الخميس، أغسطس ٢٨، ٢٠٠٨

9 - حكايات مسافر .."الأكراد قادمون" ( تكملة )

.
"حين يستيقظ الزعيم في الصباح تستيقظ معه كل جبال بلادنا وأنهارها ومدنها ووديانها . الويل لمن يستيقظ قبل الزعيم. الويل لمن يستيقظ بعد الزعيم. انتبهوا أيها السادة فالزعيم بالحمام الآن يقضي حاجته ويمارس طقوسه، صفقوا له".
ليتني كنت أستطيع حفظ ما يعجبني من أشعار، والكلمات السابقة محاولة بائسة مني لترجمة مايعنيه أحد شعراء الأكراد في قصيدة مليئة بالمرارة والسخرية من حاكم العراق ومايفعله بهم. في تلك القصيدة راح الشاعر يتتبع يوماً للزعيم منذ استيقاظه في الصباح وحتي موعد نومه إن استطاع النوم. وفي كل لفتة من لفتاته فالشعب يلف حوله منقاداً مسخراً لنزواته الحمقاء .
- دعني أقول أنه ربما كنت تقصد صدام علي وجه التحديد. فهو نموذج في غاية السوء للحاكم المستبد، ولا يختلف من حوله عنه في ممارسة أبشع أنواع التسلط وقهر بني وطنهم. إنني لا أستطيع أن أفهم - مجرد الفهم - إلي أي حد من تضخم الذات وعشق النرجسية وصل إليها هذا الرجل. ولكني سأكون صريحاً معك. إن نموذج صدام كثير، حتى بينكم أنتم الأكراد، فتصرفات زعمائكم تنبئ عن ذلك، وأيضاً لا أستطيع الفهم، لماذا يعشق زعمائكم قتال بعضهم البعض، ولماذا تلك التحالفات المشبوهة فيما بينهم وبين صدام تارة أو الإيرانيون تارة أخري. إنهم دوماً يلعبون بالورقة الرابحة فوق جثث الأكراد. الخاسر دوماً هو الإنسان الكردي وقضيته التي تسعي جميع الأطراف بما فيها زعمائكم لإجهاضها. نحن يا صديقي مجرد قطع من أحجار شطرنج يلهو بها زعمائنا المبجلون سواء ببغداد أو بكردستان.
- هذا صحيح، غير أن مشكلتنا أولاً مع صدام. ونستطيع أن نحل مشاكلنا الخاصة فيما بعد .
- صدقني لن يجئ هذا الوقت أبداً، طالما كان زعمائكم يعالجون أموركم بهذا الشكل الأناني. ومع الأسف فإن جزءاً كبيراً من الحل في أيديهم. ذلك إذا آمنوا أولاً أنه لا فائدة من القتال فيما بينهم. وأن المواطن الكردي ليس مجرد كبش فداء لصراعاتهم فيما بينهم أو مع بغداد أو طهران أو أنقرة. حين يسعى أولئك الزعماء لاحترام آدمية بني وطنهم وحريتهم في التعبير وفي اختيار زعمائهم، بعد كل ذلك يأتي دور السلاح والقتال. إن ما يحدث الآن هو نوع من العبث الذي يصل لحد الانتحار الجماعي.

ومع أنني أري الصورة قاتمة وليس هناك من مخرج قريب، فالأكراد معرضون للقتل اليوم بالجنود القادمين من بغداد وغداً بجنود آخرين قادمين من أنقرة وبعد غد بجنود آخرين قادمين من طهران وتتوالي الأيام ويتزايد القتل .
ومع كل ذلك فالأكراد محبون للحياة ويمارسون حياتهم تحت كل تلك الضغوط يشكل يدعو للإعجاب والاحترام .

كانت أحد اللوحات الزيتية لفنانة كردية تصور مجموعة من الأكراد - رجال ونساء - يرقصون رقصتهم الشهيرة ( الدبكه )، وقد تراصوا بجوار بعضهم وتماسكوا بالأيدي.، كانت لوحة جميلة والتوافق بين أجساد الراقصين وحركتهم رائعاً، غير أن تلك الفنانة استخدمت أكبر قدر ممكن من الألوان الداكنة والمظلمة. ووسط ذلك كنت بالكاد ألمح ألوان الملابس للراقصين التي يفترض أنها من ألوان زاهية ولامعة، تلك الألوان المحببة للأكراد غير أن اللوحة لم تبح بذلك.
- وهل يوجد في حياتنا شيء مشرق أو جميل، أننا نرقص ونحن نموت، حياتنا هي تلك الألوان الداكنة وتلك الظلمة التي تلفنا. إنه نوع من الرقص أشبه برقصة الموت .

هناك أحد الحكايات بألف ليلة وليلة تحت اسم الكردي والعربي والجراب، والحكاية باختصار تروي عن نزاع حدث بين رجل كردي وآخر عربي بسبب جراب ادعي كل منهما ملكيته. ولم يكن هناك مفر غير اللجوء إلي القاضي لفض تلك المشكلة بين الرجلين وتحديد ملكية الجراب .
والمشكلة بدت - أمام القاضي - بسيطة للغاية فكل ماعليه أن يفعله هو أن يسأل كل رجل عما يحتويه الجراب بداخله من أشياء ومن المؤكد أن صاحبه الحقيقي سيصف دون زيادة أو نقصان ما بداخل الجراب .
ابتدأ الكردي وبعد أن حيا القاضي ودعي له بالتأييد وطول العمر، راح يؤكد أنه وضع بعض الأموال بداخل الجراب، وراح يصف ويعدد تلك الثروة المحفوظة بداخل الجراب العتيق. وجاء الدور علي العربي الذي كان قد استشاط غضباً لمبالغة الكردي، ومع ذلك فقد دعا للقاضي بالتأييد وطول العمر، وراح يعدد ما بداخل الجراب من بساتين وأنهار وجواري وقصور. وجاء الدور علي الكردي ثانية ليضيف بحاراً وجبالاً وقطعاناً من الأغنام. ويجئ الدور علي العربي فيضيف ويزيد هو الآخر شوارع وحواري، جواري، وعساكر، وقضاة وحكام. ويبكي الكردي من الغضب والغيظ ويأخذ في وصف ما بداخل الجراب من مدن فسيحة وقصور كبيرة وجبال عالية ووديان مترامية وأنهار جارية وقوافل تجار وأسواق عامرة بالبضائع والجواري الحسان والعبيد الأشداء .

هل يمكن لأحد أن يضع نفسه مكان القاضي الذي تخيل في البداية - ونحن معه - أنها مشكلة هينة وسهلة الحل. صحيح أن القصة في الف ليلة وليلة تنتهي بضجر القاضي منهما ومن ذلك التمادي والخيال الواسع لكل منهما. وينتهي الأمر بأن يقوم بفتح الجراب المهترئ فلا يجد بداخله سوي كسرة خبز يابسة وقطعة جبن صغيرة جافة فيقوم بطرد الرجلين.

والقصة - في رأيي - تعد أحد القصص القصيرة والجميلة والتي تعكس الصراع القديم بين العرب والأكراد علي حق الملكية. ففي حين يري كل من الكردي والعربي بأن الجراب ممتلئ بالخير والثروات، لا يري القاضي - أو رمز السلطة - فيه سوي جراب قديم ليس بداخله ما يستدعي كل هذا الصراخ والعويل. ومع ذلك فالأثنان لا يجدان مفراً غير اللجوء للقاضي في محاولة لفض ذلك الأمر بالتودد إليه ونفاقه بالدعاء له بالتأييد وطول العمر. والقصة لم تحدد هوية القاضي. عربياً أو كردياً كان، وإن كنت أميل أنها تفترض أن القاضي عربياً.

يجمع كافة الأكراد الذين التقيت بهم علي أن الدولة الكردية كانت موجودة حتى زمن قريب، وعلي كل وأياً كانت الأسباب التي أدت إلي تقسيم تلك الدولة فمن المؤكد والثابت تاريخياً أنه كانت للأكراد دولتهم الكبيرة المتاخمة للحدود العراقية والتركية والإيرانية والسورية. وأعترف أنني بحاجة للفهم وإلي من يزيد الأمور توضيحاً. وربما كانت وظيفة المؤرخين أن يظهروا لنا ماحدث، وكيف تم اقتسام أراضي تلك الدولة بين كل تلك الدول. والأهم هو لماذا تم تفتيت تلك الدولة " الوطن والمواطن " بهذا الشكل المأساوي.

هل لك أن تتخيل مثل هذا الأمر؟ أن تكون مواطناً لدولة ما، وذات صباح تجد نفسك مضطراً أنت وأولادك للدعاء والتغني لحاكم دولة أخري، غير الذي تعرفه، والتغني بنشيده الوطني وتحية علم دولته. بينما أقاربك وعلي بعد عدة كيلومترات منك مضطرون أيضاً لأن يتغنوا كل صباح لحاكم دولة أخرى وتحية علمه. شيء عبثي ومر، لكن هذا بالضبط هو ماحدث للأكراد .

وأستطيع أن أؤكد ومن خلال زياراتي وأحاديثي مع العديد من العرب والأكراد أن الأكراد يملكون مقومات الدولة. وأنه نوع من الغباء والاستغلال والابتزاز أيضاً أن تقف كل تلك الدول إيران وتركيا وسوريا والعراق في مواجهتهم، وإجهاض حلمهم بدولة مستقلة يمارسون فيها حياتهم كما يرون. والمؤسف في الأمر أن تلك المسألة غير واردة في تفكير أياً من تلك الدول.

وربما كان العراق هو الدولة الوحيدة التي تحدثت بصوت عال عن صيغة للحكم الذاتي للأكراد. ولا يخفي علي أحد أن صيغة الحكم الذاتي لأكراد العراق وضعت بمعرفة ومفهوم الحزب الحاكم في العراق وبما يخدم مصالحه بالدرجة الأولي، وربما كانت التوتر الدائم بين الحكومة المركزية في بغداد والأكراد، إضافة لتصاعد حدة الخلافات بين العراق وإيران خاصة المناطق الحدودية القريبة من تجمعات الأكراد. ربما كان كل ذلك هو السبب لطرح صيغة الحكم الذاتي للأكراد. فالأكراد يرون أن كل ذلك لا يزيد عن كونه محاولة لاسترضائهم، وهي محاولة غير كافية علي الإطلاق، ثم أنهم لا يضمنون حسن نوايا الحكومة المركزية ببغداد. وهم علي حق فمثل تلك الحكومة التي تتشدق بأن الأكراد جزء من الشعب العراقي، هي نفسها الحكومة التي تهلل - دوماً - لقرارات صدام حسين بإبادة قري كردية كاملة بالدبابات، ثم مسحها وتسويتها بمن عليها بسطح الأرض وإذا لم يكن ذلك مجدياً فهناك الإبادة بالغازات السامة.

هل يمكن لأحد أن يصدق أن هناك حاكم وحكومة تتعامل مع شعبها بتلك الهمجية وهذا الطغيان؟! أي حكم ذاتي وأي حقوق يمكن أن تأتى من صدام للأكراد .
وإذا كانت باقي الدول التي تحتل أراضي الأكراد لم تسعي إلي أي محاولة لاسترضائهم أو التجمل بصيغ للحكم الذاتي إلا أنهم يشتركون مع صدام في باقي أسلوبه: الردع حتى الإبادة .

منذ زيارتي تلك مرت العديد من السنوات العصيبة، وغطت علي كافة أوجه الحياة بالمنطقة. ولم يفرق غباء القادة العراقيين وشهوتهم للسيطرة والتدمير بين كردي وعربي. والمتتبع لما يحدث يستطيع أن يكتشف ببساطة أن الأكراد لن يملوا ولن ييأسوا من المطالبة بوطنهم السليب وانتزاعه من بين ألأنياب العراقية أو التركية أو الإيرانية أو السورية .
كيف يمكن لنا أن نطالب بحقوق الفلسطينيين في وطنهم السليب والمحتل ونحن - وفي نفس الوقت ورغم علاقات القربى والجوار والدين مع الأكراد - نصمت في رضا ونقبل باحتلال الأراضي الكردية، ومعاملة الشعب الكردي بتلك الطريقة الجائرة والظالمة.

الأكراد شعب عظيم وذو أصول راسخة. وهم فخورون بتاريخهم وتراثهم وعلي الدوام يذكروننا بأن صلاح الدين الأيوبي كان كردياً مسلماً. وغير صلاح الدين هناك آخرون من حقهم أن يتباهوا ويفخروا بهم. كلي يقين أن هذا الشعب - الذي يضحي دوماً بدماء أبناءه من أجل قضيتهم العادلة ومن أجل غباء قادتهم - سيكسب في نهاية المطاف وطنه حراً ومحرر.

لا يعتريني الشك أبداً في أنهم سيصلون يوما ما لتلك النتيجة، لسبب بسيط وهو أنه ليس بالإمكان ومهما طال الأمد أو التضحيات أن يظل هناك وطناً محتلاً وأهله بمثل إصرار وشجاعة وتضحية الأكراد.
إذا كنت غير مصدق فليس عليك سوي الذهاب إليهم في مدنهم وقراهم والصعود إلي جبالهم العالية، ومعرفة كيف يعيشون في ظروف غاية في السوء ثم أستمع إليهم بتمعن وفهم .
الأكراد قادمون يا عرب.
. القاهرة. شتاء 1997
.
آخر الكلام ...
وأخيراً ليسمح لي الصديق والزميل بختيار بوضع قصيدة صغيرة وجميلة للشاعر الكردي عبدالله بة شيو وأرفقها بالمقال. وأسمح لنفسي أن اعتبرها مداخلة وتعليق من بختيار أو من الشاعر نفسه. فأيهما يشرفني ويمنح المقال نوعا من المصداقية المطلوبة. في الحقيقة لست من أنصار الاستشهاد بالقصائد والأشعار عند كتابة المقالات السياسية، لكن فور قراءتي لتلك القصيدة شعرت أنني وجدت التفسير لمقالي ولكل ما قلته أو لم أقله.
والملاحظ أن القصيدة مترجمة من الكردية للعربية دون اهتمام "بصنعة الشعر" ومع ذلك فكلماتها تنساب بشاعرية ورقة رغم أنها تتحدث عن " ضريح الجندي المجهول"
اقرأ وتمعن.!!!.

...

لو زار وافد بلادي
وسال: أين ضريح جندكم المجهول؟
أقول له:يا سيدي
لا تخف
طأطأ رأسك قليلا
وضع من الورد إكليلا
فإكليلا
على ضفة أية ساقية
على دكة أي مسجد
على عتبة أي منزل
أمام مدخل أي كهف
أو محراب أية كنيسة
على أية صخرة
في أي جبل
على أية نبتة
في أي حقل
على أي شبر من الأرض
ضع إكليلك
وامضي سيدي
ولا تخفف
فأنت لم تخطئ الهدف.

.
القاهرة 30/3/2009
.
.

ليست هناك تعليقات: