الأربعاء، مارس ١٨، ٢٠٠٩

(11) حكايات مسافر.. ".نبؤات أداموس وصدام حسين."

.

بعد أن طال إنتظاره فإنه لن يعود إلي أوربا أبداً.
سوف يظهر في آسيا.
أحد أفراد العصبة، متحدر من هرمس العظيم.
سيكبر متجاوزاً كل القوي الأخرى في الشرق.
"النبؤة 75 للقرن العاشر. من نبؤات نوستراداموس".

..
هل كان بإمكان أحد ألا ينبهر بشخصية صدام حسين. لا أعتقد ذلك، فقد استطاع الرجل وفي فترة وجيزة أن يغير من معالم العراق، وأن يحولها إلي دولة قوية تتسارع فيها معدلات التنمية. وأن يعيد بناء بغداد لتصبح عاصمة تضاهي في جمالها مدن الغرب الغنية. وكذا فعل بباقي المدن العراقية مركزاً علي البنية الأساسية من شوارع واتصالات وخطوط مياه وصرف صحي وتصريف لمياه الأمطار والسيول وتعليم ورعاية طبية بالمجان.

.

وبنفس السرعة في البناء راح يهدم كل شئ فوق رؤوس أبناء الشعب العراقي. وقد أثبتت الوقائع أن الرجل لا يملك لا الفهم الواعي بدور العراق في المنطقة، ولا الحس الكافي لأن يجنب بلاده الدمار والهوان . وفي كل ما حدث لم يكن يملك فهم وحس السياسي أو رجل الدولة المسئول أمام شعبه. بل كان أقرب في أفعاله إلي زعيم العصابة القوي، وهو نفس الدور الذي مارسه بجدارة خلال فترة نضاله - السري - قبل الثورة وظل لصيقا ً به بعد الوصول إلي كرسي الحكم.
الرجل إذن محكوم بهذا الأسلوب وبهذا الفكر - زعيم العصابة القوي - في التعامل مع أعدائه ومعارضيه، وحتى مع أصدقائه، ثم مع الدول بعد أن أصبح رئيساً وزعيماً لدولة العراق.
حدثني صديقي أبو حسام قائلاً :
- تبدو مبهوراً بصدام .
- نعم ، ففي رأيي أن هذا الرجل إذا ما أحسن الاختيار فسوف يفعل الكثير.
- يحسن الاختيار ليست بالكافية. ستظل تقول إذا أحسن الاختيار. وإذا أبعد أولاده وأقاربه وأفراد عشيرته عن مواقع السلطة. وإذا أعطي للشعب حريته. وإذا ، وإذا . ليس بوسع صدام فعل كل ذلك.
- وماذا تري .
- أري أن الخوف كل الخوف من هذا الرجل. فهو سيجر العراق لهاوية سحيقة.
- لاتكن متحاملاً علي الرجل.
- لا تنسي ياصديقى أنه من عشيرتى، ومع ذلك فبإمكانى وضميري مستريح أن أقول أن هذا الرجل سيجر العراق وربما المنطقة كلها إلى كارثة لا يعلم مداها إلا الله وحده. فالرجل لايزال صغير السن وتنقصه الكثير من التجارب والحنكة، والكياسة أيضاَ. وهو سائر وراء وهم الزعامة للمنطقة والأحلام التوسعية لا تحدها حدود أو عوائق. ولا تنسي جذوره وكيفية نشأته، هو في كل ما يصدر عنه من أفعال يبدأ بالانتقام والقتل، وقد يكون مصدر كل ذلك هو رواسب بداخله نتيجة لطفولته التعيسة. وربما أشعل كل ذلك ما غذاه به حزب البعث من عقائد. أضف إلى كل ذلك أن مثل هذا الشخص وبهذا الوصف يغرف من أموال العراق كما يشاء دون أدنى محاسبة أو مراجعة. ماذا تنتظر ياصديقى المصري من مثل هذه الشخصية إذا ما وثبت إلى الحكم.؟!!

.

جري هذا الحديث مع صديقي العراقي قبل وقوع الحرب الإيرانية بمدة كافية، ووقتها كان نجم صدام حسين في قمة السماء، فخصومه من باقي الأحزاب قد أعدموا أو فروا أو تحولوا إلي حلفاء ضعاف. والرجل - هذا الوقت - كان قد أحال العراق إلي ورشة عمل كبيرة، وكان هناك العديد من الشركات والعمال من مختلف الجنسيات ودخل المواطن العراقي كان في ازدياد مضطرد.

..

ومع كل ذلك فقد أثبتت الأيام أن أبو حسام لم يكن متحاملاً عليه. ويبدو أنه كان يقرأ بشكل جيد تلك الشخصية وكيف نشأت وكيف أشتغل بالسياسة إلي أن صار الزعيم والقائد والملهم والرئيس صدام حسين. يتذكر الجميع أن صدام حسين بدأ نجمه في الظهور وهو متوار خلف شخصية الرئيس السابق أحمد حسن البكر. وسار الأمر علي هذا النحو، بدا أن التقارب والتفاهم بين الرجلين وثيقاً للغاية، وهو أمر مفهوم في البلاد النامية والتي تتحكم فيها تقاليد وأعراف القبيلة والعشيرة وسلطة الشيخ أو الأب، فالاثنان يرتبطان بعلاقات قرابة، وينتميان لنفس القبيلة. كما أن صدام ومن خلال العمل السياسي السري قد ساهم بحد كبير بوصول البكر إلي موقع الرئاسة.

.

وكان ما يصدر عن القائد الأب - كما كان البكر يسمي في تلك الأيام - كان صدام يبلغه للشعب بشكل رومانسي وأشبه بمن ينقل تعليمات والده الطيب كبير السن المحب لشعبه. ولا أعتقد أنه كان هناك فرد من العامة لم ينبهر بشخصية صدام - السيد النائب - كما كان يطلق عليه تلك الأيام وهو يري كل هذا الوفاء منه للرئيس البكر القائد والأب.

.

وكانت ثاني الخطوات هو التأكيد علي أهمية وقوة شخصية صدام مع الاحتفاظ بنفس الإسلوب السابق في التعامل مع القائد الأب. بحيث أصبح الجميع علي دراية بأن شخصية السيد النائب هي الأقوى والأكثر تحكماً، وقد ساعد علي ذلك الأمر حالة البكر الصحية المتدهورة. وخلال تلك الفترة كان يبدو أن صدام يرتب أشياء كثيرة للعراق وله شخصياً. فقد ارتفع دخل المواطن العراقي كثيراً، وبدا أنه مقبل علي التمتع والرقي بحياته، كما وأن كثير من المشاريع وخطط التنمية الطموحة بدأت تري النور، وتصاعدت الأحلام في عراق قوي ومعاف يمارس دوره في المنطقة بقوة وتأثير بفضل وعزم السيد النائب. ساعد علي كل ذلك ارتفاع أسعار البترول، والهدوء النسبي مع إيران والأكراد، والوهم بأن الساحة العربية خالية من الزعامة وذلك بعزل مصر الذي تم إعداده وفق ترتيبات عراقية وتحت إشراف صدام شخصياً وبموافقة أغلبية الدول العربية في قمة بغداد الشهيرة.

.

وتجئ الخطوة الثالثة بسرعة كبيرة بانقلاب صدام السلمي علي الأب القائد، الذي سلم طوعاً مقاليد الحكم والرئاسة إلي صدام بعد خطاب قصير، بدا فيها أن الرجل علي دراية مسبقة بما يمكن أن يحدث له ولأولاده، إذا ما رفض عرض صدام بالعيش بقية حياته في هدوء ودعة وترك مقاليد الحكم لصدام الشاب القوي. ورتب الأمر بشكل لا يبرع فيه حتى مخرجو أفلام الميلودراما الهنود. فقد قام بعد ذلك صدام ومعه أعضاء القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث بزيارة القائد الأب والتبرك برأيه ومشورته، وبعد ذلك اختفي الرجل تماماً عن الأنظار وحتى مماته.

.

وبدأت الاحتفالات بوصول صدام لموقع القيادة والرئاسة والسلطة، وأعلن صدام علي الملأ، وأمام جموع الشعب العراقي الزاحف للتهنئة، ووسط أعضاء القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث وهم ممسكين بيد بعضهم البعض في إشارة واضحة لحكم الجماعة المبني علي التكاتف والتشاور والتعاون. بأنه سيكون (راية وسط الرايات ومهما تعددت وسيكون سيفاً وسط السيوف ومهما تميزت) وسيكون وسيكون وسط العديد من الاعتبارات المثالية الرائعة.

وبالفعل صدق صدام في أحد إختيارته، فقد تحول إلي سيف قاس وباتر، فلم يمضي وقت كبير حتى كان أكثر من نصف تلك الرايات التي كانت ممسكة بيده قد أعدمت بتهمة الخيانة العظمي. ويؤكد الكثير من العراقيين بأن صدام قد شارك بنفسه في إعدام البعض منهم. ومن الغريب أن يتحول القتل إلي متعة عند صدام وأبناؤه وكلاب حراسته. فكم من جرائم القتل ارتكبت، وكم من تصفيات جسدية للأصدقاء والمعارضين تمت دون أن يجرؤ أحد أن يقول لماذا. فالسيد الرئيس في بلادنا التعيسة لا يحاسبه أحد ولا يناقشه أحد.

.

ومع مرور الأيام بدا واضحاً للجميع أن صدام هو الشخصية الوحيدة القوية والحاكمة. وبدا واضحاً أنه لا يجرؤ كائناً من كان علي التلفظ بأي كلمة بحق السيد الرئيس، فما بالك بمن يجرؤ علي التفكير بنقده أو التلميح بذلك. وأحكم السيد الرئيس الحلقة حول رقاب الجميع بتعزيز أجهزة الشرطة والمخابرات والأمن العام والحرس الخاص، وجميعها كانت أجهزة شيطانية تولي رئاستها أقارب صدام وإخوته وأولاد أعمامه.حتى المؤسسات المدنية لم تترك في حالها بل تولي أمرها الأقارب أو رجال الحزب المقربين لصدام، وأصبح كل شئ محكوماً بدائرة صدام، الأسرة، العشيرة، الحزب.

هكذا كانت الدولة في العراق. ويبدو أن صدام كان مصدقاً أن شعبه مقتنع بما يفعل حماية للوطن والثورة والمكاسب الاشتراكية. وتحول إلي نصف إله ( إذا قال فعل كما كان يروجون ). ومع تضخم ذاته بات الرجل مقتنعاً بأنه هو الدولة وهو الوطن وهو الحزب وهو العراق وهو الثورة وهو كل شئ. وتصدق مقولة كامو " في البداية جميعنا ينشد العدالة وينتهي بنا الأمر بنا بنصب أعمدة المشانق." .

كانت الجداريات الضخمة تنتشر بمداخل الأحياء وصور السيد الرئيس تغطي كل شبر فيها. تارة وهو بالزى العسكري، وجدارية أخري خاصة بصورة ضخمة له وهو بالزى المدني، وأخري وهو يرتدي قبعة غربية وغيرها بالعقال العربي. وأصبح شيئاً مألوفاً أن تحمل المدارس والشوارع وكثير من الأحياء والمستشفيات والمطارات وبعض المحافظات والكثير من المؤسسات الحكومية أسم القائد صدام. وراحت وسائل الإعلام تلهج بذكر مغامرات السيد الرئيس (الملهم)، وبأقواله التاريخية. وكان شيئاً عادياً أن يظل التلفزيون في بث كافة أنشطة وتحركات السيد الرئيس القائد حتى ما بعد منتصف الليل. وليس هناك بالعراق من يحمل لقب (الرئيس) سوي صدام فهو رئيس الدولة والقائد العام ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء. وتحول أفراد الشعب بالعراق كله إلي لاعبين للعبة سخيفة وقاسية، أشبه بلعبة العسكر والحرامية. وتحول مفهوم الولاء الذي وضعه جهابذة الحزب والدولة الصدامية إلي مفهوم مدمر، بحيث أصبح إذا لم تكن معنا فأنت علينا. وكانت التعليمات صارمة، بحيث أصبح لزاماً أن يسبق ذكر اسم الرئيس كلمة السيد للتبجيل، ثم القائد، ويلي ذلك الدعاء لله بأن يحفظه. وكنت تلمح الخبث في العيون وهم يرددون باَلية تلك المفردات عند الحديث عن صدام. ولنا أن نتخيل كيف سيكون باقي الحديث طالما كانت بداياته عن السيد الرئيس القائد حفظه الله. وبالنتيجة فقد تحول الكثيرون من طبقات الشعب إلي مجرد متفرجين ومصفقين. وكانت ازدواجية الشخصية والتوتر والتشنج هو أهم ما يميز العراقي ويعاني منه. ووسط التعبيرات الغير متداولة أعجبني تعبير يقول بأن كل فرد بالعراق يمشي وسكينه مغروز في ظهر من أمامه.

.

العراق في النهاية هو ضيعة كبيرة من ممتلكات صدام وأولاده وعشيرته. كل العراق، الأرض ومن عليها من بشر. ولم يعد مطلوباً من العراقي أكثر من أن يلهج بالدعاء والشكر لذلك الزعيم الفذ الذي يحارب دوماً كل القوي الشريرة التي تسعي لخنق عراق النضال والثورة والتقدم ومحاربة الإمبريالية وإسرائيل. وتم تصفية العقل العراقي بمهارة يحسدون عليها. ولم يعد هناك كاتب أو شاعر أو مفكر عراقي يستطيع أن يكتب في موضوع آخر عدا بطولات صدام الزائفة واحتياج العراقيون والعرب إلي هذا القائد الفذ.
وليس بالمستغرب وبينما الحرب مع إيران مستعرة تحصد الأرواح وتحرق الأخضر واليابس، وليس من بارقة أمل في نهاية قريبة لها، ليس غريباً أن تظهر في الأسواق طبعة حكومية لنبؤات نوستر أداموس التي تتحدث في نبؤة منها عن الزعيم القوي الذي سيأتي من الشرق وليس أوربا. كما أن النبؤة التي تسبقها كانت تتحدث عن الحرب العراقية الإيرانية، فإذا صدقنا الأولي فلماذا لا نصدق الثانية.

ينتهي عام العدد السابع الأكبر.
سيظهر في زمن تكثر فيه التسلية بالقتل .
ليس بعيداً عن فترة العصر الألفي السعيد العظيم .
عندما يخرج الموتى من قبورهم.
"النبؤة 74 للقرن العاشر من نبؤات نوستراداموس"

.
لا أدعي القدرة علي تفسير رباعيات أداموس أو تذليلها بحيث تصبح جاهزة لأحداث وقعت أو هي جارية بالفعل. وقد جاء في تفسير تلك النبؤة بأنها (تنبئ عن حرب في نهاية السبعينات 1979- 1980 (نهاية القرن حسب تصنيف أداموس للسنين والقرون). بالرغم ما يمثله السطر الأخير من رعب فائق. ويمكن أن نفسر ذلك الرعب والمتمثل بخروج الموتى من قبورهم بأنه الكشف عن الكثير من الجثث فيما عرف بالمقابر الجماعية. وبعيداً عن كل ذلك فالرسالة هنا واضحة تماماً سواء كان جهابذة صدام هم الذين أرسلوها أم غيرهم. فهي تفيد بأن هذا هو قدر العراق فالحرب - مع إيران - واقعة لامحالة بشهادة نوستر أداموس، كما أن القدر يختزن لهم زعيمهم القوي الذي سيأتي ليحرر الأمة من سباتها الطويل. ذلك تفسير منطقي يبرر إلاهتمام المبالغ فيه لوزارة الثقافة والإعلام العراقية بنشر العديد من أدبيات الباراسيكولوجي وطبع نبؤات أداموس وبيعها بسعر رخيص للغاية. ماذا يبقي للعقل العراقي بعد هذا الحصار الشديد.

.

ويمكن القول بأن صدام حسين أصبح نموذجاً للطاغية المستبد والذي تجد أمثاله منتشرين بالعديد من الدول العربية والإفريقية ودول العالم الثالث عامة. وهم دون جدال - ومن حولهم المصفقين وبطانة اللصوص وكلاب الحراسة - أصل البلاء وسبب التخلف المذري الذي وصلت إليه تلك البلاد.

.

وأستطيع القول بأنه من السخافة والجهل أن نشير دوماً إلي مؤامرات الخارج وقوي الإمبريالية والصهيونية و.... و .... إلي آخر تلك المفردات السخيفة، التي بعقبها دوماً المارشات العسكرية والأغاني الثورية والحماسية وخلق حالة عامة من الشد العصبي والتوتر والصراخ من أجل رفع رايات النضال الثوري. كل تلك الحماقات غير المحسوبة النتائج يمارسها السيد الرئيس القائد صدام حسين، وأيضا السادة الطغاة القادة الزعماء الملهمين في كافة الدول المغلوبة علي أمرها. والأجدى والأحق بالنضال هو أن نقاوم أولاً وثانياً وأخيراً أولئك الحكام الطغاة وأن نمارس الحياة أحراراً كما أرادها لنا الخالق .

.

ويصبح السؤال المؤلم والمحير: متي تصبح الدول العربية نموذجاً للديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحرية الفرد. متي نجرد الحاكم من ألوهيته الزائفة ويصبح الشعب ممثلاً في برلمانات حقيقية وفعالة وأجهزة رقابة قوية - صحافة وإعلام وقضاء - متي يستطيعون إيقاف السادة القادة الملهمين عند حدود دورهم البشري، ونزع فتيل غرورهم الأحمق وتسلطهم علي رقاب العباد، ومحاسبتهم وحتى عزلهم عند إصرارهم علي ممارسة شذوذهم وحماقاتهم القاتلة. يبدو أنه حلم لا يزال بعيد المنال .

.

أنظر حولي بأسي ومرارة لحال ذلك البلد العربي الذي استطاع ذلك الزعيم الملهم والتاريخي - ومعه حفنة من اللصوص والقتلة - سرقته.


القاهرة – مارس 1990
...

ليست هناك تعليقات: