الأحد، أغسطس ٢٤، ٢٠٠٨

8- حكايات مسافر ".. العمارة أول محاولة للفهم " ( تكملة )

طباعنا "أشبه بالطقس. تراه تارة هادئاً، وبدون مقدمات يتغير إلي شئ أشبه بنار جهنم، وفجأة يتحول إلي طقس ممطر. وتظل السماء تمطر لأيام. كيف يكون ذلك، الله وحده هو الأعلم، لكن من المؤكد أن الشخصية العراقية أشبه بطقسها. أتراني قد بالغت".
- عداك العيب ياسيد خلف ، يبدو أن كلامك به شئ من الصحة، وقد سبقك في هذا الرأي كثيرون. صلاح عبد الصبور مثلاً له قصيدة يقرر فيها أن " نفسه " تصبح رمادية حين يكون الطقس رمادياً.
السيد خلف معلم بالتعليم الابتدائي وقد أنتدب للعمل معنا كمدرس بالمدرسة الصناعية الجديدة التي تم افتتاحها بالبلدة. وهو شخصاً لا يمكنك أن تخطئه لطوله الفارع، إضافة لكونه يعمل بالتدريس أو لكونه محسوباً علي طبقة الموظفين فقد كان مجبراً كعادتهم أن يرتدي بذلة كاملة بالرغم من لهيب يوليو. غير أنه كان يترك قميصه وقد تدلي جزء كبير منه فوق البنطلون، ورباط عنقه مفتوحاً بشكل غريب وبعيد عن أية محاولة للأناقة أو التجمل، وكأنه يتعمد إهمال منظره إضافة لأنني لم أراه يوماً منتعلاً حذاء، فقد كان علي الدوام ومع هذا الزى ينتعل صندلاً ضخماً.

كان من السهل أن تجد دائرة الصحبة قد اتسعت لتشمل نماذج أخري عديدة. مديرون لدوائر حكومية، ومدرسون وموظفون. وحين يجتمع الشمل يكون القاسم المشترك للحديث هو مصر والأحوال هناك. إضافة لعشقهم للموسيقي والطرب المصري كبير للغاية، وكنت متعتهم في الحديث عن تحليل كلمات أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد.
ومع ذلك فقد كانت معلوماتهم - هذا الوقت - عن المصريين ليست صحيحة بالمرة، ويبدو أن الأفلام المصرية كانت مصدرهم الوحيد لفهم الإنسان في مصر. كان المتخيل أن الحياة في مصر رقص وغناء وعربدة .
- ألا تفعل النساء في مصر ذلك .
- وماذا يفعلن النساء في مصر .
- يرقصن للرجال بالمنازل .
- في حدود معلوماتي فكل نساء مصر تقريباً مشغولات مع رجالهن في البحث وإعداد الطعام لأولادهم. المشكلة أنك تعمم ماتراه في الأفلام علي الجميع.
ويبدوا أن مثل هذا الرأي أصابهم بخيبة أمل كبيرة، إذ تظل مصر في مخيلتهم مكانا كبيرا يتيح لهم ممارسة الجنس والشعور بالانطلاق كما يحلو لهم.
- لكن في مصر تستطيع الحصول علي النساء وقضاء الليل معهن.
- ذلك أمر وارد في كل مكان فبقدر ماتسعي بقدر ما تحصل. بمعني إنك إذا رغبت في ذلك الأمر في مصر وسعيت له فمن المؤكد أنك ستجده، كما هو الحال هنا مثلاً . أليس بالإمكان أن أترك مجلسي معكم وأنهض للبحث عن امرأة - بمساعدة عراقي ما - من المؤكد أنني سأجد من تقبل نقودي رغم صغر بلدتكم تلك .
ويبدو أن تلك الردود أصابتهم بنوع من الوجوم والصمت. حتى أن أحدهم راح يتمتم :
- صدق ، صدق .

لازلت أري أن مثل تلك الأحاديث تكشف عن الوجه الجاهل للشخصية العربية ، إذ لايعنينا من تقييم أي بلد سوى إمكانية ممارسة اللهو والجنس فيه. ومع ذلك فقد كان هناك تساؤلات أخري أكثر جدية كانت مدار مناقشة ومحاولات للفهم :
- لماذا أوقفتم الحرب مع إسرائيل .
كانت الإجابة علي مثل هذا السؤال - ذلك الوقت - بحاجة إلي قدر كبير من الوعي والإقناع ، ذلك أنه كان الفهم السائد وقتها أن مصر أجهضت الموقف العربي بقبولها وقف إطلاق النار والدخول في مباحثات فض الاشتباك مع إسرائيل .
- لأكن واضحاً وصادقا معكم. من السهل عليكم أن تتحدثوا عن استمرار الحرب في مصر وأنتم هنا تحتسون العرقي، وجميعكم علي يقين أنه عندما سيعود إلي منزله سيجد الصمون ( رغيف العيش ) الأبيض متوفراً لأسرته مع أصناف الطعام الأخرى. في مصر كان شاغلنا جميعاً بجانب الحرب هو مجرد توفير رغيف العيش ولا يهم لونه وإن كان في الغالب لونه أسمر ومختلطاً بالحصى وخيوط الأجولة وحتي الحشرات في بعض الأحيان. لم يكن مهماً كل ذلك، فلا صوت يجب أن يعلو فوق صوت المعركة، وليس علينا سوي تحمل المزيد من أجل كرامة مصر والعرب. وأصبح الأمر الملح هو توفير ذلك الخبز الردئ بأي شكل وبأي طريقة المهم أن نجده اليوم، وغداً تتكرر المحاولة ثانية. لقد كانت تجربة صعبة ومريرة، ومع ذلك فقد أديناها بشرف ورجولة، وقمنا بما يجب علينا عمله. وكان من الواجب علي العرب بدلاً من طرح مثل تلك الأسئلة الوفاء بالتزاماتهم تجاه مصر ومساندتها بشكل فعال.
- لقد ساعد العرب جميعهم مصر.
- ليس بالإمكان نكران تلك الحقيقة، ولكنها كانت مساعدة غير كافية علي الإطلاق. أفهم أننا بمصر قبلنا محاربة إسرائيل نيابة عن العرب، فليس بأقل أن نعيش جميعاً نفس الظروف. ليس مطلوباً أن يشعر العربي في بلده بالحرمان والبؤس الذي كنا نعيشه. لكنه كان بالإمكان أن نقتسم معكم رغيف العيش. وهذا لم يحدث لسبب بسيط أن العرب لايريدون ذلك، ولا يمكنهم تحمل ذلك.
الحرب ليست شعارات ودق طبول. وأي حرب لابد وأن تنتهي - وتبعاً للظروف السائدة - عند مائدة المفاوضات والمباحثات من أجل بدء عصر جديد يلغي ماقبله من مفاهيم وأفكار. ومع ذلك فكل مايمكننى قوله أن الحرب أيضاً ليست بلعبة نمارسها كلما شعرنا بالحنين إلي مفاهيم البطولة والعطاء والتضحية، الحرب ماَسي ودمار ورعب ودماء ونيران تأكل الأخضر واليابس. كل ما أرجوه لكم ولبلدكم أن يقيكم الله شر الحروب وأهوالها.

هل كنت أقرأ المستقبل في تلك اللحظة التي كنت أتحاور وقتها مع مجموعة من الأصدقاء العراقيين حول منضدة عامرة بأصناف الطعام وزجاجات الشراب. ربما، فبعد القليل من السنين إذ بالحرب العراقية الإيرانية تشتعل. وكأنها ذلك المارد الذي ظل حبيساً داخل القمقم دون أن يجرؤ أحد علي إقناعه بالدخول ثانية فيه، والكف عن التدمير والقتل.
وتثبت تلك الحرب صدق ماكنا نؤمن به. ولم يكن من الغريب أن نسمع بعد فترة من بداية تلك الحرب ومع صوت صفارات الإنذار - الذي ينذر بقصف طائرة إيرانية أو صاروخ إيراني سقط فوق أحد البنايات ببغداد - كلمات معبرة من الإنسان العراقي البسيط وهو يردد: " الله يرحمك ياسادات عرفت كيف تحارب وعرفت متي تتوقف".
.
كان المشهد لاينسي ، كان هناك موكباً من الرجال والنساء والأطفال يرتدون زياً غريباً، ويمشون في شوارع البلدة في كرنفال من الألوان. كان أهم مايميز زى الرجال هو البنطلون الواسع الذي يشبه إلي حد كبير بنطلون البمبوطية بمصر، غير أن باقي زيهم ملوناً، وعلي وسط كل رجل شد حزام من نفس قماش غطاء الرأس الملفوف حولها بإحكام. كان لون بشرتهم أقرب للبياض وأجسادهم ضخمة، يمشون بهدوء وإصرار، وفي صمت بالغ وكأنهم يمشون بجنازة. لن أنسي تلك النظرات التي كانت تشع من أعينهم، نظرات حزينة وغاضبة في آن واحد .كانت هذه بداية معرفتي بالأكراد .
- مالذي يحدث ولماذا جاء الأكراد إلي الجنوب؟! .
- تعلم ياسيدي أن أرض العراق واحدة، وأن الأكراد هم في النهاية عراقيون، وليس هناك مايمنع أن يذهبون إلي أي مكان بالعراق والعيش فيه .
- هل هو نوع من الهجرة الجماعي.؟!
- تسطيع أن تقول ذلك .
- أين يعيشون أصلاً.؟!
- شمال العراق .
- وكيف تبدو بلادهم.؟!
- بلادهم جميلة وتشتهر بالجبال العالية الخضراء .
- يبدو أن الطقس هناك معتدلاً .
- الطقس هناك معتدل صيفاً وفي الشتاء تتساقط الثلوج حتى أنها تكسو قمم الحبال .
- هل يتحدثون العربية.؟!
- لا
- هل تمت الهجرة برغبتهم .؟!
- لا
- برغبة من إذن.؟!
- رأي السيد النائب أن ذلك قد يؤدي إلي نوع من الضغط عليهم لتخفيف حدة القتال الدائر معهم بالشمال. نحن – العراقيون - نعاني من تلك الحرب منذ أمد بعيد، وهناك شهيد في كل بيت بالعراق جراء تلك الحرب التي لاتريد الانتهاء .
- تبدو الأمور إذن غير ماذكر. فليست المسألة في حقهم في العيش في أي مكان بالعراق .
- مالذي تعنيه .
- ربما كانت وجهة النظر الحقيقية هي تفريغ الأرض من سكانها الحقيقيين واستبدالهم بآخرين موالين للسلطة .
- وماذا في ذلك، فالسلطة العراقية هي نموذج للسلطة الوطنية .
- هل تعتقد أنهم راغبون بملأ إرادتهم في تبديل جبالهم بسهول العماره مهما كانت المغريات؟!
- فلتأخذ التجربة وقتها ثم نحكم. لماذا أنت متشائم .
- دعني أسألك ، هل تقبل نفس القرار إذا ماصدر لك.؟!
- سأنفذه، مادامت القيادة تري ذلك. وهناك كثيرون ذهبوا للعيش بالشمال .
- هل داخلك يقبل مثل تلك القرارات.؟!
- حين تأمر القيادة فليس هناك اعتبارات للقبول أو التذمر .
- أية قيادة تلك.؟!
- قيادة الحزب والثورة .

لا أستطيع القول بأن هذا الحديث قد دار بيني وبين شخص بعينه، كل مايمكنني قوله أنه حصيلة أحاديث كثيرة وتساؤلات عديدة مع بعض الأصدقاء العراقيين من مختلف التيارات السياسية آنذاك. كما انه يشكل بهذا الترتيب محاولة مني لتسجيل ماحدث ومبرراته السائدة، وهو بهذ1السياق أشبه بحوار بين معارض لما يحدث ومؤيد له .فقد كان هناك بالفعل كثير من التيارات السياسية تموج بها مدينة العمارة، فخلافاً لأتباع الحزب الحاكم ( حزب البعث ) كان هناك الشيوعيون والقوميون إضافة للتيارات الدينية الكامنة. ولم يكن هناك من مؤيد لتلك الأمور سوي أنصار الحزب الحاكم.

ولم يكن من مفر أن ينتهي الحديث - مع أي شخص - دون الوصول إلي أي إجابة مقنعة أو شافية تريحني وتريحه، إضافة لأن الكثيرين صرحوا لي بأن الكثير من تلك التساؤلات لاينبغي للمرء البوح والحديث بها بصوت عال .
كان من الواضح أن الحزب يلف حباله بالتدريج حول رقاب الناس، بحيث لم يعد المرء آمنا علي أي كلمة يفوه بها وسط أصدقائه، أو حتى داخل منزله وبين أولاده. وأصبح أمراً مألوفاً أن يتحاشي الفرد الحديث أو إبداء الرأي علي مسمع من أفراد أسرته خشية الوشاية به أو استدراج أطفاله للبوح بما قال. وبدا أن صدام كان مهتماً للغاية بتنظيم الصبية والمراهقين من مختلف الأعمار، وغسل أدمغتهم علي مهل وبفعالية. ويكفيه عشر سنين حتى يجد خلفه جيشاً كبيراً من خير أبناء العراق علي استعداد تام للتضحية بالروح والدم من أجل الزعيم، ذلك بخلاف كلاب الحراسة الخاصة من أطفال عشيرته والذي برع في تربيتهم - لحد السعار - وتلقينهم استخدام أقصي درجات العنف مع الناس من أجل حمايته هو وأسرته.

ولعلي هنا أود الإشارة إلي أولي خطايا أي نظام للحكم مستبد، فهو ولأنه يحكم قبضته علي مقدرات الناس وأعني وسيلة الرزق ووسائل التعبير، فهو يري أول مايري أن الناس بمثابة قطع شطرنج يستطيع أن يحركها كيفما شاء. وقد ينجح في ذلك إلي حين لكن من المؤكد أنه لن يستطع كسب حبهم أو تأييدهم أو ودهم .

علي كل كما جاء الأكراد دون علم أحد، ودون معرفة من أين جاءوا ولماذا، فقد رحلوا دون علم أحد أيضاً. الله وحده يعلم إلي أين رحلوا بالضبط، إلي قراهم البعيدة وجبالهم العالية أم إلي مدينة عراقية أخري .

أستطيع القول أنني قضيت عاماً كاملاً بالعمارة، ورغم قلة مرتبي وصعوبة العمل، فقد كانت معظم أوقاتي ممتعة ومليئة بمحاولات رائعة للقرب والتفاهم مع الآخرين. وخلافاً لكل ماسمعته عن الناس والمدينة، فقد رأيتهم بشكل آخر. كانوا رائعين، يغلب عليهم البساطة بالفعل، لكنهم علي استعداد لفتح قلوبهم بكل كرم وبالحب والصداقة ومحاولة الفهم لما يدور حولهم .

ليست هناك تعليقات: