهم أو في كلامهم.
.
ثمة أمر آخر جدير بالملاحظة والتنويه، وأعني تلك الآراء التعسفية التي تصدر عن البعض دون فهم لطبيعة الشعر كفن يدعو لقيم الجمال. وحين تتحاور معهم فستكتشف أنه ليس لديهم من ثقافة إنسانية تتيح لهم ولو بالحد الأدنى نوعا من التصالح والفهم لبقية الثقافات والذي يشكل الفن - والشعر نوع من أنواعه - جسراً للعبور والتلاقي والفهم. أستطيع أن أسميهم أولئك الذين يروجون لهذا الفهم المتعسف بجهلهم المطبق وعدم درايتهم أو بالأحري عدم قدرتهم علي تذوق الكلمة الجميلة والتي تطرز لوحة فنية. لا يمكن بطبيعة الحال لأعداء الجمال وأنصار القبح والظلمة أن يتفهموا سطراً واحدا منها.
.
والمؤكد أن الثقافة السائدة والتي نجحت باقتدار في عبور البحر والتمركز في الدول الخصبة، والغنية بتراثها الثقافي المتعدد، قد أضافت مزيد من النجاحات بتشويه النفوس وتمجيد القبح ونزعات التطرف وزيادة قسوة وتحجر القلوب، وتحت مسميات غريبة لا تمت للدين بصلة أو بالضمير الإنساني وتطلعه نحو مزيد من الثقافات والمعرفة، وليس فقط التقوقع داخل ثقافة الصحراء والجاهلية والفهم الجاهل لكافة الأمور.
.
والشاعر حاله حال أي مبدع له أن يستعين بصور لم تتطرق لها حضارة بلده أو ثقافتها. فزواج الاّلهة، وعشقهم للنساء، وصراعهم من أجل ذلك، ووجود أولاد لهم يعدون أنصاف آلهة، وغيرة زوجة رب الأرباب "جويبتر" وحربها المدمرة لكل أنثي يعشقها زوجها حتى لو كانت ضمن طبقة الآلهة. كل ذلك وغيره كثير وليد ثقافات مغايرة للثقافة الإسلامية. ولا ضير أن يأخذ منها الشاعر ما يشاء ليرسم لنا صور جميلة يتصارع فيها الحب والجمال في مواجهة القبح والشر والظلام. وكلما ازداد أعداد "الغاوون" خلفه كلما كان ذلك مؤشرا لبراعة الشاعر وقدرته وخياله وثقافته وتحرره دون أن يمس أو يقترب أو يغير من الثوابت الدينية، لسبب بسيط أنها ليست بقضيته التي يتبناها ويدافع عنها. وأيضا لأن كل ما سيقوله لا يندرج تحت مسمي "الذكر والكلام المبين" فهو لن يزيد عن كلام " يتبعه الغاوون".

.
عادل محمود
القاهرة. 28/03/2009
.
.

الأربعاء، مارس ١٨، ٢٠٠٩

(11) حكايات مسافر.. ".نبؤات أداموس وصدام حسين."

.

بعد أن طال إنتظاره فإنه لن يعود إلي أوربا أبداً.
سوف يظهر في آسيا.
أحد أفراد العصبة، متحدر من هرمس العظيم.
سيكبر متجاوزاً كل القوي الأخرى في الشرق.
"النبؤة 75 للقرن العاشر. من نبؤات نوستراداموس".

..
هل كان بإمكان أحد ألا ينبهر بشخصية صدام حسين. لا أعتقد ذلك، فقد استطاع الرجل وفي فترة وجيزة أن يغير من معالم العراق، وأن يحولها إلي دولة قوية تتسارع فيها معدلات التنمية. وأن يعيد بناء بغداد لتصبح عاصمة تضاهي في جمالها مدن الغرب الغنية. وكذا فعل بباقي المدن العراقية مركزاً علي البنية الأساسية من شوارع واتصالات وخطوط مياه وصرف صحي وتصريف لمياه الأمطار والسيول وتعليم ورعاية طبية بالمجان.

.

وبنفس السرعة في البناء راح يهدم كل شئ فوق رؤوس أبناء الشعب العراقي. وقد أثبتت الوقائع أن الرجل لا يملك لا الفهم الواعي بدور العراق في المنطقة، ولا الحس الكافي لأن يجنب بلاده الدمار والهوان . وفي كل ما حدث لم يكن يملك فهم وحس السياسي أو رجل الدولة المسئول أمام شعبه. بل كان أقرب في أفعاله إلي زعيم العصابة القوي، وهو نفس الدور الذي مارسه بجدارة خلال فترة نضاله - السري - قبل الثورة وظل لصيقا ً به بعد الوصول إلي كرسي الحكم.
الرجل إذن محكوم بهذا الأسلوب وبهذا الفكر - زعيم العصابة القوي - في التعامل مع أعدائه ومعارضيه، وحتى مع أصدقائه، ثم مع الدول بعد أن أصبح رئيساً وزعيماً لدولة العراق.
حدثني صديقي أبو حسام قائلاً :
- تبدو مبهوراً بصدام .
- نعم ، ففي رأيي أن هذا الرجل إذا ما أحسن الاختيار فسوف يفعل الكثير.
- يحسن الاختيار ليست بالكافية. ستظل تقول إذا أحسن الاختيار. وإذا أبعد أولاده وأقاربه وأفراد عشيرته عن مواقع السلطة. وإذا أعطي للشعب حريته. وإذا ، وإذا . ليس بوسع صدام فعل كل ذلك.
- وماذا تري .
- أري أن الخوف كل الخوف من هذا الرجل. فهو سيجر العراق لهاوية سحيقة.
- لاتكن متحاملاً علي الرجل.
- لا تنسي ياصديقى أنه من عشيرتى، ومع ذلك فبإمكانى وضميري مستريح أن أقول أن هذا الرجل سيجر العراق وربما المنطقة كلها إلى كارثة لا يعلم مداها إلا الله وحده. فالرجل لايزال صغير السن وتنقصه الكثير من التجارب والحنكة، والكياسة أيضاَ. وهو سائر وراء وهم الزعامة للمنطقة والأحلام التوسعية لا تحدها حدود أو عوائق. ولا تنسي جذوره وكيفية نشأته، هو في كل ما يصدر عنه من أفعال يبدأ بالانتقام والقتل، وقد يكون مصدر كل ذلك هو رواسب بداخله نتيجة لطفولته التعيسة. وربما أشعل كل ذلك ما غذاه به حزب البعث من عقائد. أضف إلى كل ذلك أن مثل هذا الشخص وبهذا الوصف يغرف من أموال العراق كما يشاء دون أدنى محاسبة أو مراجعة. ماذا تنتظر ياصديقى المصري من مثل هذه الشخصية إذا ما وثبت إلى الحكم.؟!!

.

جري هذا الحديث مع صديقي العراقي قبل وقوع الحرب الإيرانية بمدة كافية، ووقتها كان نجم صدام حسين في قمة السماء، فخصومه من باقي الأحزاب قد أعدموا أو فروا أو تحولوا إلي حلفاء ضعاف. والرجل - هذا الوقت - كان قد أحال العراق إلي ورشة عمل كبيرة، وكان هناك العديد من الشركات والعمال من مختلف الجنسيات ودخل المواطن العراقي كان في ازدياد مضطرد.

..

ومع كل ذلك فقد أثبتت الأيام أن أبو حسام لم يكن متحاملاً عليه. ويبدو أنه كان يقرأ بشكل جيد تلك الشخصية وكيف نشأت وكيف أشتغل بالسياسة إلي أن صار الزعيم والقائد والملهم والرئيس صدام حسين. يتذكر الجميع أن صدام حسين بدأ نجمه في الظهور وهو متوار خلف شخصية الرئيس السابق أحمد حسن البكر. وسار الأمر علي هذا النحو، بدا أن التقارب والتفاهم بين الرجلين وثيقاً للغاية، وهو أمر مفهوم في البلاد النامية والتي تتحكم فيها تقاليد وأعراف القبيلة والعشيرة وسلطة الشيخ أو الأب، فالاثنان يرتبطان بعلاقات قرابة، وينتميان لنفس القبيلة. كما أن صدام ومن خلال العمل السياسي السري قد ساهم بحد كبير بوصول البكر إلي موقع الرئاسة.

.

وكان ما يصدر عن القائد الأب - كما كان البكر يسمي في تلك الأيام - كان صدام يبلغه للشعب بشكل رومانسي وأشبه بمن ينقل تعليمات والده الطيب كبير السن المحب لشعبه. ولا أعتقد أنه كان هناك فرد من العامة لم ينبهر بشخصية صدام - السيد النائب - كما كان يطلق عليه تلك الأيام وهو يري كل هذا الوفاء منه للرئيس البكر القائد والأب.

.

وكانت ثاني الخطوات هو التأكيد علي أهمية وقوة شخصية صدام مع الاحتفاظ بنفس الإسلوب السابق في التعامل مع القائد الأب. بحيث أصبح الجميع علي دراية بأن شخصية السيد النائب هي الأقوى والأكثر تحكماً، وقد ساعد علي ذلك الأمر حالة البكر الصحية المتدهورة. وخلال تلك الفترة كان يبدو أن صدام يرتب أشياء كثيرة للعراق وله شخصياً. فقد ارتفع دخل المواطن العراقي كثيراً، وبدا أنه مقبل علي التمتع والرقي بحياته، كما وأن كثير من المشاريع وخطط التنمية الطموحة بدأت تري النور، وتصاعدت الأحلام في عراق قوي ومعاف يمارس دوره في المنطقة بقوة وتأثير بفضل وعزم السيد النائب. ساعد علي كل ذلك ارتفاع أسعار البترول، والهدوء النسبي مع إيران والأكراد، والوهم بأن الساحة العربية خالية من الزعامة وذلك بعزل مصر الذي تم إعداده وفق ترتيبات عراقية وتحت إشراف صدام شخصياً وبموافقة أغلبية الدول العربية في قمة بغداد الشهيرة.

.

وتجئ الخطوة الثالثة بسرعة كبيرة بانقلاب صدام السلمي علي الأب القائد، الذي سلم طوعاً مقاليد الحكم والرئاسة إلي صدام بعد خطاب قصير، بدا فيها أن الرجل علي دراية مسبقة بما يمكن أن يحدث له ولأولاده، إذا ما رفض عرض صدام بالعيش بقية حياته في هدوء ودعة وترك مقاليد الحكم لصدام الشاب القوي. ورتب الأمر بشكل لا يبرع فيه حتى مخرجو أفلام الميلودراما الهنود. فقد قام بعد ذلك صدام ومعه أعضاء القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث بزيارة القائد الأب والتبرك برأيه ومشورته، وبعد ذلك اختفي الرجل تماماً عن الأنظار وحتى مماته.

.

وبدأت الاحتفالات بوصول صدام لموقع القيادة والرئاسة والسلطة، وأعلن صدام علي الملأ، وأمام جموع الشعب العراقي الزاحف للتهنئة، ووسط أعضاء القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث وهم ممسكين بيد بعضهم البعض في إشارة واضحة لحكم الجماعة المبني علي التكاتف والتشاور والتعاون. بأنه سيكون (راية وسط الرايات ومهما تعددت وسيكون سيفاً وسط السيوف ومهما تميزت) وسيكون وسيكون وسط العديد من الاعتبارات المثالية الرائعة.

وبالفعل صدق صدام في أحد إختيارته، فقد تحول إلي سيف قاس وباتر، فلم يمضي وقت كبير حتى كان أكثر من نصف تلك الرايات التي كانت ممسكة بيده قد أعدمت بتهمة الخيانة العظمي. ويؤكد الكثير من العراقيين بأن صدام قد شارك بنفسه في إعدام البعض منهم. ومن الغريب أن يتحول القتل إلي متعة عند صدام وأبناؤه وكلاب حراسته. فكم من جرائم القتل ارتكبت، وكم من تصفيات جسدية للأصدقاء والمعارضين تمت دون أن يجرؤ أحد أن يقول لماذا. فالسيد الرئيس في بلادنا التعيسة لا يحاسبه أحد ولا يناقشه أحد.

.

ومع مرور الأيام بدا واضحاً للجميع أن صدام هو الشخصية الوحيدة القوية والحاكمة. وبدا واضحاً أنه لا يجرؤ كائناً من كان علي التلفظ بأي كلمة بحق السيد الرئيس، فما بالك بمن يجرؤ علي التفكير بنقده أو التلميح بذلك. وأحكم السيد الرئيس الحلقة حول رقاب الجميع بتعزيز أجهزة الشرطة والمخابرات والأمن العام والحرس الخاص، وجميعها كانت أجهزة شيطانية تولي رئاستها أقارب صدام وإخوته وأولاد أعمامه.حتى المؤسسات المدنية لم تترك في حالها بل تولي أمرها الأقارب أو رجال الحزب المقربين لصدام، وأصبح كل شئ محكوماً بدائرة صدام، الأسرة، العشيرة، الحزب.

هكذا كانت الدولة في العراق. ويبدو أن صدام كان مصدقاً أن شعبه مقتنع بما يفعل حماية للوطن والثورة والمكاسب الاشتراكية. وتحول إلي نصف إله ( إذا قال فعل كما كان يروجون ). ومع تضخم ذاته بات الرجل مقتنعاً بأنه هو الدولة وهو الوطن وهو الحزب وهو العراق وهو الثورة وهو كل شئ. وتصدق مقولة كامو " في البداية جميعنا ينشد العدالة وينتهي بنا الأمر بنا بنصب أعمدة المشانق." .

كانت الجداريات الضخمة تنتشر بمداخل الأحياء وصور السيد الرئيس تغطي كل شبر فيها. تارة وهو بالزى العسكري، وجدارية أخري خاصة بصورة ضخمة له وهو بالزى المدني، وأخري وهو يرتدي قبعة غربية وغيرها بالعقال العربي. وأصبح شيئاً مألوفاً أن تحمل المدارس والشوارع وكثير من الأحياء والمستشفيات والمطارات وبعض المحافظات والكثير من المؤسسات الحكومية أسم القائد صدام. وراحت وسائل الإعلام تلهج بذكر مغامرات السيد الرئيس (الملهم)، وبأقواله التاريخية. وكان شيئاً عادياً أن يظل التلفزيون في بث كافة أنشطة وتحركات السيد الرئيس القائد حتى ما بعد منتصف الليل. وليس هناك بالعراق من يحمل لقب (الرئيس) سوي صدام فهو رئيس الدولة والقائد العام ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء. وتحول أفراد الشعب بالعراق كله إلي لاعبين للعبة سخيفة وقاسية، أشبه بلعبة العسكر والحرامية. وتحول مفهوم الولاء الذي وضعه جهابذة الحزب والدولة الصدامية إلي مفهوم مدمر، بحيث أصبح إذا لم تكن معنا فأنت علينا. وكانت التعليمات صارمة، بحيث أصبح لزاماً أن يسبق ذكر اسم الرئيس كلمة السيد للتبجيل، ثم القائد، ويلي ذلك الدعاء لله بأن يحفظه. وكنت تلمح الخبث في العيون وهم يرددون باَلية تلك المفردات عند الحديث عن صدام. ولنا أن نتخيل كيف سيكون باقي الحديث طالما كانت بداياته عن السيد الرئيس القائد حفظه الله. وبالنتيجة فقد تحول الكثيرون من طبقات الشعب إلي مجرد متفرجين ومصفقين. وكانت ازدواجية الشخصية والتوتر والتشنج هو أهم ما يميز العراقي ويعاني منه. ووسط التعبيرات الغير متداولة أعجبني تعبير يقول بأن كل فرد بالعراق يمشي وسكينه مغروز في ظهر من أمامه.

.

العراق في النهاية هو ضيعة كبيرة من ممتلكات صدام وأولاده وعشيرته. كل العراق، الأرض ومن عليها من بشر. ولم يعد مطلوباً من العراقي أكثر من أن يلهج بالدعاء والشكر لذلك الزعيم الفذ الذي يحارب دوماً كل القوي الشريرة التي تسعي لخنق عراق النضال والثورة والتقدم ومحاربة الإمبريالية وإسرائيل. وتم تصفية العقل العراقي بمهارة يحسدون عليها. ولم يعد هناك كاتب أو شاعر أو مفكر عراقي يستطيع أن يكتب في موضوع آخر عدا بطولات صدام الزائفة واحتياج العراقيون والعرب إلي هذا القائد الفذ.
وليس بالمستغرب وبينما الحرب مع إيران مستعرة تحصد الأرواح وتحرق الأخضر واليابس، وليس من بارقة أمل في نهاية قريبة لها، ليس غريباً أن تظهر في الأسواق طبعة حكومية لنبؤات نوستر أداموس التي تتحدث في نبؤة منها عن الزعيم القوي الذي سيأتي من الشرق وليس أوربا. كما أن النبؤة التي تسبقها كانت تتحدث عن الحرب العراقية الإيرانية، فإذا صدقنا الأولي فلماذا لا نصدق الثانية.

ينتهي عام العدد السابع الأكبر.
سيظهر في زمن تكثر فيه التسلية بالقتل .
ليس بعيداً عن فترة العصر الألفي السعيد العظيم .
عندما يخرج الموتى من قبورهم.
"النبؤة 74 للقرن العاشر من نبؤات نوستراداموس"

.
لا أدعي القدرة علي تفسير رباعيات أداموس أو تذليلها بحيث تصبح جاهزة لأحداث وقعت أو هي جارية بالفعل. وقد جاء في تفسير تلك النبؤة بأنها (تنبئ عن حرب في نهاية السبعينات 1979- 1980 (نهاية القرن حسب تصنيف أداموس للسنين والقرون). بالرغم ما يمثله السطر الأخير من رعب فائق. ويمكن أن نفسر ذلك الرعب والمتمثل بخروج الموتى من قبورهم بأنه الكشف عن الكثير من الجثث فيما عرف بالمقابر الجماعية. وبعيداً عن كل ذلك فالرسالة هنا واضحة تماماً سواء كان جهابذة صدام هم الذين أرسلوها أم غيرهم. فهي تفيد بأن هذا هو قدر العراق فالحرب - مع إيران - واقعة لامحالة بشهادة نوستر أداموس، كما أن القدر يختزن لهم زعيمهم القوي الذي سيأتي ليحرر الأمة من سباتها الطويل. ذلك تفسير منطقي يبرر إلاهتمام المبالغ فيه لوزارة الثقافة والإعلام العراقية بنشر العديد من أدبيات الباراسيكولوجي وطبع نبؤات أداموس وبيعها بسعر رخيص للغاية. ماذا يبقي للعقل العراقي بعد هذا الحصار الشديد.

.

ويمكن القول بأن صدام حسين أصبح نموذجاً للطاغية المستبد والذي تجد أمثاله منتشرين بالعديد من الدول العربية والإفريقية ودول العالم الثالث عامة. وهم دون جدال - ومن حولهم المصفقين وبطانة اللصوص وكلاب الحراسة - أصل البلاء وسبب التخلف المذري الذي وصلت إليه تلك البلاد.

.

وأستطيع القول بأنه من السخافة والجهل أن نشير دوماً إلي مؤامرات الخارج وقوي الإمبريالية والصهيونية و.... و .... إلي آخر تلك المفردات السخيفة، التي بعقبها دوماً المارشات العسكرية والأغاني الثورية والحماسية وخلق حالة عامة من الشد العصبي والتوتر والصراخ من أجل رفع رايات النضال الثوري. كل تلك الحماقات غير المحسوبة النتائج يمارسها السيد الرئيس القائد صدام حسين، وأيضا السادة الطغاة القادة الزعماء الملهمين في كافة الدول المغلوبة علي أمرها. والأجدى والأحق بالنضال هو أن نقاوم أولاً وثانياً وأخيراً أولئك الحكام الطغاة وأن نمارس الحياة أحراراً كما أرادها لنا الخالق .

.

ويصبح السؤال المؤلم والمحير: متي تصبح الدول العربية نموذجاً للديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحرية الفرد. متي نجرد الحاكم من ألوهيته الزائفة ويصبح الشعب ممثلاً في برلمانات حقيقية وفعالة وأجهزة رقابة قوية - صحافة وإعلام وقضاء - متي يستطيعون إيقاف السادة القادة الملهمين عند حدود دورهم البشري، ونزع فتيل غرورهم الأحمق وتسلطهم علي رقاب العباد، ومحاسبتهم وحتى عزلهم عند إصرارهم علي ممارسة شذوذهم وحماقاتهم القاتلة. يبدو أنه حلم لا يزال بعيد المنال .

.

أنظر حولي بأسي ومرارة لحال ذلك البلد العربي الذي استطاع ذلك الزعيم الملهم والتاريخي - ومعه حفنة من اللصوص والقتلة - سرقته.


القاهرة – مارس 1990
...