السبت، مارس ٢٨، ٢٠٠٩

تكفير الشعر والشعراء ...

كان هذا تعقيب لي في نقاش دار بين مجموعة من المثقفين. وأجد أن الضرورة تقتضي نشره كما هو مع بعض التصرف خاصة بعد التعليقات التي وصلتني مكتوبة في موضوع لي منشور بعنوان قراءة لقصيدة مطر.

هذا نقاش طيب، ويمكن أن يكون مثمرا ويضيف عدة سطور تزيدنا فهما، وقد تزيدنا تحرراً أو انغلاقاً وحسب مجريات الحوار وأسانيده. ومن خلال حواركم الممتع استأذنكم بداية علي تثبيت مفهوم قد يزيد من التسرع بفتاوى لا يجب أن تصدر عنا بتكفير شاعر أو كاتب. وحسنا فعلتم بالبعد عن مناقشة ذلك، أو ربطها بشخص أي شاعر بالرغم من محاولات البعض جرنا لذلك الأمر. وسواء كان الشاعر ميتا أو لايزال حيا، فقضية إيمانه أو كفره هي مسألة تعود إليه بالدرجة الأولي. وهي مسألة لا يستطيع أحد أن يجزم بها لأنها تشكل علاقة الرجل بربه. وهي علاقة أِشبه بحبل غير مرئي يتناوب فيه الرجل الشد تارة والجذب تارة وإرخاء الحبل تارة أخري. ما أود قوله أن أي حديث عن الإيمان أو الكفر لا ينبغي أن يطول شخصية الإنسان، أو الرجل، أو المواطن، ولا ينبغي أن ننبش في تاريخه وأقواله خاصة الأدبية للتدليل علي واحد من الأمرين. لنقصر الحديث إذن علي الشعر فقط والناحية الفنية فيه.
.
ومعلوم للجميع أن الشاعر له أدواته الخاصة التي يستعملها. وبقدر مهارة استخدامه لتلك الأدوات بقدر ما يصبح شعره راقيا. وفي المقابل فرجل الدين أو الداعية له أدواته هو الآخر والتي تيسر له عمله في تبسيط المفاهيم الدينية وتقريبها من قلوب وعقول الناس. والمؤكد أنه ليس من بين تلك الأدوات تكفير الشعر أو الشعراء. ولا ينبغي أن يكون من بينها أيضاً التدخل في عمل الشاعر، وما يقدمه تحت أية ذريعة دينية كانت أو أخلاقية. مع التسليم بحقه في التعليق والنقد ذلك إذا كان يملك ناصيته بطبيعة الحال وإلا أصبح حديثه مجرد هراء لا فائدة تجني منه، والأغلب أنه لا يهدف منه إلا تضييع الوقت وذر الرمال في العيون للبعد عن أصل الموضوع. - وهذا مايحدث - فالداعية مرورا بمن يدعي الغيرة علي مكارم الأخلاق والسلام الأسري، وتجنب العار الذي يمكن أن يلحقه فيما إذا قرأت امرأته أو أخته بعض الشعر!! يخلط بين فهم قاصر ومتخلف لوظيفته "كمتلقي" وبين وظيفة الشاعر أو الفنان عموماً.
يسهل فهم مثل هذا الرأي ونحن نعود بالذاكرة لطالبان مثلاً وهم " ينسفون بالديناميت" بضعة تماثيل حجرية كانت تدلل علي حقبة تاريخية مرت بها بلادهم. هو إذن نوع من الخلط الأحمق لوظيفتهم المفترضة والتي منحوها لأنفسهم "كحماة للفضيلة وحماة للدين" و"وظيفة" الفن عموماً ممثلا في تلك التماثيل الحجرية التي لا يدعوا أحداً لعبادتها.
.
الخطأ الذي يقع فيه رجل الدين أو الداعية هو أنه يخلط بين أدوات الشاعر، وأدواته هو المحددة وفق "فهمه للشريعة والدين". وفي حالتنا فأدوات رجل الدين محددة بما جاء في القراَن. واعتقد أنه تحديد محكم وعلي قدر كبير من الحس والوعي. ذلك إذا لم يبدأ رجل الدين أو الداعية أو المؤسسة الدينية التي ترعي كل منهما بوضع تصورهم وفهمهم لكل ذلك. ومن هنا تبدأ أول خطوة في فتاوى التكفير والتحريم.
.
وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء : 224]. القراّن إذن لم يكفر شاعراً. وأقسى ما جاء بالقراَن في حديثه عن الشعراء هو أنهم أي الشعراء "يتبعهم الغاوون". وهو قول لايرقي لاتهام الشعراء بأي تهمة من أي نوع. واعتقد أنه نوع من لطف الله بالشعراء واعتراف منه بقيم الجمال التي ينشروها. أليس الله جميلا يحب الجمال؟! وكثير من سور القراّن ينساب فيه الشعر بالنثر في بساطة ويسر وإبهار وإحكام*. "معجزة القراّن. الشيخ الشعراوي صفحة 38"
لاحظ كلمة وتوصيف "الغاوون" في مقابل أية أخري تتحدث بكلمات واضحة لا غموض فيها ولا لبس في المعني عن الفرق بين الشعر والقراّن: "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ" [يس : 69].
الغواية في الآية الأولي، وما يمكن أن نسهب في الحديث عن تلك الكلمة هي الإشارة الوحيدة - والتي كما أسلفت لا ترقي لاتهام محدد- للشعراء في القراّن. لماذا ؟! لأن القراّن بنص الآية الثانية ماهو إلا "ذكر وكلام مبين". الفارق واضح بين غايات الشعراء وغايات القراّن دون تحامل من القراّن أو اتهام الشعر أو الشعراء بما ليس فيهم أو في كلامهم.
.
ثمة أمر آخر جدير بالملاحظة والتنويه، وأعني تلك الآراء التعسفية التي تصدر عن البعض دون فهم لطبيعة الشعر كفن يدعو لقيم الجمال. وحين تتحاور معهم فستكتشف أنه ليس لديهم من ثقافة إنسانية تتيح لهم ولو بالحد الأدنى نوعا من التصالح والفهم لبقية الثقافات والذي يشكل الفن - والشعر نوع من أنواعه - جسراً للعبور والتلاقي والفهم. أستطيع أن أسميهم أولئك الذين يروجون لهذا الفهم المتعسف بجهلهم المطبق وعدم درايتهم أو بالأحري عدم قدرتهم علي تذوق الكلمة الجميلة والتي تطرز لوحة فنية. لا يمكن بطبيعة الحال لأعداء الجمال وأنصار القبح والظلمة أن يتفهموا سطراً واحدا منها.
.
والمؤكد أن الثقافة السائدة والتي نجحت باقتدار في عبور البحر والتمركز في الدول الخصبة، والغنية بتراثها الثقافي المتعدد، قد أضافت مزيد من النجاحات بتشويه النفوس وتمجيد القبح ونزعات التطرف وزيادة قسوة وتحجر القلوب، وتحت مسميات غريبة لا تمت للدين بصلة أو بالضمير الإنساني وتطلعه نحو مزيد من الثقافات والمعرفة، وليس فقط التقوقع داخل ثقافة الصحراء والجاهلية والفهم الجاهل لكافة الأمور.
.
والشاعر حاله حال أي مبدع له أن يستعين بصور لم تتطرق لها حضارة بلده أو ثقافتها. فزواج الاّلهة، وعشقهم للنساء، وصراعهم من أجل ذلك، ووجود أولاد لهم يعدون أنصاف آلهة، وغيرة زوجة رب الأرباب "جويبتر" وحربها المدمرة لكل أنثي يعشقها زوجها حتى لو كانت ضمن طبقة الآلهة. كل ذلك وغيره كثير وليد ثقافات مغايرة للثقافة الإسلامية. ولا ضير أن يأخذ منها الشاعر ما يشاء ليرسم لنا صور جميلة يتصارع فيها الحب والجمال في مواجهة القبح والشر والظلام. وكلما ازداد أعداد "الغاوون" خلفه كلما كان ذلك مؤشرا لبراعة الشاعر وقدرته وخياله وثقافته وتحرره دون أن يمس أو يقترب أو يغير من الثوابت الدينية، لسبب بسيط أنها ليست بقضيته التي يتبناها ويدافع عنها. وأيضا لأن كل ما سيقوله لا يندرج تحت مسمي "الذكر والكلام المبين" فهو لن يزيد عن كلام " يتبعه الغاوون".

.
عادل محمود
القاهرة. 28/03/2009
.
.

ليست هناك تعليقات: