الثلاثاء، يناير ٢٠، ٢٠٠٩

مصر أم الدنيا ..

.
.
مصر أم الدنيا .. تعبير يستهوينا أن نطلقه - نحن المصريون - علي بلدنا بسبب أو بدون سبب، أو كما نقول في مصر عمال علي بطال . أوقات كثيرة أشعر بالخجل أن نظل نردد مثل تلك المقولة دون أن يكون هناك سند حقيقي لها. مصر بلد جميل ورائع ويستحق منا مزيد من الحب والتقدير والفهم والعمل، لكن مثل تلك المقولة لها مساوئ عديدة، ولها وجهها الآخر المظلم والكئيب الذي قد يدفعنا دفعا للإصابة بالإكتئاب، والحزن لما وصل إليه حال مصر في العصر الحديث خلافا لما تحمله لتلك المقولة من معان.

لا أدري ما هو سر تلك المقولة ؟! هل هو الموقع الجغرافي المميز لمصر ؟! في الحقيقة ما من دولة إلا وتتباهي بموقعها الجغرافي المميز، والخطير والذي يتوسط الدول والقارات … الخ ما يتردد في مثل تلك الأمور. ليبيا تدعي ذلك ولديها من الأدلة والبراهين الكثير. المغرب والجزائر وسوريا ولبنان والسعودية والصومال وحتى مدغشقر والكويت والبحرين وساحل العاج وجزر البهاما …. الخ . الجميع لديهم نفس الحس والشعور بأهمية وخطورة موقع بلادهم الجغرافي، والتي ستقوم الدنيا ولن تقعد إذا مس هذا الموقع أي ادعاء بغير ذلك. والحقيقة أن كل ذلك من باب الدجل والضحك علي الذقون والعقول. فنسبية أهمية الموقع الجغرافي تلاشت الآن بعدما أصبح العالم بأجمعه أشبه بالقرية الصغيرة، وتستطيع أن تتنقل من هنا لهناك خلال ساعات قليلة. وستقصر المدة بالتأكيد مع التقدم العلمي وتطور وسائل الانتقالات.

أستطيع أن أفهم أنه لكل موقع جغرافي ميزة نسبية ما، تختلف تلك الميزة في اعتبارات كثيرة عما يتمتع به موقع آخر يملك ميزة خاصة به أو حتى يملك نفس الميزة. مثل هذا التفسير يصدقه ويقتنع به العقل ويتيح قدرا من الفهم السوي الذي يؤهلنا لقبول أننا نتكامل في المزايا ولا نتصارع حول أهميتها. علي كل هذا موضوع آخر !!!

هل هو التاريخ الضارب في عمق الزمن.؟! ربما نعم، وتحديدا هذا السبب، فهو مقنع لحد كبير. فتاريخ مصر ( القديم ) يعود لآلاف السنين حتى أن هيرودوت يقول في أحد جمله الجميلة والمعبرة: " الكون يهاب الزمن، والزمن يهاب الأهرامات. " وإذا كانت الأهرامات ترمز إلي - وتعني ضمن ما تعنيه - مصر، فبالتأكيد يمكننا أن نقول تلك الجملة علي النحو التالي: " الكون يهاب الزمن، والزمن يهاب مصر " هكذا افهم المعني المضاف لمقولة هيرودوت.

ذلك شئ طيب وجميل غير انه لابد لنا من الاعتراف بأن هناك حضارات قد سبقت الحضارة المصرية ربما بآلاف السنين. حضارة وادي الرافدين مثلا هي بعمر الزمن أعمق من الحضارة المصرية. كما أن ( حضارة وأهرامات الأنكا ) تعد حضارة أقدم أيضا بأمريكا اللاتينية.

من أين جاءت تلك التسمية إذن ؟
اعتقد أن انبهار الدارسين (للمصريات) هو أحد أسباب ظهور تلك التسمية. ففي الوقت الذي كان الظلام يخيم علي الكرة الأرضية بجميع دولها وسكانها. وهو ظلام بمعناه العميق، ظلام للروح والفكر، حيث كان القتال بين القبائل وبين الأفراد من أجل اصطياد فريسة أو حتى امرأة، هو الوسيلة الوحيدة لضمان استمرار العيش، وتلي ذلك القتال من أجل حقوق الرعي، وما تبع ذلك من تطور للنشاط الإنساني.

كانت مصر استثناء من كل ذلك ، فعبر تاريخها الفرعوني القديم وبتأثير النيل كشريان للحياة، ولعله الشريان الوحيد للحياة لمصر حتى الآن عرفت مصر الاستقرار في الحياة وتمثل ذلك بأسلوب إنتاج مميز وهو الزراعة. ذلك الأسلوب في الإنتاج أعطي خصوصية الاستقرار والدعة للمصريين. كما ظهرت بها الدولة ومؤسساتها سواء كانت دينية أو مدنية. وهي من أول الدول التي عرفت ووضعت أسس الري والبناء والطب والهندسة والدين أيضا .. الخ. كانت حضارة عظيمة رغم أنها عنيت لحد التأليه للحاكم (الإله). لكن هذا لا ينفي خصوصية الفرد المصري أو المواطن المصري وما تمتع به من حقوق في ظل حكم أولئك الآلهة، وأيضا ما رسم له بدقة من واجبات يناط تكليفه بها. بمعني أكثر تحديدا كان هناك وبجوار الاستقرار الذي - فرضته الزراعة كأسلوب إنتاج - نوع من دقة النظام والإدارة.

لي صديقة ألمانية (كاتبة وشاعرة) فاجأتني ذات مرة بالقول: أنها تشك بإصابتها بهذا الفيروس المسمي عشق مصر، وأعلم أنها (حالة) موجودة مع الكثير من الأجانب رغم الفارق الكبير معهم في مستويات الدخل والحضارة والثقافة. ومنذ مدة ليست بالبعيدة قرأت كتابا مترجما عن الفرنسية أسمه (مصر ولع فرنسي)، والكتاب جميل ويتحدث عن أمور كثيرة ولماذا مصر دائما ولع ووله فرنسي.؟! وهو لا يحاول خلط الأمور بل يسعى لإعطاء تفسيرات تتداخل فيها السياسة بالاجتماع بالتاريخ بالثقافة. وبالتأكيد هم لهم أسبابهم في هذا الافتنان وهذا العشق لمصر، والذي أستطيع أن أوجزه بأهمية وجود تأثير مادي ومعنوي للثقافة الفرنسية وعدم ترك الحقل بأكمله ترعي فيه الثقافة الإنجليزية ثم الأمريكية بطبيعة الحال.

كل هذا رائع وجميل ويدعونا – نحن المصريين - للشعور بنوع من الخدر اللذيذ، وبنوع من التباهي الأحمق في بعض الأوقات. وربما وقوعنا دائما في حيرة من أمرنا لحد التشوش والتخبط بين ماكنا عليه وما أصبحنا فيه. فتجد منا من يصرخ في غضب وأسي ومرارة: مصر أم الدنيا. الحقيقة التي لا جدال فيها أن مصر كانت أم الدنيا، أما الآن فنحن شئ آخر.

لنعد لمصر وتفسيري لتلك المقدمة الطويلة . ما أود قوله سألخصه بتلك الحكاية التي حدثت فعلا معي: كنت في زيارة أحد شركات الكمبيوتر، وصاحب تلك الشركة مهندس مصري شاب اختار أن يكون أصوليا تاركا لحيته. وفي أوقات فراغه كان يسجل مذكراته بالجزء الخلفي من دفتر كبير موضوع أمامه لتنظيم العمل بشركته. وكان تبدو عليه علامات الحيطة أن يري أحد تلك الكتابات. غير أنه في أحد المرات - وبعد أن تناقشنا في كثير من الأمور، ويبدو انه استراح لي - عرض علي ذلك الدفتر لأقرأه وأقول له رأيي. وجدته بأحد الصفحات يرسم نعشا وتحته يكتب بيت الشعر الشائع: كل ابن أنثي وإن طالت …. الخ. ثم كتب كثيرا عن الموت وعذاب القبر، وما ينبغي علينا عمله قبل الموت، وأعطي لنفسه الحق أن يتخيل نفسه واقفا أمام الجموع يعظهم ويهديهم. وفي صفحة أخري كتب عن همومه ومشاكله وعدم فهم الآخرين له، خاصة أخوه الأصغر الذي يعمل معه وكان علي خلاف معه في كل شيء بدءً من عدم وجود لحية له إلي نوع ملبسه. كان يراقبني في اهتمام بالغ، وينتظرني وهو علي أحر من الجمر لأقول له رأيي فيما قرأت. وحين انتهيت تنهد وسألني وهو يبتسم: إيه رأيك ؟ نظرت إليه ببلاهة ،وبالتأكيد كان فمي مفتوحا وعلامات الغباء والبله ترتسمان علي وجهي، غير أنني صارعت نفسي ووضعت ابتسامة بلهاء فوق وجهي وأنا أردد: عظيم. حلو. هايل. بس ايه الموضوع؟!!

من الواضح انه اكتفي بهذا التعليق. ويبدو لي انه فهم من كلامي وتأكد لديه بما لا يقبل الشك أن موقفه سليم وفكره رائع وكتاباته أكثر روعة مع انه لا يجيد – حتى - الرسم . وسرعان ما فاجأني بسؤال غريب ولم أكن أتوقعه: أتستطيع أن تقول لي من نحن؟! من أنا؟! ثم أعقبه بسؤال آخر: أيهما أهم ويجب أن أبدأ به، الذهاب لنصرة أخواني في حماس أو أفغانستان أو الشيشان أو أن أمد يد العون لجاري المسيحي إذا ما احتاجني في مساعدة .

وبقدر ما يتسم به السؤال من بساطة بقدر ما أشعر أن هذا السؤال هو مربط الفرس كما نقول، وأن معظم الأدمغة قد امتلأت بإجابات مغلوطة ومشوهة لهذا السؤال الهام. بالتأكيد انفكت عقدة لساني معه، ورحت أتحدث عن تاريخنا وأصولنا العرقية. وبإيجاز شديد قلت له: نحن مصريون سواء كنا مسلمين أو مسيحيين. ويكفي العرب ويكفينا فخرا أننا أخذنا منهم اللغة والدين. لكن هذا لا يجب أن يكون مبررا للخلط بين أصولنا المصرية وأصولهم العربية التي يتباهون بها لحد الهوس والحماقة، دون أن يشرفهم أن ننتمي إليهم في العرق. وهذا سبب كاف أن لا يشرفنا أن ننتمي لهم في تلك الجزئية فضلا عن صدقها. وبهذا التفسير فنجدة الجار المسيحي هي أولي وأجدر من ذهابك حيث تجاهد.

شعرت أنه أصيب بخيبة أمل وتوتر، فهو في النهاية إنسان متعلم وجامعي، ويستطيع أن يفهم الحقائق إذا ما وضعت أمامه بالشكل السليم. انتهت المناقشة بأن قال لي في حزن لا يستطيع إخفائه: إذن أنا لست عربيا. أنا مصري مسلم. قلت له مع كامل أسفى تلك هي الحقيقة التي أراها.
.
.

ليست هناك تعليقات: