الثلاثاء، يونيو ١٩، ٢٠٠٧

9 - حكايات الأغاني .. " أروح لمين. "

.
9- أروح لمين ...
.
أروح لمين واحدة من الأغاني الجميلة والتي لها معي الكثير من الذكريات والحكايات. البداية كانت مع الأغنية نفسها. وجدت نفسي مشدودا للأغنية، فالكلمات لعبد المنعم السباعي بسيطة ومعبرة وجميلة، والموسيقي أبدع فيها السنباطي. ورغم أن تركيبية الموسيقي تبدو بسيطة للغاية وأقرب للموسيقي الشعبية، والتي يمكن للأذن أن تلتقطها في الموالد وحلقات الذكر والأفراح الشعبية. إلا أن السنباطي وبما يملكه من حس مرهف، وتذوق عال صاغ موسيقي الأغنية في شكل أو قالب لا يقدر عليه غيره، وقدم لحنا جميلا يتصاعد بهدوء وجمال مع كلمات الأغنية حتى نصل للذروة وصوت أم كلثوم يتعالى بالشكوى في المقطع الأخير مرددة جملة " أروح لمين " في تنويعات مختلفة وكأنها قد " فاض بها " فراحت تصرخ شاكية، دون أن تنتحب أو تبتذل أو تستجدي المعني المراد بمقام الحب وقصده. والملاحظ أن صوت أم كلثوم وتحديدا في تلك الأغنية، كان فتيا وقويا وجميلا وفي قمة عنفوانه. ومنذ أن تبدأ الأغنية بتساؤلها " المشروع " وحتي تنهى الأغنية ونحن نلمس جمال وقوة الصوت.

أروح لمين ،وأقول لمين ينصفني منك !!
ما هو انت فرحي،
وانت جرحي .
وكله منك ...
أروح لمين .

سأختار لكم المقطع الأخير من الأغنية والذي تغنيه الست بإحساس المحب الذي فاض به الكيل فلم يتبقى له سوي مرارة السؤال. استمعوا وانتبهوا كيف تعبر أم كلثوم عما هو أكثر من ذلك وهي تؤدي ذلك المقطع.

أروح لمين
ومين ح يرحم أسايا
واقول يامين
ومين ح يسمع ندايا
طول مانت غايب
ما ليش حبايب
في الدنيا ديه
والفكر سارح
والهجر جارح
يا نور عنيه
شوف دمعي جاري
سهران في ناري
ولا انت داري
بالسهرانين
أروح لمين

هذا عن الأغنية، وما كتبته قليل ولا يفي حق الكلمات أو اللحن أو الأداء. وفي الحقيقة كنت أنوي الكتابة عن حكاية تلك الأغنية معي لكن ربما لأنني أحبها فقد بدأت الكتابة عنها. علي كل ، تظل تلك الأغنية ملاذي الآمن كلما ضاق بي الحال، أو وجدت نفسي محاطا بكم من الإحباطات القاسية. ولعل أقساها هو التكيف مع المكان، والأشد قسوة هو التكيف مع من هم حولي من الناس. فأجدني أهمس لنفسي " أروح لمين ". وقد أصرخ بها أيضا حين يفيض بي الكيل. وبالتأكيد فأن شكواي وصراخي لن يطرب أحدا.
.
ثمة أمر آخر أحب تتبعه كلما شاهدت تلك الأغنية تذاع مرئية بالتلفزيون. أحب مشاهدة المتفرجين من حضور الحفل. ماذا كانوا يلبسون وكيف كانوا يستمتعون بالاستماع لموسيقى جميلة وأداء رائع. شد انتباهي في أحد التسجيلات لتلك الأغنية وأثناء تصفيق الحضور - مع نهاية أحد مقاطع الأغنية – سيدة انشغلت عن الجميع بالنظر في مرآة صغيرة لوجهها وتعديل تسريحة شعرها.

أمر آخر يمكن رصده من أغاني أم كلثوم التلفزيونية. هل لاحظتم كم يبعد الميكرفون عنها؟! في التسجيل الذي أتحدث عنه لم أتمكن من مشاهدة الميكرفون. ويبدو أنه كان معلقا من أعلا وبمواجهتها. علي كل، في كل أغاني أم كلثوم كانت المسافة بينها وبين الميكرفون لا تقل عن النصف متر. وهذا له دلالته علي القدرة العالية لصوت أم كلثوم والعديد من الأصوات التي عاصرتها. بحيث كان بمقدور أصواتهم - حتى بدون مكبرات للصوت - أن تصل للمتفرج الذي يجلس في الكرسي الأخير للقاعة.
.
وتلك هي القاعدة الذهبية لنجاح وتميز مطرب عن آخر في ذلك الوقت، فضلا أنها كانت – ولاتزال - تشكل القاعدة الرئيسة لنجاح الإلقاء المسرحي دون تشنج، قد يجلب معه مشاكل جمة مثل احتباس صوت الممثل أو المطرب، فضلا عن التهاب الحبال الصوتية. وبالتأكيد فإن مهندس الصوتيات يكون له دخل كبير في تصميم قاعة المسرح بحيث يراعي تلك القاعدة إذا ما حدث خلل فني لمكبرات الصوت. وعليه فالأمر سيترك للمطرب أو الممثل بالاستعانة بطاقته وقدرته وحرفيته لتوصيل صوته لجمهوره من الحاضرين.
.
في الثلاثينيات من القرن الماضي وحين بدأت أم كلثوم مسيرتها، كانت هناك أصوات قوية ومميزة - معها - في نفس الفترة، الشيخ أبو العلا محمد، منيرة المهدية، الست نعيمة المصرية وآخرين. في هذا الوقت لم تكن هناك قاعات مجهزة هندسيا لهذا الغرض بالشكل الذي تحدثت عنه. إضافة لعدم وجود ميكرفونات قوية وحساسة مثل المتواجدة الآن. ويجئ الأمر بشكل عفوي وتلقائي. ولم يكن يزيد عن أن يحسب المطرب كم متفرج تقريبا يشاهده ويسمعه؟!. أو بالأحري نسبة اشغال القاعة من المتفرجين منسوباً للمساحة الكلية. وبمعني أقرب للدقة كان المغني يحدد بنفسه "هل القاعة مليئة بالسميعة" أو"علي النص" أو "علي الربع"، ليصل "مع نفسه أيضا" إلي "ماهي حدود المساحة المكانية والصوتية ليكيف صوته وقدراته علي توصيل أفضل ما عنده من صوت وتنويعات متوافقة مع اللحن". بحيث لا يكون هناك نشاز أو تشنج أو توتر، وإنما القدر الكبير من الطرب والإمتاع .
.
منذ فترة كنت معزوما بأحد الحفلات الخاصة، وكان هناك عدد من المطربين الشباب المعروفين. واسترعي انتباهي أن جميعهم يضعون المايك قريبا للغاية من أفواههم رغم حساسيته المفرطة. واندهشت أكثر حين وجدت واحدا منهم وقد لصق المايك بشفتيه وهو يغني.!! علي كل ، تلك قصة أخري قد أعود وأتحدث عنها خاصة دور تكنولوجيا الأصوات في فرض سمة معينة من الألحان وفرض شكلا نمطيا من الأداء.
.
ولمجرد التدليل سأهديكم جزء من أروح لمين من أحد حفلات " الست " بجامعة القاهرة بتاريخ 20/10/1959وغنت الأغنية لمدة " تزيد علي الساعة " بوصلة الغناء " الثالثة ".!!
.
.
.
.

ليست هناك تعليقات: