السبت، يوليو ٢٨، ٢٠٠٧

8 - قراءة الشعر. تكملة قراءة قصيدة أصداء في ملكوت الصمت.

يظل الصراع بين الروح والجسد متواصلا ولكل أسلحته وفهمه . قد تضل الروح وقد تشرد وقد تهيم وقد تتخبط ، إلا أنها تظل – أبدا - موصولة بالجسد في أيا من تلك الحالات . ليظل الصراع الأبدي بينهما مستعرا ( تيه بين بين – الروح والجسد ).
نحن أمام قصيدة ذاتية – تماما - تصف نوعا من هذا الصراع ، صراع المعرفة مقابل الرغبة وحاجة الجسد . في هذا الصراع تتيه الروح لتقول كلمتها التي هي في الغالب أسئلة بلا أجوبة ، فيستمع الجسد وهو يراقب ويئن ويعلن عن ظمأه وشوقه لرشفة ماء ، وليس عليه - للخلاص - سوي أن يقتلع نفسه من تلك الروح المتمردة كثيرة الأسئلة . ليعود من حيث بدأ ليطفأ ظمأه ثانية . ثم يعاودان الكرة من جديد . تيه للروح ، فغربة وتساؤل ، ثم عطش وسراب – حتى يؤدي الجسد دوره لرحلة العودة ثانية . وتقديم إجابات منطقية عجزت الروح عن الوصول إليها . فالمكان هو نفس مكان البداية ، والظمأ يعرف الجسد كيف يرويه ....
حوار وفعل متبادلان بين الروح والجسد . يتم في صمت ودون أن تفصح الشاعرة عمن يقود من . أشبه بديالوج صامت . يتبادل الحوار فيه الروح والجسد ولغتهم هي الصمت ومزيد من محاولات الفهم .
العودة إذن هي عودة مادية للشاعرة لمكانها المعتاد – بعد أن شاهدت ولاحظت وراقبت – رحلة روحها وبحثها المتواصل ورصدت الحوار أو المنولوج الصامت بين روحها وجسدها وهما في حالة انفصال ...

حسناً . لن أنام
سأحاول تقرّي دروبي
و معرفة ما يطويه الظلام
سوف أدخل هذا الزحام
خطوة
خطوتان
ثلاث
فقاعة آولى ...
حطام
فقاعة ثانية ...
ركام
فقاعة ثالثة ...
أوهام
من سيكون شاهداً عليها
سوى الأموات؟

ولأنها روح متمردة وباحثة عن الحقيقة ، فقد قبلت التحدي بالبحث ومعرفة ما يطويه الظلام من مخاوف ومجاهل فقررت أن يكون التيه هذه المرة نوعا من التحدي بدخول ( الزحام ) . زحام البشر ، ربما . زحام الكلمات والصراخ والضجيج ، ربما . وربما كان هذا وذاك . فتعاود الكرة برحلة أو تيه جديد . ولأنها واعية بما هو الزحام ، وما هي الظلمة وما تبعثه من مخاوف - رغم رغبتها في المعرفة - فقد قررت أن يكون التيه أو الرحلة لهذه المرة لثلاث خطوات فقط .
ماذا وجدت ؟!! أو ماذا عرفت ؟ أليس هذا ما تريد ؟ المعرفة !!
خطوة أولي كانت هي الفقاعة الأولي مجرد حطام . اقتربي أكثر، فقد تعرفين أكثر . وتقترب خطوة ثانية ، فلا تجد سوي الفقاعة الثانية ، وكم من الركام .
لابأس فلديك الخطوة الثالثة والأخيرة . وتخطوها فلا تجد سوي الفقاعة الثالثة ومزيد من الأوهام ..... هل بإمكان ثلاث خطوات أن تطوف بنا في كل تلك العوالم المتهالكة من الحطام والركام والأوهام ؟!!! عبور المكان والتنقل بحرية من مكان لأخر ، وما يعني ذلك ضمنا من التنقل أيضا عبر الزمن . لا يقدر الجسد الإنساني علي ذلك أو علي تحمله . وهي تفطن لذلك فتقرر بأن الأموات وحدهم هم شهود تلك العوالم . هل هذا صحيح ؟ نعم . فالموت لا يعني أبدا موت الروح بل يعني - ضمن أشياء كثيرة يعنيها – أن الروح ستحرر من سجنها وسجانها ( الجسد ) بحيث تصبح طليقة وحرة وسابحة عبر المكان والزمان ومهما كان البعد والاختلاف بين المكان والزمن .!!!

و إذا صدقت رؤيتي ، فيمكنني القول أن الشاعرة كتبت قصيدتها وهي واقعة تحت تأثير مؤثر قوي ، والأغلب أنها كانت معاناة جسدية ونفسية هائلة أطاحت باتزانها الظاهري فلم يتبق لها من وسيلة للمعرفة والتواصل والتناغم سوي تيه روحها ما بين عوالم الصمت والظلام للبحث والمعرفة وإيجاد اتزانها المفقود .
ولأن روح ( الشاعرة ) روحا تبحث عن السمو والمعرفة والاتزان الضائع ( سأحاول تقرّي دروبي و معرفة ما يطويه الظلام) فقد أحست أنها خدعت بعدما حلقت في سموات تلك الممالك الثلاث ولم تجد شيئا يستحق الذكر . بل عوالم من الزيف والخديعة والوهم والركام ، لعله عالم الخيال الذي نعيشه ولعله صدقا عوالم مادية نعيشها . وكأنه تأكيد للانفصال الروحي وما يعنيه من عذابات . فقاعات تتوالي وجميعها فارغة من أي مضمون أو معني . حتى أن الشاعرة تجد نفسها داخل فقاعة للكلام !!! الكلام بما يعنيه من تواصل بين البشر وما يرسمه من أشكال للحقيقة والخيال ، للكذب والصدق ، للمعني والعدم . تخيل معي أن الكلام أصبح للبشر هو مجرد أصوات تصدر دون أي معني أو قيمة . فلا تملك سوي أن تردد بأسف أو ( بغباء ) أن الرحلة أو التيه لم تكن سوي ولوجا داخل فقاعات تتداخل ببعضها وجميعها فارغة وتافهة بلا مضمون أو معني . هل يمكنني القول بأن ما اكتشفته كان أمرا متوقعا - علي الأقل بالنسبة - لها ؟ وأن العوالم التي نعيشها أو نهاجر إليها بأرواحنا هي محض ركام وأوهام وزيف . ومن هنا كان الشعور بالغباء . وكأنه نوع من معاقبة النفس والروح فلا جديد يمكن أن يأتي ، بل مزيد من انفصال الفكر عن الواقع ، والخيال عن الحقيقة . وكأنها تؤكد ما هي عليه من انفصال بين روحها وجسدها .
ثم هي تقرر أن تترك قيادها إلي الجسد . والجسد منهك ومتعب وصامت . فما تفعله الروح يؤثر حتما بالسلب والإيجاب عليه . فلا مفر بالنسبة للجسد من النوم . لعله يستريح ولعل تلك الروح القلقة والمجهدة من البحث والتقصي تأخذ قسطا من الراحة أيضا . حل سهل ومجاني وبه الضمانة الأكيدة لعودة الروح والجسد للالتقاء والراحة . المؤكد أن الروح في تلك المرحلة لها من القوة والسطوة والتأثير علي الجسد الكثير . فهي لا تستسلم لكل صراخه الصامت ولا لاعتراضاته ، فهي التي تقرر بداية عدم النوم ثم مواصلة البحث وحتى اجتيازها عتبات عوالم الزيف ثم تسليمها بكل ذلك . وكأنها تقول له بأسي ، بعد تلك الرحلة المضنية وذلك الانفصال المتعب في كل شيء : هيا يا صاحبي لقد خدعت . هيا لنستريح قليلا . فيجيبها فرحا : هيا إذن لننام فالنوم خير ترياق لنا. لكنها كانت تسعي لشيء أخر . يظل مسعاها في البحث والمعرفة حتى أثناء النوم ، وعبر الحلم الذي قد يعوضها عما وجدته من خديعة وزيف. النوم للروح هو مواصلة للبحث عبر الأحلام وهو في نفس الوقت أمر لازم لراحة الجسد المنهك .
كيف تكون أحلام مثل تلك الروح الشاردة . هي أحلام أشبه بالكوابيس ، لكنها كوابيس لها معني ، ولها في الخيال وجود ، ومن رحلات الروح تستمد رصيد كبير من الذكريات . أحلام بالكاد تأتي لكنها غير كافية لتشيع جنازة فجر قتيل أو ميت ، لا يهم فهو في كل الأحوال لن يأتي . صور يختلط فيها الخيال برصيد من الذكريات والتجارب المرة فترسم لنا الشاعرة جنازة لفجر لا يأتي ، وأحلام تتساقط مثل المطر قبل الأوان ، ويقظة للفجر وعلي خده قطرة حمراء .
يالها من وسيلة قاسية لمعاودة البحث عن الإتزان الضائع ويالها من وسيلة رائعة لراحة الجسد والروح
..

ليست هناك تعليقات: