الثلاثاء، أغسطس ٢٦، ٢٠٠٨

9 - حكايات مسافر .."الأكراد قادمون"

يوليو 1984

دعاني أحد الأصدقاء الأكراد لزيارته بمدينة السليمانية ، ورغم رغبتي الشديدة لزيارة تلك المدينة غير أنني كنت متردداً للغاية ، فالحرب العراقية الإيرانية لاتزال مشتعلة بضراوة وقصف المدن والقرى - خاصة الحدودية - متبادل بين الطرفين بهمجية غريبة فيما عرف بحرب المدن ، ولم تكن الأمور مع الأكراد - أيضاً - هادئة فحوادث القتل والإختطاف كثيرة وحملات الكراهية وعدم الثقة متبادلة بين الطرفين ويبدوا أنه لن يكون لكل ذلك نهاية قريبة.
أجمع كافة أصدقائي من المصريين والعراقيين - عرب وأكراد - أنه ليس هناك مبرراً للقلق فالطريق إلي السليمانية آمن وتحت السيطرة وكل ماعلي هو السفر قبل الغروب بفترة تكفي للوصول قبل حلول الظلام تحسباً لأي هجوم يحدث علي السيارات المارة والذي غالباً مايحدث بعد الغروب، كما نصحني الكثيرون أنه إذا ما سمعت صوت طلقات نارية فكل ماعلي أن أنبطح بباطن السيارة التي تقلني .
- من الواضح أن الأمور آمنة بالفعل .
- إنبطح بالسيارة ولن يحدث شئ، فهم غالباً يطلقون الرصاص من مسافات بعيدة وإذا كنت سعيد الحظ وبعيداً عن منطقة المنحنيات فلن يصيبك أنت أو السيارة أي مكروه .
- المسألة إذن تعتمد علي الحظ ؟
- قلت لك أنهم يطلقون الرصاص من فوق الجبال ومن مسافات بعيدة للغاية كما أن أفراد الجيش يلاحقونهم باستمرار، المهم ألا تتصرف بشكل خاطئ خاصة وأنت بمنطقة المنحنيات فالطريق خطر في تلك المنطقة الجبلية وكثيراً من السيارات هوت إلي أسفل الوادي .
- بالفعل أمان ، وأي أمان .

فضلت عدم السفر بسيارتي والسفر بأحد المكروباصات المغادرة إلي هناك، وربما كان تفكيري بأن مايمكن أن يحدث لي سيحدث لغيري والعكس صحيح طبعاً، نوع من الحسابات التي تجلب الطمأنينة والهدوء .
ومن الغريب أن السائق أو أي فرد آخر لم يردد أي نصيحة عما يتوجب عمله إذا ماداهم السيارة والركاب أي خطر، وأحسست من وجوه الركاب الصامتين أن الجميع علي دراية بالموقف، ولعل هذا هو سبب صمتهم. يبدوا أن الناس - في العراق - اعتادوا التعايش مع أجواء الخطر والرعب باعتباره قدراً لا مفر منه. لا أتذكر أن هناك أحداً كان يتحدث بصوت عال، أو أن السائق حاول أن يشغل راديو السيارة أو المسجل، لم يكن هناك سوي الصمت وسحب دخان السجائر الكثيفة .

استغرقت الرحلة زمناً طويلاً يزيد علي الخمس ساعات، ومع الوقت راحت الطبيعة تغير من شكلها وثيابها من أراضي صحراوية منبسطة وجرداء إلي جبلية وعالية تزحف عليها الخضرة بلا ترتيب وبلا اهتمام واضح من العنصر البشري. حتي ملامح الإنسان تغيرت هي الأخرى وأيضاً زيه. أخذ الزى الكردي الشهير يظهر، وبين الحين والآخر كانت مجموعات التفتيش من الأكراد العاملين مع الحكومة توقف السيارة ويقومون بفحص هويات الركاب، وعلي البعد كان هناك آخرون مدججين بأسلحتهم الآلية لحماية الطريق.

اقتربنا من السليمانية فبل الغروب بوقت كاف ومع ظهور معالمها راحت أصوات الركاب في الظهور، وارتسمت بعض الابتسامات الواهنة فوق الوجوه المتعبة، أدار السائق كاسيت سيارته لتتعالي موسيقي وأغنيات كردية هادئة جميلة. انشغل أحد الأكراد مستمتعاً بالترجمة لي، وبعربيتة الركيكة علمت أنها تتحدث عن الشوق للحبيب البعيد، كان الرجل يضع يده فوق قلبه مردداً بضعة كلمات، وراح يكررها مراراً حتى يطمئن أنني قد فهمت مقصده، ربما كان يود أن يقول لي:
- الحب مشكلة، ورغم كل تلك القسوة فنحن نحب وقلوبنا ضعيفة ورقيقة وليست قاسية كالحجر مثل اؤلئك العرب من أهل بغداد.
- الحب يا سيدي يمس كل القلوب، وهو لا يفرق بين قلب العربي والكردي . القلوب صنعة الله.
- لا أعني العشق بين الرجل والمرأة فقط. أعني أن قلوبنا مفتوحة بالحب للكل. لا يمكنني التفسير لعله يمكنك أن تلمس ما أعنيه بنفسك .
وعدت الرجل أن يكون هناك بيننا لقاء آخر لاستكمال الحديث، كان سعيداً للغاية ووعدني بأن يعرفني علي العديد من أصدقائه، وراح يلح علي بقبول دعوته للغذاء بمنزله .

في موقف السيارات وجدت صديقي ينتظر، كان يسلم علي بحرارة مهنئاً بسلامة الوصول. وراح يشد علي يد رفيقي بالسفر متحدثاً معه بالكردية. علمت أنهما أصدقاء. شرح صديقي لي أن حادث إطلاق رصاص قد وقع لأحد السيارات قبلنا بعدة ساعات، وأن هناك العديد من الضحايا. صدق حدسي إذن، وهذا هو سر الوجوم والصمت المطبقين علي الركاب. فمثل تلك الحوادث ينتقل خبرها فور وقوعها، ومعظم الركاب والسائق أيضاً كانوا علي دراية بالحادث، والجميع كانوا علي يقين بأن الطريق غير آمن بالشكل الكافي. ومع ذلك فقد بدا أن الجميع لم يجدوا مفراً غير أن يتعايشوا مع الخطر ومع بعض الأمل بأنه قد لا يأتي .
.
القاهرة. شتاء 1997

ليست هناك تعليقات: