الأحد، أغسطس ٠٣، ٢٠٠٨

2 - حكايات مسافر. " لو كان لي جناحان "

وشاء حظي - بعد ذلك - أن أعمل بأحد المطارات العربية مما جعل السفر بالنسبة لي أمراً ميسوراً، كما خدمتني الظروف السياسية كثيراً لأزيد من عدد جولاتي للعديد من البلاد والمدن، فقد فوجئنا نحن المصريين صباح أحد الأيام وبعد قمة بغداد الشهيرة ( 1979 ) التي أقرت المقاطعة العربية لمصر، بأن السفر للقاهرة بالطائرات العربية أو المصرية أصبح أمراً مستحيلاً. طبعاً لم يكن بالإمكان الاعتراض أو التصريح بعدم جدوى مثل تلك القرارات الغريبة التي لا تؤذي سوي المواطن العادي الذي يتلهف للعودة إلي بلاده . سألت وقتها عن الحكمة في ذلك القرار الثوري والعظيم، أجابني أحد الأصدقاء العراقيين بأنه لغرض الضغط علي الحكومة المصرية .
- لكن في الحقيقة إحنا اللي المضغوط علينا .
- هوه ده المطلوب بالضبط .
- بس إحنا الشعب .
- مش مهم الكلام ده عند القادة .

- وإيه تاني ؟
- القرار أيضا يعد رسالة تحذير للحكومة بأنه ممكن فيه حاجات تاني
- زي إيه .
- يعني ممكن الاستغناء عن خدمات كل المصريين .
- المهم أسافر علي مصر ازاي .
- سافر بالطيارة لأي بلد ومنها بطياره أجنبية علي مصر .
- وليه اللفه دي كلها .
- هكذا الأمر .
- كل ده علشان القادة العرب زعلانين من مصر؟! .
- أخي حاول تفهم ممنوع طياراتنا تروح مصر وممنوع طيارات مصر تيجى هنا.
- مش ملاحظ أن الأجانب هما اللي المستفيدين من القرار ده .

وبالفعل، فقد شهدت مطارات عديدة مثل لارناكا وأثينا ومالطة ازدحاما ورواجاً لم يكن يحلمون به، وكما شهدت الطرق البرية والبحرية جموعاً هائلة من المصريين العائدين لبلادهم. ووسط ذلك الازدحام والتكدس كان هناك العديد من المشاكل والماَسي التي واجهت جموع المصريين العائدين وللحد الذي كان يصل لامتهان آدميتهم وكرامتهم .وعلي طول الحدود البرية العربية قدر لجموع المصريين أن يمارسوا أقصي أنواع ضبط النفس والصبر والجلد في مواجهة تعنت واستخفاف موظفو الجوازات والجمارك وحرس الحدود وحتى المواطنين العرب الذين وجدوا في كل ذلك فرصة طيبة للكسب والابتزاز.إنها حالة كثيراً ماتتكرر، ولعلها تشكل القاعدة في التعامل مع المصريين عند نقاط الحدود والجوازات والجمارك العربية والتي أسفرت عن شعور بالتوتر يتملكني - ويشاركني في ذلك الإحساس الكثيرون - عند الشروع في زيارة دولة عربية .
وهكذا يصبح المواطن المصري دوماً الحائط المائل الذي ترتكن عليه حماقات القادة العرب .

علي كل وجدت نفسي - فيما بعد - قادراً علي السفر. واكتشفت أنني عاشق له. فبين كل آونة وأخري كنت أتحين الفرصة لأطير لأي بلد. زرت العديد من البلدان البعيدة والقريبة. إنجلتره، النمسا، المجر، قبرص، إيطاليا، الأردن ، الكويت ، سوريا ، تايلند ، ألمانيا، بخلاف إقامتي لفترة كبيرة بالعراق .
وأصبح هاجس السفر يلح علي دوماً بالتجوال والاستزادة ويقف لي دوماً بالمرصاد إذا ماكررت زيارة أحد البلاد ثانية. فقد دفعني حبي لبعض البلاد أن أكرر زيارتها مرات عديدة مثل لندن وفيينا وبودابست ولارناكا. وأعترف أنه كان محقاً في ذلك فقد كان من الممكن والأجدى أن أسافر لبلاد أخري لم أراها من قبل.
يبدو أن عشق السفر لايقبل بمحبوبة سواه. ولعل ابن بطوطة خير مثال للرحالة الذي كان كلما وجد نفسه محاصراً في أحد البلاد بالزوجة والعيال إلا ووجد لنفسه عذراً لمغادرة ذلك البلد ومعاودة الترحال .

كان شاغلي في كل رحلاتي - وأيضاً في الأماكن التي عملت بها - محاولاتى الجادة للفهم، فهم للمكان وللإنسان. والأمر لم يكن بسيطاً كما كنت أعتقد وكما كنت أريد ، فالقرب من الإنسان يظل محفوفاً بمخاوف ومحاذير تفرضها اعتبارات عديدة، كما أن البلاد لا تبوح بأسرارها ببساطة لكل عابر مهما كانت مهارته وخبراته، إنه شيء - كما يصفه عاشق مصر الدكتور جمال حمدان - أشبه باكتشاف جبل جليدي عائم، فمهما حاولت فلن تري منه سوي قمتة بينما يظل باقيه مدفوناً في الأعماق.

ومع كل ذلك فباعتقادي أنه يكفيني شرف المحاولة لكل ما سأكتبه. وهو لن يزيد عن ذلك، فلا تنتظر مني ياصديقي أن أحشو كلامي بأرقام وخرائط وأسماء، ذلك لم يكن ذلك عملي أو هدفي. كل ما ستجده هو انطباعات شخصية فرضتها ظروف المعايشة ومحاولة الفهم.

وربما كان هناك شاغل آخر أكثر إلحاحاً وأهمية، وهو موقف الإنسان المصري في البلاد العربية الجاذبة للعمالة. مالذي يحدث له، وكيف تتشكل علاقته بمن حوله من أبناء تلك البلاد. ولماذا يكون المصري دوماً هو الضحية. إنه أمر يشكل بكل المقاييس هماً مضافاً لهموم الغربة ومتاعب البحث عن الرزق .

ومع أن معظم رحلاتي كانت منذ سنوات بعيدة وأحداثها قديمة، فمعظمها حدث في السبعينات والثمانينات، إلا أنني أري أنه لم يجد جديد، بل علي العكس فكثير من تلك الأحداث لاتزال في انتظار نهاية لها قد لاتأتي إلا بعد مرور كثير من الوقت، وقد لا تأتى بالمرة أية نهاية. ولعل ذلك أحد السمات العربية الأصيلة، فتلك هي اللعبة المفضلة للحكام العرب أياً كان أسمائهم، رئيس أم ملك أم شيخ أم أمير أم زعيم. فأولئك الحكام هم المسئولون عن كل مانجابه بالمنطقة من أحداث رديئة وتكرار ممل للرداءة والرتابة. فمعذرة إن وجدت بعض الأحداث معادة، فذلك لن يكون ذنبي، فلولا كلام حكامنا العرب يعاد لنفد كل مالدينا من كلام.

ولعلني لا أضيف جديداً إذا قلت أن كل مانواجهه من مشاكل مع العرب هو افتقادهم للحرية ولأساليبها في التعامل. فالحوار بيننا معدوم أصلاً وإذا ماتم فنفسه قصير للغاية ومفرداته معروفة، الطلقة والسكين والسجون الضيقة. وأبسطه السباب والاتهامات الساخنة بالخيانة والتكفير.

ويصبح الدفاع عن حرية الإنسان العربي مدخلاً لتصحيح الكثير من المواقف والقضايا. وقد يبدو للوهلة الأولى أننا في مصر نتمتع بقدر كبير - نسبياً - من الحرية وحق التعبير، وقد لا نكون في مصر راضين عن كل ذلك ونطمح للمزيد، إلا أن مانتمتع به يعد بكل المقاييس أكبر بكثير مما هو سائد وموجود في معظم لدول العربية.

ذلك ليس نوعاً من التباهي فتلك حقيقة. وليس من مطلب سوي أن نطالب بالمزيد من الحريات للمصري داخل بلاده أولاً حتى تصبح مصر واحة للحرية الحقيقية والأمان وسط تلك المساحات الهائلة من الصحراء المجدبة. ويقيني أنه إذا ماتم ذلك فستنتشر عدوي الحرية لمساحات أبعد من الواحة المصرية.

وتتوالي الأيام والسنين ولازلت أحلم بالسفر والترحال إلي بلاد الله الواسعة وحيث الإنسان يكد ويسعى ويحلم ويحب .
لازلت أحلم بالسفر إلي أمريكا، اليابان، فرنسا، الدول الاسكندفانية ، جنوب أفريقيا، الجزائر، جبل طارق، وكم أتمني أن أقضي كثيرا من الوقت - ثانية - وسط الأكراد في شمال العراق في محاولة ثانية للفهم. وربما تحين لي الفرصة لزيارة لواء الأسكندرونة، وقبل كل ذلك فكلي شوق لزيارة المدن المحررة من فلسطين.
لازلت أملك الحلم بالطيران والتحليق .
اَه لو كان لي جناحان!!
.
القاهره: شتاء 1994

ليست هناك تعليقات: