الأحد، ديسمبر ٠٧، ٢٠٠٨

تقمص الشخصية في المسلسلات التلفزيونية. "نور الشريف"

.
وإذا كان الفخراني باستطاعته الترجل من سيارته والذهاب فورا لموقع التصوير أو الأستوديو ليؤدى أحد أدواره، فالأمر يختلف تماما مع نور الشريف. نجح نور الشريف وباقتدار في تأدية العديد من ألأدوار المختلفة. وقد رأينا تلك المقدرة تصاحبه منذ شبابه وخطواته الأولي في السينما. أدي دور الحبيب في فيلم رومانسي جميل (حبيبي دائما)، كما أدي دوراً مميزاً في ( الأخوة الأعداء )، والعامل البسيط في (سواق الأتوبيس)، ولا ننسي دوره المميز في فيلم (كتيبة الإعدام) وأيضا في فيلم (العار).

القاسم المشترك لبراعة نور الشريف في تأدية أي دور يعرض عليه هو الماكياج. ولو تأملت وجهه في الأدوار المختلفة التي تحدثت عنها أو غيرها لوجدت أنه يهتم بتفاصيل دقيقة للغاية يرسمها الماكياج فوق وجهه ليقترب من الشخصية. فما أبعد المسافة بين وجه نور نفسه، ووجه (الممثل) " الحاج البرعي " في "لن أعيش في جلباب أبي"، أو وجه شاب رومانسي حالم، أو وجه سائق أتوبيس، أو وجه شخص خارج من السجن بتهمة لم يرتكبها ويتربص به الجميع للقضاء عليه.
.
كثير من ممثلين السينما يهتمون للغاية بالماكياج، حتى السينما العالمية، الممثل الأمريكي الكوميدي (ايدي ميرفي) له مقولة معبرة ومفسرة لهذا الاهتمام فهو يقول: بدون وجود الماكياج لا يمكنني تأدية الكثير من الحركات والانفعالات بشكل أكبر وأدق ومرضي. ويبدو أن الممثل - بدون الماكياج اللازم - يشعر بأن ثمة شئ هام ينقص ادائه للشخصية التي يؤديها. هل هذا يعني أن الماكياج يساعد الممثل في عملية التقمص.؟! يبدو الأمر كذلك.

في المسلسل التلفزيوني الناجح جماهيريا (لن أعيش في جلباب أبي)، والذي كان يبدأ بتتر يصاحب سير نور الشريف في أحد الشوارع المزدحمة، مرتديا جلبابا فقيرا به الكثير من التمزقات ، ويضع غطاء رثا فوق رأسه، ودون أن يفقد وجهه قسماته الأصلية فقد تغير تماما لوجه أحد الفقراء المطحونين وهو يمسك " رغيف خبز" لاصقا إياه فوق صدره. وتلك الشخصية متواجدة باستمرار وتستطيع العين أن تلتقط العديد من المعدمين وبنفس الهيئة التي أحال الماكياج و"والملابس" الممثل إليها. المشهد كان طبيعيا للغاية وليس هناك أي هرج أو مرج من جمهور الشارع المزدحم والذي عادة ما يصاحب تصوير المسلسلات أو الأفلام، وما يعني ذلك من تواجد النجوم بالشارع ووسط الناس. حتى أنني – ولا زلت – علي اقتناع تام بأن كل ما فعله المخرج هو تخبئة الكاميرا عن الأعين. فلن يلتفت أو يهتم ولن يعرف أي فرد من جمهور الشارع الحقيقي بأن الماشي وسطهم هو الممثل نور الشريف بعدما نجح وباقتدار - وبمساعدة الماكياج - في تقمص تلك الشخصية المعدمة والمحبطة واليائسة والتي لا تملك من قوت يومها أكثر من رغيف خبز.

حتى لو لم يهدف الماكياج لتغيير معالم وجه الممثل، ليوظفه ويقربه للشخصية المطلوبة تأديتها، فهو يؤدي وظيفة أخري غاية في الأهمية، وهي جعل الوجه مقبولا للكاميرا. فمن المعروف أن هناك وجهاً لا تقبله الكاميرا بحيث يظهر علي شاشة السينما أو التلفزيون ليس به حيوية، ومختلفا تماما عن وجه صاحبه. أعتقد أن ذلك موجود أيضا في التصوير الفوتوغرافي. فكثيرا ما نسمع تعليقا يقول عن صورة أحد الأشخاص: لقد ظلمته الكاميرا.

والقاعدة أنه ما من ممثل - حتى لو كان وجهه مقبولا من الكاميرا - يصور دوره أحد الأفلام أو المسلسلات دون أن يضع علي الأقل القليل من المساحيق بمعرفة أخصائي الماكياج كي تتصالح الكاميرا مع هذا الوجه ولا تظهره وكأن لا حياة فيه، خاصة للقطات القريبة والتي تظهر تفاصيل دقيقة وخافية.

الماكياج - خاصة مع استعمال الإكسسوارات الحديثة لأجزاء الوجه - يساعد الممثل في تقمص الشخصية. وإذا أضفنا إلي ذلك تأثير الملابس فلا يبقي سوي فهم الممثل نفسه للشخصية، وقربه منها للحد الذي أشرت إليه بأنها قد تسوقه أو يسوقها، أو كما يقولون يركب الشخصية أو تركبه.
أتحدث بطبيعة الحال عن ممثلين كبار بحجم نور الشريف . فهو فنان قدير وحرفيته في الأداء عالية ، ومما يساعده علي ذلك نجاح الماكياج لرسم تفاصيل وجه الشخصية بدقة كما حدث في " مسلسل أديب " حيث قام بلعب الشخصية الرئيسية لشخص وجهه ملئ بآثار مرض الجدري .

والملاحظ أن نور فطن عن وعي أنه "كبر في السن"، فابتدأ يستعمل الملابس التي تناسب عمره. وأغلبها – علي الأقل – في المسلسلات التي شاهدتها له أخيرا – البذلات الواسعة بشكل ظاهر كما في مسلسل (حضرة المتهم أبي).

شاهدت أخيراً لنور الشريف مسلسل (الدالي) الذي جسد فيه شخصية رجل أعمال قوي وذو نفوذ وهو أيضا كبير عائلة (الدالي) الثرية والمهددة بزوال اسمها. لعب نور الشخصية بذكاء وحس إنساني راق، وطوال المسلسل كان مشغولا للغاية بين أعماله المتشعبة ومحاولاته حل معظم مشاكل تلك العائلة. اكتفي نور في هذا المسلسل بتقصير شعره، وخلافا لما هو معتاد كان يمشطه للأمام، إضافة للبذلات الواسعة كما نوهت.

نور الريف ممثل رائع بكل المقاييس، وهو حرفي أو صنايعي كما نقول، فهو ينشغل بكل كبيرة وصغيرة لإحكام المسك بالشخصية التي يؤديها، مستغلا " الماكياج" والملابس لزيادة قبضه علي تلك الشخصية حتى لا تفلت منه في أقل تصرفاتها. أضف لذلك أنه نجم جاد ومنضبط للغاية، فهو يحترم مواعيد عمله ويعد نفسه مسئولا عن العمل ككل.

ليس غريبا لفنان بكل تلك القدرات مثل نور الشريف أن يتقمص الشخصية من الخارج، بحيث يضيع أي تأثير لها علي حياته الخاصة، وشكل تعاملاته مع الآخرين فور خروجه من الأستوديو أو موقع التصوير. وإن كنت أشعر أنه يكون بحاجة للقليل من الوقت للتصالح وللإمساك ثانية بشخصيته الحقيقية.
...
ورأي جميل من الكاتبة " مني الشماخ " تقول فيه بعنوان: أصل وصورة:

لاشك أن العمل الدرامي كل متكامل لابد من توفر النجاح لكل عناصره حتى يمكن تعميم الحكم بالنجاح عليه. ويبقى العامل الأساسي والنهائي وهو الممثل الذي تتجمع من خلاله عناصر العمل الفني وللماكياج دور هام في اقناع المتلقي بالشخصية ورسم ملامحها في ذهنه ،ويتعاظم هذا الدور عندما يجسد العمل الفني سيرة ذاتية لشخصية حقيقية ،عاشت أو لازالت تعيش في ذاكرة الجمهور،وسأضرب مثالا وان كان يمثل تجسيد الشخصية في السينما الا أنه يعبر عما أقصده بوضوح: الفنان الراحل أحمد زكي وتجسيده لشخصيات الزعماء:جمال عبد الناصر، أنور السادات ، وأخيرا الفنان عبد الحليم حافظ.
فعلى الرغم من التباين الشديد في مظهر كل شخصية من الشخصيات السابقة، فضلا عن اختلافهم مع ملامح الفنان المؤدي إلا أن هذه الاختلافات تلاشت أمام براعة الماكياج الذي نجح (مع قدرة الفنان على التجسيد) في إقناع المشاهد أنه يرى أصل الشخصية لا صورتها..

نعم كلامك سليم ورأيك صحيح. ويجب في نفس الوقت ألا ننسي أن الراحل أحمد زكي كان ممثلاً بارعاً، أو " صنايعي " بدرجة امتياز في تقمص الشخصية من الداخل. بمعني أنه وبعد فهمه لحدود الشخصية التي كان عليه أن يلعب دورها كان يندمج معها للدرجة التي كانت تلك الشخصية تقوده في أبسط تصرفاتها. ولدرجة أنه كان يعاني الأمرين - من بعض الشخصيات التي لعب أدوارها وترك لها حرية اقتياده حيث تشاء وليس حيث هو يشاء - حتى ينتهي تأثيرها عليه، أو حتي يتمكن من التخلص منها ومن تأثيراتها عليه في حياته الفعلية. من تلك الشخصيات شخصية ضابط " المباحث " في فيلم " زوجة رجل مهم ". الذي يحاول الحفاظ علي الأمن والنظام بطريقته الخاصة والمحبط للغاية حين تغيرت كل مفاهيم التعامل مع المقبوض عليهم " سياسياً " إلي النقيض من طريقته في العمل تماماً.

كان الحل الدرامي - في الفيلم - لذلك المأزق بأن جعله كاتب الرواية والسيناريست يستمر في " تقمص " شخصية ضابط المباحث القوي حتى بعد فصله من الخدمة، ورغم معرفة من حوله بذلك. وفي الحياة العامة وبعد انتهاء التصوير غطت تلك الشخصية علي تصرفاته " الحقيقية " حتى أصابه نوع من الإكتئاب الشديد. لاحظ المفارقة في كل ذلك، ففي العمل أمام الكاميرا "لبست" شخصية ضابط المباحث وقبل طرده من الخدمة الممثل (أحمد زكي)، وكان عليه أن يؤدي بنفس الكيفية حتى بعد طرده من الخدمة. فظل تاركاً تلك الشخصية مسيطرة عليه وتقوده لصنع الأحداث رغم علم الجميع بأنه لم يعد ضابطاً أو قوياً كما كان.
ثم نأتي للمرحلة الأصعب، وأعني المرحلة التي تلي العمل والتصوير في الفيلم حيث ظلت تلك الشخصية تقود الإنسان والفنان أحمد زكي في حياته العادية وفي تعاملاته مع الناس. وكما ترين كان علي الفنان أحمد زكي أن يتقمص تلك الشخصية أو بالأحري تتقمصه تلك الشخصية ثلاث مرات وليس مرة واحدة. وبطبيعة الحال يصبح ذلك أمراً مزعجاً باستمرار تأثير تلك الشخصيات عليه لفترات قد تطول أو تقصر بعد انتهاء التصوير. خاصة مع تكرار مثل تلك الشخصيات " المركبة " في أفلامه والتي كان عليه أن يؤدي أدوارهم أو يعيش كل شخصية في أدق خلجاتها كما كان يفعل.

تلك هي سمة من سمات الممثلين العظام. طبعاً هناك الكثير يمكن قوله عن أعمال هذا الفنان الكبير تأييداً لكل ذلك. في هذا الفيلم تحديداً كثيراً ما أتوقف أمام الطريقة التي كان يتحدث بها أحمد زكي أو ضابط المباحث. ففي أحد الحوارات بينه وبين زوجته " ميرفت أمين " أستخدم طبقة صوتية بارعة لتعبر عن مدي الإحباط والحزن والهزيمة للشخصية، رغم أن التغيير في طبقة الصوت لم يتعد الثوان القليلة لكنه كان مقنعاً ومؤثراً.

وبالمقابل أجدني أقف موقفاً مخالفا للشخصيات التاريخية التي قام بتأدية أدوارها. جمال عبد الناصر والسادات وعبد الحليم. وبإيجاز شديد أري أنه نجح للغاية في تقمص شخصية الزعيم السادات رغم أنه قبض علي شخصيته من الخارج وليس من الداخل بالخلاف لطريقته المتبعة في تقمص الشخصية. الكتابة عن هذا الفنان تشكل موضوعا جميلاً قد أعود إليه .. الله يرحمه
..
القاهرة. 24/03/2009

...



ليست هناك تعليقات: