الأحد، مايو ٠٣، ٢٠٠٩

3 - الحضارة والأديان ... شراء الحضارة ...

..
3 -
الحضارة – كما ذكرت - هي تفاعل حي ودائم ومتجدد بين عناصر لاغني لها عنها في التكامل والترابط فيم بينهم . الجماعة أو الشعب - المكان أو الوطن ثم شكل وأسلوب الحكم.
وماذا بعد؟ تبقي النقطة المفصلية أو التفاعل الدينامكي فيما بين كافة العناصر والمكونات. ويشمل ذلك الكثير من العلاقات والتي تتفاعل فيما بينها وبين العناصر الأصلية، وما يلي كل ذلك من عمليات إنتاجية بكافة أشكاله الحضارية سواء المادية منها أو الفكرية. وكنتيجة فأن ذلك يتيح للظهور كافة الأوجه والأشكال التي سميت بمظاهر أو أشكال الحضارة. بحيث يعطي هذا التفاعل شكل الحضارة لشعب ما وتميزها عن غيره.
ثمة سؤال هام يطرح نفسه بعد ما قيل، وهو سؤال بديهي ولابد من أن نجد الإجابة له: هل بالضرورة أن الحضارة تعني وضمن ما تعنيه أن أحد أشكالها أو ما أسميته أحد منتجاتها يجب أن يكون " التقدم التكنولوجي وظهور الاختراعات ومسايرة القفزات الكبيرة في غزو الفضاء مثلا أو التوصل لسر صناعة القنبلة النووية أو الهيدروجينية " ؟!! بحيث يقتصر تسمية الشعوب المتحضرة علي تلك التي تنتج كل ذلك وما عداها من شعوب هي بالضرورة شعوب متخلفة وبعيدة عن مسار الحضارة .
سؤال هام يحتاج أن نفكر فيه بعمق ونتحاور حوله بنزاهة وصدق، لعلنا نضع أيدينا علي أسرار تلك السلعة التي لا تقدر بثمن والتي أسمها الحضارة ..
...
أحاول أن أضع الحصان في مكانه السليم . أي أمام العربة، ليس بجانبها ولا بخلفها. الحضارة كمفهوم بشري وإنساني - وكما نناقشه - عبارة عن مجموعة من الآليات ذات العلاقة الوثيقة بفهم الإنسان لكثير من العناصر التي تتفاعل مع بعضها. وتبدأ أول ما تبدأ تلك العناصر بالجماعة ثم والوطن ثم نشاط تلك الجماعة وإنتاجيتهم بما في ذلك إنتاج الثقافة والفكر والأدب والفلسفة والفنون والمسرح والسينما، وأيضاً التواصل مع بقية الشعوب والحضارات بشكل مباشر أو عن طريق الترجمة والطباعة والتأليف والنشر. أيضاً إنتاج السلع الخدمية والرفاهية وانتاج السيارات وبناء الكباري وشق الطرق وبناء المساكن. والنشاط الزراعي والإنتاج الخدمي مثل (نظام الوقاية والعلاج للأفراد) ببناء المستشفيات والمؤسسات العلاجية. ونظم التعليم والدراسة ببناء المدارس وإيجاد سياسات تعليم متطورة وحديثة.
ويمكن القول أن إنتاج كل تلك النظم والمنتجات يرتب حقوقاً للمواطن في إيجاد فرصة عمل كريمة وذلك شكل آخر من أشكال المنتجات الحضارية. وبطبيعة الحال يجب ألا نغفل أن نظام الحكم هو أحد المنتجات الحضارية الهامة بما يتيحه من إمكانية تبادل كرسي الحكم لمختلف الفرقاء داخل الجماعة. وبما يحقق الأمان للمواطن بغض النظر عن لونه أو ديانته أو عرقه.

لم يتأتي كل ذلك فجأة ولكنه جاء بعد معاناة وبحث ودراسة وصعاب جمة ليقرر الفكر الإنساني في النهاية أشكال الحضارة التي ينشدها. والفكر الإنساني ليس نبتا شيطانيا ليظهر وحده دون تأثير عوامل كثيرة ترتبط بالجماعة نفسها وبما تنتجه وبأسلوب معيشتها وأسلوب الإنتاج. وهو أيضا منتج لا يأتي بترديد الأدعية والحفظ لمفردات دينية والدفاع عنها حتى آخر نقطة دم وتقسيم البشر " لمؤمن وكافر " ثم الدخول في حروب تقضي علي الأخضر واليابس .
هناك رأي يقول: إذا لم نكن بقادرين علي صنع الحضارة فلنشتريها. هل لو قمنا بشراء الطائرات والمطارات والصورايخ وحتى القنبلة الذرية سنصبح أهل حضارة؟ هل لو قامت الشركات الأجنبية ببناء المصانع الحديثة والجسور والكباري والمستشفيات والمطارات بما في ذلك طائرات نقل الركاب والطائرات الحربية مع تجهيزها بأحدث وأفضل التجهيزات العصرية. هل سيتيح لنا ذلك أن نصبح دول متحضرة . إذا لم يكن شراء " المنتجات الحضارية سيصل بنا لذلك فأين يكمن الخلل. ؟
دعونا أولا نتحدث عن إمكانية شراء الحضارة.
مادام الحديث يتناول عمليات شراء لمنتجات حضارية فالوضع برمته لن يزيد عن كونه عمليات تجارية يمارس فيها البيع والشراء ووفقا لأصول وترتيبات تفرضها لوائح وقوانين البيع والشراء بين الدول. بما في ذلك من محاذير سياسية قد تشكل عقبة لإتمام العديد من تلك الصفقات وفي كل الأحوال فلا يمكن إغفال التأثيرات السياسية في هذا الأمر.
لا يمكن أن أنظر لشراء أي منتج حضاري ابتداء من إبرة الخياطة وحتى الصاروخ بأكثر من ذلك . ومن المعلوم بل ومن المؤكد أن هناك الكثير من المنتجات التي يظل البائع متمسكا بحقه في عدم إلمام المشتري بسر التكنولوجيا أو الصناعة المباعة. حتى أن الأمر يصل لحجب إمكانية قيام المشتري – منفردا - بعمليات الصيانة والإحلال والتجديد بمعرفته لكثير من المنتجات. ويمكن علي سبيل المثال أن نذكر: أجزاء كبيرة من منظومات التصنيع المدني عامة والعسكري خاصة، الطائرات العسكرية، الأسلحة وأجهزة القياس والتحكم،. المفاعل النووية، الأجهزة الطبية خاصة الحديثة منها. فضلاً عن عدم وجود قاعدة أو منظومة متكاملة من الصناعة والتعليم والمعرفة والسلوك في التعامل وكل ذلك قد يؤمن الأسلوب الأفضل للقرب من تلك المعرفة. والأهم الشكل العام لنظام الحكم، هل هو متحرر يؤمن بالتواصل والحوار أم هو نظام منغلق لا يؤمن سوي بوجوده فوق كرسي الحكم.
وعلي كل حال أصبح الموقف في غالبية الدول الناطقة بالعربية يميل " لاستهلاك " المنتجات الحضارية للغير دون بذل أدني جهد في معرفة أسرارها وكيفية إنتاجها والتعامل مع أجيالها المتلاحقة الحديثة والمتطورة.

وكما قلت بتعريف الحضارة أن كل تلك القيم تفرضها اعتبارات خاصة للغاية بالجماعة ( الشعب ) وبالمكان ( الوطن ) وبشكل الإنتاج السائد الذي هو ضرورة للجماعة – الوطن . وبضمن ذلك " الفكر" بمعناه الرحب والشامل والذي يتضمن كل صنوف المعرفة والفنون والفلسفة والترجمة. وأيضا الدين الذي يجب أن يشكل رافداً هاماً للثقافة فلا يصبح هو كل الثقافة وكل الفكر، وأيضاً نظم التعليم بجميع مراحله، وكافة أنواع النظم الإنسانية التي ترتب لحياة كريمة وآمنة للجماعة في وطنهم.

وفي مجال الفكر وخاصة الثقافة والفن عموماً، قد تبدو الأمور أكثر سلاسة وانفتاحا بعمليات الترجمة والنقل والتأليف والطباعة والنشر. لكن كل ذلك لا يخدم مسعانا في إمكانية وجود حضارة مميزة، لأنه ومهما كانت عمليات الترجمة والتعرف علي الأفكار الحديثة وحتى مناقشتها علي استحياء أحيانا، فكل ذلك لا يرقي إلي خلق نوع من التفاعل بين الإنسان وباقي المكونات. إضافة للمحاذير الدينية والاجتماعية والسياسية والتي تعوق أي محاولة للاستفادة والتقارب الفعلي من الآخرين. فضلا عن وضع العقبات أمام أية أفكار جديدة قد تأتي من خلال التأليف المتطلع للتجديد والذي يحمل بين جنباته رؤيا جديدة سواء كان ذلك في كتابة الرواية أو القصة أو الشعر أو الكتابة السياسية. وينطبق نفس الحال علي كافة مجالات الإبداع الإنساني لكافة الفنون فهو محكوم بقيود العيب والحرام، بحيث تكون النتيجة دائما هي صفر.
وبمعنى أكثر تحديدا نحن شعوب مستهلكة، و" الآخر " شعوب منتجة والفارق واسع وكبير. خاصة إذا كان مثل هذا النمط الاستهلاكي محكوم بكل ماسبق أن ذكرته من قيود تأتي من السلطة الحاكمة والمتحالفين معها باسم الدين بحيث يمنع تماماً أي تفاعل لبقية الأطراف للتقدم عدة خطوات في طري واضح المسمي والتوصيف لحضارة خاصة بنا.
ولعل نظم الحكم السائدة " تعد أهم المنتجات الحضارية، " والملاحظ أن الدول التي يطلق عليها دول متحضرة هي التي تتبني نظم حكم ديمقراطية تسمح بتبادل كرسي الحكم بين الأحزاب السياسية والتيارات المختلفة وفقا لبرامج سياسية " دنيوية " لا تتأثر باللعب علي وتر المحرمات والنواهي الدينية واستبدال كل ذلك بما يراه ممثلون أو نواب تختارهم الجماعة للبحث والفصل والتجديد لكل تلك الأفكار.
تاريخ البشرية هو خير إثبات لكل ذلك . فبينتما توقفت عجلة الحضارة للدول الإقطاعية والدينية والشمولية والدول التي تتبني فكرا يميز بين الأجناس وألوان وديانات البشر. أدي كل ذلك لتدهور وتوقف عجلة الحضارة. حتى تيقنوا أنه لا بديل عن العودة لتطبيق المفهوم الإنساني للحضارة بالشكل الذي ذكرته، وبما يضمن زيادة جرعات الحرية والتحضر، بما في ذلك احترام الجماعة لمفهوم الوطن الذي يؤويهم ويرتب لهم حقوقا وواجبات متساوية بغض النظر عن الجنس والانتماء الديني لمكونات تلك الجماعة وبما يرسخ مفهوم حق " المواطنة " للجميع.
ما الذي لا نملكه في كل ما ذكرت؟ في الحقيقة وبشكل عام - وهو ما يعطي انطباعا عاما عن العرب خاصة الدول النفطية. فهم لا يملكون أي شئ أكثر من البترو – دولار. وهو كاف لإتمام صفقات تجارية مربحة – للغاية - للبائع ومفيدة للمشتري وبالشكل الذي تحدثت عنه. والذين يملكون تلك الأموال ( البترو – دولار ) يملكون أيضا حماستهم وتطيرهم من الخوف علي الإسلام، ويملكون أيضاً وسائلهم للدفاع عن الإسلام المبنية علي فهمهم. وبشكل يغلب عليه قدر كبير من التعصب، وازدراء الباقين بما في ذلك حضاراتهم المغايرة وللشعوب المنتمية لتلك الحضارات وبما يضمن الترويج لفكرة " الإسلام هو الوطن " بديلا عن "الأوطان الأصلية". من هنا يمكن فهم سر العداء لتلك الحضارات واتهامها بالكفر والوثنية. وسر الرغبة في تكسير وتفتيت اللحمة الوطنية للشعوب المنتمية لتلك الحضارات بتقسيم الأفراد لكافر ومؤمن وبث روح الفرقة والتناحر بين مختلف الطوائف.
ولعل الأمر يستلزم أن أوضح ما هو المقصود بمفهوم " بالبترو – دولار خاصة أن هناك الكثير من المثقفين لا يعجبهم استخدام هذا التعبير في الحوارات والكتابات. كما أنهم يرون أنه لا توجد مشكلة من " زيادة العائدات منه طالما كانت تستثمر بالدول النفطية بالشكل اللائق وكما أسلفت في عملية شراء المنتجات الحضارية، مثل استخدامات العائدات النفطية في تمويل بناء مصانع الأسمنت ومحطات الكهرباء وتحلية المياه وشق الطرق وبناء المساكن وزراعة القمح وباقي المحاصيل ... الخ. والحقيقة أن كل ذلك لا يعنيني، وأنه لو تم الأمر بهذا الشكل ووفق احتياجات تلك الدول النفطية فسيصبح من العبث أن نكيل الاتهامات لأداة دفع نقدية هامة ( الدولار ) لعمليات الشراء. لكن الأمر غير ذلك ..
فمع ظهور النفط أو البترول وبدون أي مجهود بشري يذكر من سكان تلك الدول، وزيادة عائداته لحد التخمة، حتى أن تفكيرهم السائد وحسب ما يمليه عليهم المذهب الوهابي يقرر: أن الله قد أعطانا تلك الثروة بالمجان وبدون مقابل، والواجب يحتم علينا " صرف " جزء منها خدمة لله ولدينه، ولمحاربة الكفر ونشر الرسالة.
ويمكن القول بأن اكتشاف النفط وزيادة عائداته السنوية، دون أن يصاحب ذلك أي مجهود بشري منهم كان الشرارة التي أضرمت نار الوهابية في مختلف بقاع الأرض من أجل الهدف الديني الذي نوهت عنه.
وبهذا الفهم يمكن مثلاً تخيل الحجم الحقيقي لزعيم القاعدة بدون ملياراته التي جاءت أساساً من حقول النفط. واعتقد أن القارئ يشاركني الرأي في تقييم منظمة القاعدة وفكرها التكفيري بدون مليارات صاحبها ومؤسسها وقائدها.
من هنا يمكن القول بأن جزء من عائدات البترول من الدولارات التي توزع هنا وهناك لها هدف ديني محدد، يسعون لتحقيقه عبر وسائل عديدة أهمها التخريب والقتل وبنشر مفاهيم منغلقة وقتل كل رغبة في التحرر والتجديد. لهذا السبب يجئ استخدام تعبير البترو- دولار، كأموال سهلة الحصول عليها تجئ من البلاد الدينية النفطية لغرض تحقيق هدف ديني. والمؤكد أنه يصبح من السهل وبتأثير تلك الأموال كسب الكثير من المنتفعين والأرزقية والشيوخ والجهلة وحتي قطاع من المثقفين لنشر "رسالتهم " والحث علي الجهاد كما يرونه بالقتل والترويع والانتحار.
حدث ذلك ويحدث في كثير من الدول بحيث يصبح قتل " أبناء الوطن " بعد إصدار فتاوى تكفيرهم، هو نوع من الجهاد في سبيل الحفاظ علي الدين ورفع شأنه. وضاع مفهوم الوطن بين التمسح الزائف بأصول عرقية " عربية " لا تنتمي من بعيد أو قريب لتلك الأوطان اللهم إلا في الجلباب الأبيض وغطاء الرأس وتكحيل العيون وترديد الكثير من المحرمات، ابتداء من النظرة المريضة للأنثى وضرورة نفيها عن جنسها بالحجاب والنقاب والختان، والأحسن سجنها داخل المنزل ومروراً بتكفير الآخر وعدم التعامل معه ثم حرق الأخضر قبل اليابس ...
والأشد مرارة أن كل ذلك يشكل في تفكيرهم المريض "إطاراً لمفهوم الحرية" - كما يرونها - والتي يجب أن تسود عنوة وعبر وسائل يحرمها الشرع والضمير الإنساني.
ويصبح الحديث عن "الحرية للجميع"، و"حق المواطنة"، و"حرية المرأة"، و"حرية التفكير والإبداع والتجديد"، يصبح كل ذلك ضروباً من الكفر والهرطقة، ولا يسمح بتداول مثلك تلك المفاهيم أو الحوار حولها.
وفي رأيي إن هذا التفكير - الموروث - كان أول مسمار تم دقه بجهل وغباء في نعش الحضارة المفقودة .. ..

للحديث بقية ..

...

أخر الكلام ... لنقرأ ونتدبر المعني والمراد ...

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة : 44]
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [يونس : 99]
وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود : 85]
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود : 118]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات : 13]
...
عادل محمود
22/06/2008

...


ليست هناك تعليقات: