الأحد، ديسمبر ٢١، ٢٠٠٨

أول درس ...

.
هو درس بسيط للغاية، وبقدر بساطته بقدر ما كان عظيم التأثير في شخصيتي وربما في كل حياتي. كنت بالمرحلة الإعدادية ( المتوسطة ) بالصف الثاني. وجاء مدرس الرياضيات العجوز تسبقه حكايات مرعبة عنه زرعت الخوف والرعب داخل قلوبنا الخضراء آنذاك. وقلوبنا كانت بالفعل كذلك، وبالتأكيد فكل شيء قد تغير مع الوقت.
.
ضمن الحكايات التي سبقت مجئ هذا الأستاذ أنه يتعاطى الأفيون ولا يمكنه العمل دون أن يستحلب الأفيون طوال اليوم الدراسي. حتى أنهم أسموه (أبو افيونه)، وأنه قاس مع التلاميذ ولا يتورع عن ضربهم بعصا غليظة تصاحبه علي الدوام. ولكم أن تتخيلوا رعب الصف بأكمله ونحن نتنصت علي وقع أقدامه، أو أي صوت قد يصدر عنه قبل دخوله الصف. ويجئ الأستاذ وهو محمل بالعديد من الأدوات الهندسية الخشبية الضخمة. أهمها مثلث كبير للغاية وفرجار ضخم. لا ادري لماذا رحت أراقبه في كل صغيرة وكبيرة. كان أبيض اللون والأكيد أن جذوره تركية، وشعره غزير يكسوه الشيب. وكان يصر علي ارتداء بذلة وحيدة طوال العام دون أي اهتمام بأي نوع من الأناقة أو الترتيب. اكتشفت فيما بعد أنه أقرب في الشبه لاينشتاين في الشكل والملبس والتصرفات.
.
ولا أدري إن كان اينشتاين مثل أستاذنا الذي كان مشغولا دائما بشئ ما في فمه، كان يلوكه علي مهل وهو يتطلع إلينا مبتسما. لم يكن أفيونا كما زعموا فقد جاءت مناسبة ليحكي بنفسه عشقه لحبات القرنفل الجافة وأخذ يشرح لنا فوائد تلك البذور في تطهير الفم واللثة وأيضا فهي تضيف رائحة ذكية. وربما لغرابة شخصيته ابتدعوا له حكاية الأفيون. المهم ابتدأ الرجل معنا شرح أول درس، وكان واضحا غاية الوضوح في عمل اتفاق مسبق معنا بما يرضيه ولا يرضيه. أتذكر انه قال: دائما ما يأتي الألف قبل الباء. فلا يعقل أن أسمي مثلثا (ا . ج . ب) إنما الأصح أن أسميه (ا . ب . ج) . أرجوكم تذكروا هذا دائما. الباء تأتي دائما بعد الألف والاثنان بعد الواحد. عكس ذلك سأغضب وسأعاقب من لا يحترم النظام والمنطق.

كان الرجل يستخدم أدواته الهندسية الضخمة ببراعة وخفة ودقة وكأنه يرسم بها ولا يسطر خطوطا صماء. كان منظما ودقيقا وبسيطا في شرحه وتفسيره حتى لأعقد الأمور الرياضية علي عقولنا وفهمنا. بالتأكيد نسيت كلمات هذا المدرس العبقري، لكنه نجح معي أن أتعلم درسا رائعا. كيف أرتب أولوياتي بحيث لا تسبق الباء الألف. أتذكر وأنا بالجامعة - وقد نسيت تماما كلمات هذا المدرس - أنني أخذت قرارا بتأجيل الحب والتعرف علي الفتيات. لم يكن لا الوقت ولا ظروف الحياة تساعد علي مثل تلك الرفاهية لأمثالي، فاعتبرت أنها تأتي في المرتبة التالية من حيث الأهمية، وأن الأولوية أن أنتهي من دراستي وأتخرج وأعمل. واعترف انه لا يمكن للحياة أن تسمح لنا بتنفيذ مثل تلك القوانين بشكل دقيق وحسابي، ولكنني حاولت قدر استطاعتي. وحتى الآن حين أجد نفسي منشغلا في أمر ما قد لا أكون (أستحقه)، أجدني أستعيض عن هذا الانشغال بتأدية عمل آخر أنشغل فيه بكل دقة وإصرار وتركيز بحيث يعوضني عن انشغالي بالأمر الأول. وهذا ما حدث معي قيل يومين.

أستاذي العجوز ، لك كل تقديري واحترامي وتحياتي ، وليرحمك الله إن كنت حيا أو ميتا.
.

ليست هناك تعليقات: