الثلاثاء، أغسطس ٠٥، ٢٠٠٨

3 - حكايات مسافر.. " الطريق الي بغداد"

"القاهرة. صيف 1975"
حين زرت العراق لأول مرة كانت هناك نبرة تفاؤل عالية بأن هذا البلد من الممكن أن يضاهي أية دولة أوربية متقدمة، وكان هناك الكثير من الآمال التي عقدت علي هذا البلد وشعبه.ماالذي حدث . وهل من جديد يمكنه أن يأتي.
كان من الواضح أن ارتفاع أسعار البترول - نتيجة لحرب أكتوبر - أعطي دفعة كبيرة للدول العربية للسير قدماً تجاه تنفيذ خطط تنمية كبيرة لبلادهم وهو ما انعكس بعد ذلك علي تغيرات كبيرة في شكل الخدمات المقدمة للمواطن هناك مثل شبكات الطرق الرائعة والخدمات الصحية الراقية إضافة للخدمات التعليمية وغير ذلك في شتي مجالات التنمية.

كانت صفحات الجرائد ممتلئة هذه الأيام بإعلانات الوظائف المطلوبة للأسواق العربية . ولعل الساسة العراقيين رأوا أنه من الأنسب لهم التوجه مباشرة للسوق المصري لمعظم طلباتهم من الكوادر المطلوبة وذلك عن طريق الإعلانات بالجرائد اليومية ، فذلك إضافة انه يحقق شعاراتهم بأن العراق بلد كل العرب وأن أي فرد يستطيع دخول العراق والعمل بها - وتلك كانت الخطوة الثانية للتواجد المصري بالعراق - فقد كان ذلك يضمن لهم دفع مرتبات أقل مما يحدده بروتوكول التعاون بين البلدين، فضلاً عن مرتبات باقي دول الخليج ، وذلك وفق ما يسمي بالعقود الشخصية.وكان طبيعياً أن يبدأ بالكوادر المتخصصة والراقيه من المهندسين والأطباء والمحاسبين والمدرسين وأساتذة الجامعات . ذلك أن الوجود المصري في العراق كان قاصراً حتى ذلك الوقت علي الكفاءات التي تعمل بموجب بروتوكول التعاون بين البلدين ، وكان العدد قليلاً وأغلبهم من أساتذة التعليم الثانوي ومعاهد المعلمين ، كما كان يوجد أيضاً بعض مهندسين الري .
والحق ان العراق كان محقاً في ذلك ، فأحواله الإقنصادية - ذلك الوقت - لم تكن تسير بنفس الوتيرة المتصاعدة كباقي دول الخليج . كما انه كان يواجه حرباً في شمال البلاد ، وبالنتيجة فقد كانت طبيعة الحياة هناك أقرب في شكلها لطبيعة الحياة في مصر ، ويعزز من ذلك الأمر أن دخل المواطن العراقي كان تقريباً متساوياً مع دخل المواطن المصري.
.
وكان الانطباع السائد - ولايزال - عن العراق أنها بلد الثورات والانقلابات وأنهار الدماء والسجون وأحكام الإعدام . كانت الصورة أكثر من قاتمة ومع ذلك فقد أخبرني أحد الأصدقاء الذين زاروا العراق بأن الأمر لا يصل إلي هذا الحد ، وأن هناك الوجه الأخر وهو حسن إلي حد كبير . فتشابه الأحوال الاقتصادية وتساوي الدخل للمصريين والعراقيين جعل هناك نوعاً من القرب الطبيعي بين المصري والعراقي . خلافاً لما كان سائداً بباقي دول الخليج ، حيث العلاقة محددة ومعروفة سلفاً ، بحيث لاتسمح بأي علاقة أو تقارب ، بل علي العكس لابد من وجود مسافات فاصله ، لا يجوز للمصري أن يتعداها . كما أن البلاد جميلة وغنية والمستقبل يحمل الكثير من الرخاء ذلك أنهم فيما يبدو هناك لا ينقصهم الإيمان أو الشجاعة لتنمية بلادهم وتحديثها، وتلك الضمانة الحقيقية للإستقرار والتأثير علي مجريات الأمور.
.
كان كل ذلك يبدو صحيحاً للوهلة الأولي. لكن، هل ظلت تلك الصورة وبهذا الشكل. لماذا نسبق الأحداث. لنعد للبداية ثانية. جاء جاري الأستاذ عبد الموجود ، لتوديعي وإعطائي نصائحه ووصاياه الأخيرة . ومشكلة جاري أنه يعتقد أنه يفهم في كل الأمور لذا فحديثه يحتاج لوقت طويل وصبر لمتابعته .
- أخيراً ، هتسافر للعراق .
وراح يضحك ، ولم أجد سبباً للضحك ففضلت الصمت ، غير أن حالة من القلق بدأت تساورني ، فعبد الموجود حين يضحك - وهو يتحدث - بتلك الطريقة فلابد أنه يحمل أخباراً سيئة .
- فيه حاجه عاوز تقولها ياعبد الموجود . قامت ثوره جديدة في العراق .
واصل ضحكه ، وهو ينظر في وجهي ، زاد ارتباكي وأيقنت بأنه يريد إبلاغي رسالة خطيرة .
- العراق مش وحش ، بس خلي بالك .
- من إيه ؟
- أصل المشكلة مش في العراق . المشكلة فيك .
- أرجوك توضح كلامك ، إذا كان فيه حاجه مفيده قولها .
- ملكش دعوه بالسياسه !! إبعد عن السياسه هتعيش كويس .
والحق أن وصية جاري لم تكن الأولي ، فأي إنسان كان يعلم بسفري للعراق إلا وينظر في وجهي متأملاً ثم يتحدث إلي بإشفاق قائلاً :
- المهم ، تخلي بالك وماتتكلمش في السياسه.

كانت هذه النظرة السائدة عن العراق والعراقيين ، شعب متقلب ، الثورات والانقلابات كثيرة وتتسم بقدر كبير من الإنفعال والدموية ، حرية التعبير غير متاحة . وكل ماهو متاح أمام الفرد الانضمام للحزب الحاكم والالتفاف حول الزعيم والتغني بأمجاده.
.
ويبدو أنه كان لي رأي آخر ، فالكلام في السياسة - في رأيي - هو الحد الأدنى المتاح أمامي كي أعبر عن رأيي ، ليس مهماً أن أعمل بها ، فذلك أمر يجلب المتاعب بالفعل إضافة لأن ذلك له مؤهلاته التي لاتتوفر لدي ، وله أيضاً نوعية معينة من الرجال لا يجدون ضيراً في أن يتخلوا عن حرية فكرهم لخدمة المعتقد السياسي الذي يخدمونه . وأنا لا أستطيع العيش دون مساحة كافية خاصة بي لوحدى أتحرك فيها علي هواي ، أمارس فيها حريتي وأطلق العنان لفكري . وكما أنه لا يفترض أن يكون الإنسان ترساً منضبطاً داخل آلة كبيرة يملك مفتاح تشغيلها السلطان أو الزعيم ، فهو أيضاً ليس بالحيوان الذي يعيش فقط كي يأكل ويشرب ويتناسل ، لقد خلق الله الإنسان حراً كي يعمر ويبدع ، وتلك هي قمة المسئولية أمام الخالق .
- أنا عارف مفيش فايده ، إنت ناوي تقول الكلام ده هناك .
- ياعبد الموجود إحنا بندردش مع بعض .
- الكلام ده هناك ممكن يوديك ورا الشمس . خليك عاقل .
- يعني أعمل إيه .
- يا أخي إعمل معروف وماتتكلمش في حاجه . مالكش دعوه بكل الكلمات اللي هاتوديك في داهيه ، حرية ، واَله ، وحيوانات ، وزعيم ... أنا قلتلك . وانت حر .
- شفت أديك قلتها أنا حر .
كان من الواضح أن المناقشة مع جاري وصلت للحد الذي أصابه بنوع من القرف . نظر إلي وهو يبتسم في بلادة ، ثم أدار رأسه بعيدا في إشارة معبرة عن تجاهلي ، وسأل عن السيارة التي تقلني للمطار .
- ياخونا التاكسي أخباره إيه .
- التاكسي وصل.

أقلتني سيارة تاكسي طراز فيات قديمة ومتهالكة ، القاهرة في يوليو لاتطاق ، من المؤكد أن حرارة الشمس أذابت طبقة الأسفلت التى تغطى الطريق ، ذلك أمر واضح من صوت احتكاك عجلات السيارة العجوز بأرضية الشارع ، ليختلط كل ذلك بأدخنة تتصاعد من كل أجزاء السيارة ، نكاد أن نختنق ، أصرخ بيأس :
- افتحوا الشبابيك .
- الشبابيك كلها مفتوحه .
- ياعم ، إنت جايب العربيه ديه منين .
- يابيه دي عربيه مفيش منها ، دي إتنين كامه .
- إتنين كامه ولا عشرين ، المهم إعمل حاجه للدخنه اللي هتقضي علينا .
- ده الشكمان ، وشوية تصليح بسيط وتبقي رهوان .
- ياعم صلحها ، حرام عليك .
- ما نت عارف يابيه الظروف ، شوف كيلو اللحمه بقي بكام.!!

كان لأي حديث تلك النهاية . ومها تحدثنا ، في السياسه أو الأدب أو العلوم ، فلابد أن ينتهي بنا الحال الي الأسعار واللحمه والزيت والسمن ورغيف العيش والسكن والحكومه وإسرائيل . ومع كل ذلك فأنني أعتقد أن جيلي كان أكثر راحة وسعادة بل وزهواً . كنت وانا واحد من هذا الجيل لدي الأمل والتفاؤل بغد أفضل لابد له أن يأتي . كان يجمعنا الإحساس بالفخر بعد حرب أكتوبر ، ولم يكن لدي أي منا أدني إستعداد للمزايدة علي إنتصارنا في إكتوبر ، كنا نعاني من المعيشة واللحمه والزيت والسمن ورغيف العيش والسكن ، ليكن ، لكن الغد سيأتي بكل الخير لمصر .
- ياعم حاسب ، إيه اللي بتعمله ده .
- يظهر يابيه والله أعلم أنه الكاربراتير .
- أنت مش قلت الشكمان !!
- الكاربراتير برضه تعبان شويه .
- هيه باينه من أولها ، الطياره ميعادها خلاص .
- إن شاء الله فيه وقت . ماتستعجلش.

إحساسنا بالوقت غريب ، لاأعتقد أن هناك مشكلة بيننا وبينه ، ولن تجد شعباً غني للصبر مثلما غنينا ، وتظل عالقة بذهني - ومنذ الطفولة - تلك اللافتة المعلقة بأحد المحلات وقد كتب عليها الصبر ورسم بجانب الكلمة مفتاح ضخم.من المؤكد أن الصبر يكون مطلوباً عند الشدائد ونفاذ الوسيلة ، لكن أن نركن إليه هكذا وبهذا الشكل فتلك مشكلة كبيرة وفي حاجة لدراسة . كان لدي الحس بأنه ينبغي أن نتعامل مع الوقت بشكل أفضل .
- هيه اللحمه برضه السبب .
- الظروف يابيه تعمل أكتر من كده .
- نزل الشنطه .
لم يكن بالإمكان أن نمشي الي المطار رغم أنه لم يكن بعيداً ، رحت اشير للسيارات التي كانت تتسابق فيما بينها ، وأخيراً توقفت أحد السيارات الخاصه ، شرحت له المشكله ، سمح لنا مشكوراً بالركوب .
- المشكله أن التاكسي مع أنه اتنين كامه بس الشكمان تعبان شويه .
- إنشاء الله هتلحق الطياره .
- إحساسي إنها طارت خلاص .
وصلت أخيراً المطار ، إقتربت من موظف الإستعلامات ، سألته بقلق عن رحلة بغداد .
- طيارة بغداد عليها تأخير ، عطلانه .
- عطلانه !! الشكمان برضه، إمتي هيصلحوها .
- الله أعلم . بعد ساعتين ، بعد أربعه ، ماتستعجلش .
- بس دي طياره ، والمفروض أنهم ...
- دور علي مندوب العراقيه وقله الكلام ده.

كنت أعتقد أن حركة الطائرات أكثر دقة في مواعيدها عن أي وسيلة أخري للمواصلات ، إلا أن اعتقادي هذا ظل خاطئاً لفترة طويلة ، خاصة لخطوط الطيران العربية . حاولت ومعي بعض المسافرين ، العثور علي مندوب الخطوط العراقية دون جدوى ، نصحنا أحدهم بدخول قاعة الترانزيت للاستراحة ومتابعة أخبار الطائرة. سألته:
- أيمكنني الخروج بعد ذلك والبقاء مع أسرتي .
- طبعاً مش ممكن ، لأنك لو دخلت الترانزيت ، بعد ختم الجواز ، كأنك خرجت بره مصر .
- بس أنا لسه جوه مصر .
- شوف ، واضح إنك مش فاهم تعليمات السفر ، علشان تدخل منطقة الترانزيت وتخرج منها ، فلا بد من إلغاء إجراءات المغادرة ، وعند دخولك مرة ثانيه ، لابد من إعادة إجراءات المغادرة مره ثانيه. دي قوانين وتعليمات.
- وطبعاً هناك فيه ختم تاني وبيانات تانيه .
- هناك فين ؟
- بغداد .
- هو أنت مسافر بغداد .
- أيوه ، فيه حاجه .؟!
- لأه ، مفيش ، هناك ياسيدي فيه ختم وفيه حاجات تانيه كتيره .
من الواضح أنني كنت جاهلاً تماماً بكل تلك القوانين والتعليمات، ولم يكن لدي مقدرة علي الاقتناع بها، إلا أنني علي الأقل أدركت أن السفر من دولة عربية لأخرى عربية له طقوسه التي لابد وأن تنقذ ، ورحت استرجع مفردات تلك الطقوس ، منطقة ترانزيت ، ختم مغادرة ، ختم وصول ، بيانات مسافر . ومن المؤكد أن كافة بيانات المسافر هنا وهناك ستسجل بكل دقه وأن نسخة من تلك البيانات ستكون أمام أجهزة الأمن للدراسة والمتابعة والعمل بها عند اللزوم . ويبدو أنني رحت أدمدم.
- أمال إيه حكاية بلاد العرب للعرب و...
- إنت جاي منين بالضبط !!
- من إمبابه .
- أنا شايف أنك تدخل الترانزيت أحسن.

وفهمت - أخيراً - من رده أنني قد وقعت في المحظور ، وأن وصايا جاري عبد الموجود لم أستطع تنفيذها ونحن لانزال بالقاهرة ، وكان لي عذري في هذا ، فقد كانت روح انتصارنا في أكتوبر تجلب لنا العديد من المعاني الجديدة للتضامن والإخاء العربيين ، إضافة لثقة بالنفس والمستقبل بدون مبالغة أو تكبر ، فالسادات يدير معركة جديدة - داخل مصر - لاتقل في خطورتها عن حرب أكتوبر ، فقد كان يمهد لعبور من نوع آخر ، تجاه ضفاف الحرية واحترام الرأي الآخر ، وبشائر نسمات الحرية القادمة لمصر توحي بالتفاؤل. ولم تكن روح الناصرية قد خبت بعد ، وجذوة الحس القومي لاتزال متوهجة ، وبتصرفات أقرب في شكلها للرومانسية كنا علي اقتناع كامل بأن كل ماقيل لنا له وجهه الأصيل ، فبلاد العرب ينبغي أن تكون للعرب ، والوحدة العربية هي الحصن والملاذ ، وأن تحقيق ذلك أمر وارد وممكن ، إن لم يكن غداً فبعد غد . المهم في الأمر هو كيف يمكن تحقيق ذلك.

.
القاهرة : شتاء 1994

ليست هناك تعليقات: