الأربعاء، أغسطس ١٣، ٢٠٠٨

6 - حكايات مسافر .. " الباشا "

"بغداد يوليو1975"
.
أنهينا الخروج من صالة المطار بسرعة ودون تفتيش للحقائب ، كان مبني مطار بغداد في هذا الوقت صغيراً للغاية ، مجرد صالة واحدة ، بها العديد من الكاونترات الخشبية ، ولأدري لماذا سميته بالمطار الخشب ، وظلت تلك التسمية لمدة طويلة عالقة بالمطار وفيما بيننا. ورغم ذلك فقد كان مبني المطار جميلاً ويوحي بالهدوء والأمان . وبطبيعة الحال فهذا الهدوء لم يعد موجوداً خاصة عند وصول الرحلة القادمة من القاهرة . فيما بعد أصبحت رحلة القاهرة تشكل عبئاً علي هذا المبني الصغير خاصة بعد استخدام الطائرات الضخمة مثل الجامبو ووصول أعداد كبيرة من المصريين للعمل في العراق .
- وين يا جماعه رايحين .
- لسه محددناش ، أي فندق .
- إتفضلوا معانا .
كان أحد الشباب العراقي مكلفاً باستقبال مجموعة من المهندسين المصريين ، ويبدوا أن عدداً كبيراً منهم قد تخلف عن الحضور مما أتاح لنا استخدام المكروباص الخاص بهم للذهاب إلي وسط المدينة . علمنا أن تلك المجموعة ستنزل بأحد الفنادق لمدة ثلاثة أيام في ضيافة الجهة الحكومية التي تعاقدت مهم . كان من الواضح أن هناك فرحة غير خافية بوصول المصريين ورغم أنه كان ملموساً أن تشعر أن هناك تعليمات صارمة بحسن الاستقبال إلا أن ذلك لم يخفي حقيقة المشاعر الدافئة والتي أظهرها العراقيون بطرق بسيطة للغاية.

كان المساء يزحف ، ورغم ذلك فالحر لا يطاق ، انشغلت بمشاهدة بغداد من نافذة المكروباص ، الطريق للمدينة طويل ، مساحات كبيرة من الأرض الشاغرة ، ألمح علي البعد أحياء سكنية ، أول ما أسترعي انتباهي هو الهدوء والبساطة ، البيوت مبنية طابق واحد أو طابقين علي الأكثر ، ولكل بيت حديقة صغيرة ، البناء بسيط ولا يوجد به أي تكلف أو مبالغة ومع ذلك أحس بلمسة جمال لتناساق الألوان مع بساطة البناء وخضرة الحدائق والهدوء الذي يغطي المدينة بأكملها . تمثال ضخم لأول عربي حالم بالطيران "عباس بن فرناس" وقد غطي كتفيه بجناحان كبيران ، وتتوالي أسماء الأحياء والشوارع . حي العامل ، اليرموك ، علاوي الحله المتحف البغدادي ، الصالحيه ، جسر التحرير ، شارع الرشيد .
تصادف وجود بعض من زملائي في العمل في نفس الفندق ، كان من المفروض أن ينتظرني البعض منهم بالمطار ، فضلوا متابعة وصول الطائرة عن طريق الاتصال بالمطار تليفونيا . ويبدو أن موظف المطار وأصدقائي وصلوا لنتيجة تريحهم بأن الطائرة لن تصل الليلة.!! كما أن الحر أنساهم – أيضا - وعدهم لي ففضلوا البقاء في الفندق . كنا مجموعة كبيرة ، زملاء عمل وأصدقاء في آن واحد .
- إحنا قلنا هاتتصرف ، وبعدين زي مانت شايف ، المسأله سهله .
- شوية أندال ، العشماوي باشا موجود .
- في أودته يا سيدي بيسمع أم كلثوم.
.
العشماوي باشا صديق لي وان كانت تلك الصداقة من نوع غريب . ورغم أن شكله ولون بشرته كانا أقرب لشكل ولون بشرة وشكل الشعر للفلاح الصعيدي ، إلا أنه كان يصر علي تذكيرنا دوماً بجذوره التركية ، ولا يستريح لتصرفات بقية الأصدقاء معتبراً أنها تصرفات فلاحين ، بينما كانت كل أفعاله مثاراً للتندر والتهكم منهم. وقد رتبت علاقة صداقتنا لاتفاق ودي فيما بيننا - حين يعلم أحدنا بوجود الآخر في مكان ما - أن نتبادل البحث عن بعضنا البعض والتقابل والحديث في مختلف الأمور. ولعل هذا هو السبب أن أخصه بالسؤال واسعي لمقابلته لبعض الوقت والحديث معه. ثمة أمر آخر وهام في علاقتي بالعشماوي باشا ، وهو أنه حاز باقتدار علي نفور وكراهية كل الزملاء والأصدقاء ولم يكن سهلا بالمرة أن تجد واحدا من الشباب يقول بحقه كلمة طيبة . وكثيرا ما سمعتهم يتندرون عليه بأقسى الكلمات والنكات الفاضحة .
- عاملي فيها باشا . أراهنكم إن أبوه كان فلاح من اللي بينضربوا علي قفاهم أيام الإقطاع .
- وتلاقيه لسه بينضرب علي قفاه لغاية دلوقت .
- ده ما بيستحماش . آخر مره استحمي فيها من سنتين . قال باشا قال ..
والباشا كان يعلم بكل ذلك وأكثر ، ولم يكن يبال بأي كلام يصله . والأغرب أنه كان يقبل رأيهم فيه راضيا ويقول لي وهو يضحك عاليا :
- دول شوية " رعاع " وعارفين الفرق اللي بيننا ومش غريب كل الكلام اللي بيقولوه.

الشئ الغريب الآخر هو لماذا اصطفاني الباشا بشرف معرفته ؟!! وهي حكاية تستحق أن أذكرها . فقد كان من ضمن عادات الباشا أن يقيم كل سنة حفلا تأبينيا في ذكري وفاة والده " العشماوي باشا الكبير" . ولا أدري مالذي أشعلها في رأسه أن يلقي قصيدة شعر في والده في آخر احتفال أقامه بالقاهرة . والأهم أن خبيثا من الأصدقاء قال له ببراءة شديدة :
- اسمع ياعشماوي أنت زي الحمار في الخطابة وفي إلقاء الشعر بالذات .
- لكن أنا متذوق كبير للشعر واللغة .
- صدقني أنت هاتحط نفسك في ورطة كبيرة .
- ولا ورطه ولا حاجه . أنا هاكتب القصيدة وهاقولها . ياعني انت فكرك اللي هيسمعوها هيفهموا حاجه . ماهم شوية حمير هما كمان.
- لا . فيه حل كويس . عليك بعادل . دا شاعر جهبذ وله محاولات ناجحة في الإذاعة والجرايد كتبت عنه كتير .
بدأت الحكاية بهذا الشكل وقد حكاها لي أكثر من مرة العشماوي باشا وهو يضحك كما حكاها لي صديقنا المشترك ذلك الخبيث الذي برر كذبه عنى وفعلته بالقول :
- يا أخي وجع دماغي بحكاية حفلة المرحوم . قلت أبعده شويه عني . دا مافيش كلام بيننا غير الحفلة والقصيدة . قلت أحوله عليك .
وقد كان . جاء العشماوي بنفسه لمقابلتي أثناء وقت الشاي بالعمل ، وطلب مني في أدب جم وبكلام منمق وراق لا يصدر بالفعل إلا من أولاد الباشاوات أن أجهز له قصيدة تشيد بوالده الباشا الكبير وتعدد من أفضاله ومآثره . احترمت زيارته لي وشعوره تجاه والده فأجبته جادا :
- شوف يا باشا . الموضوع صعب للغاية لسبب ، أولا أنا مش شاعر وثانيا أنا ماقدرش أكتب إلا الموضوع اللي أنا مقتنع بيه .

ويبدو أن الباشا وجد في طريقتي في الكلام معه شيئا يريحه . فخلافا للطريقة المتبعة من " الرعاع " الذين كانوا يتندرون عليه في حضوره ودون أي حفظ للألقاب ، كنت أصر علي الحديث معه بالاحترام الواجب ، والبدء بكلمة الباشا قبل أسمه ، وما تعنيه تلك الكلمة - الغريبة - من وقع سحري يطول روحه ونفسه . استقر رأينا أن يختار الباشا قصيدة مناسبة ويلقيها بنفسه . وقد عرضت عليه المساعدة بإيجاد قصيدة مشهورة وجميلة . وكانت المفاجأة الثانية لي في هذا اللقاء هو دعوته لي بحضور حفل التأبين.فمن المعروف أنه ولا واحد من الرعاع تشرف بحضور مثل تلك الاحتفالات . وافقت وقلت في نفسي ولم لا ؟.

في حفل التأبين فاجأني الباشا بإلقاء قصيدة من تأليفه . ولولا أن الحضور جميعهم كانوا من أقاربه وأولاد الباشاوات السابقين لكانت فضيحة كبري . بدأ الباشا قصيدته بالنظر إلينا ثم قال بصوت عميق وقوى وهادئ :
في بلاد الواق واق ،
وبلاد تتاجر بالغربة والنضال .
ظل الرجل صامدا لا يقول واق .
حتى إذا ضربوه .
أو جردوه من أوسمته .
فهو لا يصرخ .
أو يقول واق واق .
وظل علي هذا النحو ولمدة طويلة يردد تلك الكلمات الفارغة ونظرات الاستحسان المزيفة مرتسمة علي وجوه الأقارب والضيوف . المهم والأكثر دهشة أنه وبعد أن أنتهي من قصيدته قدمني باعتباري كاتبا مرموقا ومفكرا لامعا وأحيانا شاعرا عظيما .!! ومصرا أن أقول كلمة صغيرة في هذا اليوم الخالد !!. لا أعتقد أن أي فرد يمكنه الهرب أو الاعتذار من هكذا موقف . علي كل تحدثت بشكل مباشر ولمدة قصيرة للغاية عن دور التعليم في رقي الفكر وفي نهضة البلاد . وقلت لعلها فرصة أن يتم التصالح بين الرأسمالية الوطنية وبين الشعب من خلال هذا الطريق . كنت ألمح الامتعاض والقرف يرتسمان علي الوجوه ، غير أن صديقي العشماوي باشا كان سعيدا للغاية يكل كلمة قلتها حتى أنه نسي أن يسألني رأيي في قصيدته وأخذ يردد: أنت علي حق . كلامك رائع وعظيم . هذا هو المطلوب. أنت شاعر ممتاز يا عادل.!!

لنعد لبغداد ..
كان لابد أن أقابل صديقنا العشماوي باشا. كانت غرفته مظلمة إلا من ضوء شمعة خافت و صوت أم كلثوم ينساب جميلا بأحد أغانيها القديمة ، بينما كان الباشا راقداً فوق سريره يغالب البكاء من فرط تأثره. نظر إلي واضعاً إصبعه أمام فمه طالباً مني الصمت ففعلت وجلست أستمع أنا الاَخر إلي ذلك الصوت الهادر وهو يغني للحب:
لسه فاكر قلبي يديلك أمان .
ولا فاكر كلمة هاتعيد اللى كان.
ولا نظره توصل الشوق بالأمان .
لسه فاكر . كان زمان .
شئ ما نحتار فى تفسيره مع ذلك الصوت الرائع لتلك السيدة . مالذى يفعله ذلك الصوت بأرواحنا. بالنسبة لي فهو يعمق إحساسي بوجودي المصري وبأرض الوطن ، ومهما بعد المكان فصوتها قادر على أن ينقلني بسرعة غريبة إلى مصر ، أكاد أشم رائحة الشوارع والمقاهي والبيوت وحتى عرق الجباه للوجوه المصرية المتعبة .
بعد فترة نهض الباشا وأحضر صامتاً كوباً من الشاي ناولني إياه دون أن يتحدث بينما كانت الدموع تنساب فوق وجهه . وأخيراً همس بصوت يغالبه البكاء :
- اسمع . اسمع الست بتقول إيه ، لما الست تغني أحس أن مصر هي اللي بتغني .
- والله ظالم نفسك بحكاية البشاويه ديه ياعشماوي . إحساسي إنك مصري حتى النخاع.
ويبدو أن التعبير قد أعجبه، فتغير للنقيض تماما، وأخذ يصفق ويضحك من قلبه وهو يرددً كلمتي الأخيرة.
- حتى النخاع ، تعبير قوي وجميل.
- طيب يا أخي قولي حمدلله علي السلامه الأول .
- حمدلله علي السلامه . جيت أمتي ، إمبارح .
- أنا لسه جاي دلوقت يا باشا ، وقلت اَجي أعرف منك الأحوال .
- شوف البلد هنا جميله جداً ، حاجتين تبعد عنهم تعيش سعيد .
- الأوله في الغرام إيه يا باشا ؟
- الحر .
- والتانيه في الغرام يا باشا ؟!!!
- الرعاع المصريين وضمن أولئك الرعاع ، الكثير من الرعاع العراقيين أيضا .
.
القاهرة. شتاء 1994

ليست هناك تعليقات: